#تأملات_قرآنية د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 58 من سورة الأعراف: “والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ”.
لطالما أبهرتني بلاغة الحذف التركيبي في القرآن عند المقارنة بين متقابلين، ففي الجملة الأولى من هذه الآية يضرب الله تعالى مثلا للنفس الطيبة بالبلد الطيب، ليذكر المقابل في الجملة الثانية والذي يفترض أن يكون البلد الخبيث، لكنه حذف ذلك وجاء بصيغة الفعل (خبث) للدلالة على أن الخبث هنا فعل اختياري وليس من صميم تكوين النفس التي فطرها الخالق على الطيبة.
كما ذكر في الأولى (يخرج نباته)، لكنه في الثانية استعاض عن ذكر النبات بالإشارة اليه بـضمير مستتر هو فاعل للفعل المضارع (لا يخرج)، ويعود على النبات.
ودائما ما يؤكد القرآن هذه السنة الكونية فيقول تعالى: “قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [آل عمران:26]، فهل يعني أن الخير فقط هو الذي بيده والشر بيد آخرين؟، طبعا كل شيء بيده ولا يتم إلا بإرادته، لكنه يقصد أن الخير كله منّة وعطاء منه، أما الشر فلا يختاره لعباده، وإنما هو متحقق كحصائد لأعمالهم غير الصالحة.
ويؤكد ذلك قوله تعالى: “مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ” [النساء:79].
يضرب الله لنا في هذه الآية مثلا من الواقع، في تشبيه النفس البشرية الصالحة بالأرض الطيبة التي تنبت خيرا، فيما لايخرج من النفس التي انتهجت منهج السوء غير المخرجات الضارة.
لذلك أراد الله أن تبقى النفوس على الفطرة الطيبة التي فطرهم عليها، وليس من وسيلة لذلك أنجح من التقوى، وليس من سبيل لدوام ذلك إلا بالإيمان، والإيمان يعظم ويرتقي بمقدار علو الهمة ومضاء العزيمة.
تحمل الشدائد والصعاب مقياس عزائم النفوس، وكلما كانت المسئولية أعلى كلما كانت إمتحانات التأهيل أصعب، ومتطلبات النجاح أعلى، فتأهيل سائق السيارة الصغيرة وامتحان مؤهلاته وقدراته، ليست بالقدر الذي تتطلبه قيادة الحافلة، ولقيادة طائرة فإن المتطلبات تصبح أعلى بكثير، وترتفع إلى درجة قياسية في حالة قيادة السفينة الفضائية.
حتى بين الأنبياء الذين يتمتعون بمواصفات مثالية، لا يحوزها غيرهم من البشر، كان بينهم تفاوت، فسمي خمسة منهم “أولو العزم”، كانوا أشدهم صبرا، لأنهم اكثرهم تعرضا للأذى والشدائد، ومن بين كل هؤلاء، كان خاتمهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، الأصلب معدنا والأقسى تحمّلا.
لقد تم تأهيله منذ نشأته لتحمل الصعاب، وكان من تقدير الخالق عز وجل في سابق علمه أن ينشأ أميا لا يقرأ، فأفرغ حيزه العقلي ليتسع للحمل الثقيل المتأتي من العلم الإلهي: “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ” [المزمل: 5]، فلا يختلط معه شيء من علوم البشر البدائية آنذاك، ولا من هذر الفلاسفة الأقدمين، فنزل القرآن العظيم في روعه مباشرة، طوال ثلاثة وعشرين عاما، كانت تنزل الآية والآيتان أحيانا، وقد تنزل سورة كاملة أحيانا أخرى، إنما في الغالب كان نزولها ُمنجّما متوافقا مع حالة قائمة أو إجابة على تساؤل راهن، تشير الى تأويلها، وكان يرافقها علم بموقع هذه الآية مما قبلها أو بعدها، فكان يوصي كتبة الوحي الأمناء بتثبيت موقع كل آية حتى اكتمل، وبالكمال الذي لا يبارى، وبتلك الدقة الفائقة.
لقد تم بناء كيان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمواصفات مذهلة اكتملت فيها الشخصية المثالية، فكيف لا وهو سيتحمل ما لا تستطيعه الجبال: “لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ” [الحشر:21]، فحمل هذا الجسد البشري كل هذا الحمل العظيم، لأن نفساً عظيمةً تسكنه.
هكذا النفس الطيبة كالأرض الطيبة تنبت خيرا عميما، وكذلك يفعل الإيمان، فهو يرفع القدرات البشرية بلا حدود، فتحمل النفس ما لا يمكن حمله.
وهذا تفسير ما أذهل العالم، فالعدوان على غـ ـزة كان لتزول منه الجبال، وفعلا أزال أضخم المباني، لكن النفوس المؤمنة على قلة عددها وعدتها لم تتأثر، بل تحملت وصمدت، بالمقابل انهزمت قيادات الجيوش العربية قبل القتال لخلوها من الايمان والتقوى.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تأملات قرآنية
إقرأ أيضاً:
في ذكرى تحرير سيناء .. «أرض الفيروز» تجلى فيها نور المولى وعبر منها الأنبياء
تحل اليوم، الجمعة، الذكرى الـ43 على تحرير سيناء، ولأرض الفيروز مكانة خاصة تاريخية ودينية، فهي أرض ذكرت فى القرآن الكريم، وترابها يحمل آثار أقدام أنبياء الله ورسله، وبين كثبانها أماكن مقدسة تحمل لنا حكايات مباركة.
هنأ الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ورجال القوات المسلحة البواسل، قيادةً وضباطًا وجنودًا، وكافة أبناء الشعب المصري، بمناسبة الذكرى السنوية لتحرير سيناء.
تحرير سيناء ذكرى محفورة في وجدان المصريينوأكد شيخ الأزهر في تهنئته، أن هذه الذكرى ستظل محفورة في وجدان المصريين، باعتبارها واحدة من المحطات المضيئة في تاريخ الوطن، والتي تجسد أروع معاني البطولة والتضحية والإصرار على صون تراب مصر وعدم التفريط في شبر من أرضها، مشيدًا بما قدمه جنود مصر الأوفياء من تضحيات عظيمة في سبيل استعادة الأرض وتحقيق الأمن والاستقرار.
وشدد على أهمية أن تمثل هذه المناسبة العزيزة مصدر إلهام للمصريين جميعًا، ودافعًا للاستمرار في مسيرة البناء والتنمية، واستحضار روح النضال والعزيمة في كل ما يخص رفعة الوطن ومستقبله.
واختتم شيخ الأزهر كلمته بالدعاء بأن يحفظ الله مصر من كل شر وسوء، وأن يديم عليها نعم الأمن والأمان والسلام والاستقرار، وأن يكلل جهود أبنائها بالنجاح في كل ما فيه خير الوطن وعزته.
تحرير سيناء شاهدً خالد على عزيمة المصريينوجّه الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، التهنئة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء، مؤكدًا أن هذه المناسبة تظل شاهدًا خالدًا على عزيمة المصريين، وتضحيات أبطال القوات المسلحة الذين أعادوا للأرض كرامتها وللوطن مجده.
محطة مضيئة في الذاكرة الوطنيةوأشار وزير الأوقاف إلى أن يوم 25 أبريل سيبقى محطة مضيئة في الذاكرة الوطنية، نستدعي فيها مشاعر الفداء والانتماء، حين سطّر أبناء الوطن ملحمة لا تُنسى، جسّدت أن الحقوق لا تُستعاد إلا بالتضحيات، وأن قوة الإرادة قادرة على تجاوز كل التحديات.
ونوّه الدكتور أسامة الأزهري، بأن القوات المسلحة المصرية ستظل الحصن المنيع لهذا الوطن، بسواعد رجال أوفياء صدقوا عهدهم مع الله، وواصلوا الليل بالنهار دفاعًا عن تراب مصر وحدودها، مشيرًا إلى أن انتصارات أكتوبر وروح تحرير سيناء ما زالت حيّة في وجدان كل مصري، تلهمه بالإصرار في مواجهة التحديات.
واختتم وزير الأوقاف بالدعاء أن يحفظ الله مصر وشعبها وجيشها وقيادتها، مشيدًا بوعي الشعب المصري وتماسكه مع مؤسسات الدولة من أجل استكمال مسيرة البناء والتنمية، والوصول إلى مستقبل يليق بمصر وتاريخها.
منزلة سيناء الخاصة
قال الدكتور الراحل محمد وهدان، العالم الأزهري، إن أرض سيناء الوحيدة التي تجلى الله عليها، حينما نزل الله تعالى على جبل الطور، مستشهدًا بقوله تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» الأعراف 143.
وأكد العالم الأزهري، في تصريح سابق له، أن لسيناء منزلة خاصة، فقد ذكرت بالقرآن في سورة التين حين قال تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ».
وأوضح «وهدان» أن الله تعالى يقسم في بداية السورة بالتين والزيتون وهما من منتجات سيناء، ثم يقسم بجبل الطور وبنسبه إلى سيناء "وطور سينين" ثم يقسم بمكة البلد الأمين، ونرى هنا أن سيناء جاءت في الترتيب قبل مكة - بالرغم من مكانة مكة العظيمة.
وأضاف أن أرض سيناء كانت مسرحًا لقصة موسى عليه السلام حين كلمه الله تعالى، مشيرًا إلى أنه توجد أربعة مشاهد في قصة موسى، كلها عند جبل الطور في سيناء وهى: الوحي الأول حين ناداه ربه لأول مرة، ثم تلقى الألواح، ومجىء موسى بسبعين رجلًا من قومه للتوبة عند الطور، فأخذتهم الرجفة، وأخيرًا أخذ الميثاق عليهم حين رفع جبل الطور فوقهم، مستشهدًا بقول الله تعالى: «وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا».
وألمح إلى أنه لا يعرف الكثيرون أن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- حط قدميه الشريفتين على أرض مصر خلال رحلة الإسراء والمعراج، التي أسرى الله بها بحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- في 5 أماكن، طلب منه جبريل أن يصلي فيها، ومنها طور سيناء.