سودانايل:
2024-07-01@22:33:25 GMT

قنَاصه !

تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT

عدنان زاهر

صدرت الأوامر واضحة لقُناص الفرقتين المتحاربتين، و بصورة لا تقبل التأويل أو الجدل و هي ( ان يطلق القناص النار على اى شيء متحرك في اطار مرمى بندقيتهما الحديثتين و التي صممتا خصصيا للقتل و القنص ).

ولكن بالنسبة لقناص الفرقة الأخرى فقد كانت أوامره أكثر تحديدا و دقة ( يجب ان تكون الأصابة في الرأس ، القلب أو الأمعاء ).

كانت المنطقة المقصودة بالأوامر هي الحد الفاصل بينهما و المتنازع عليها.

عندما صدرت تلك الأوامر عند قيام الحرب، لم يكن سكان الحى و المغادرين للمنطقة على علم بها ، خاصة " الدابى " الذى اصر على المكوث لإطعام حيوانات سعيته

لا أدرى لماذا لقب في حلتنا ب ( الدابى ) بالرغم من أن الحكاوى الشعبية المتداولة تصف الدابى بالغدر، الخيانه و الشراسة ، لكن العارفين بالغابة يقولون ان غدره و شراسته مرتبط بخوفه و محاولات حماية نفسه.

صفات " دابى " حلتنا قد كانت تتناقض مع صفات ( الدابى ) الحقيقي فهو رغما عن ضخامة جسده ووجهه المتسم بالجدية الا أنه طيب القلب ، متسامحا و يكره الغدر لكنه لا يقبل الحقارة.

كان كريما كجده ( الكمنده ) الذى عمل بالسكة حديد حتى تقاعده و إنشائه " سبيلا " و " قدرة " فول للعطشى و الجوعى المارين بمنزله. لكن بعض الناس يقولون إن الاسم أطلق عليه بعد عراكه المشهور مع " كبشور " و هي قصة صارت دعاء على المفتري و مثلا شعبيا جاريا في الحى.

القصة كما يرويها البعض باختصار هي كالآتي، فقد عمل كبشور المتحور من صبى " مكوجى " الى سائق " ركشة " يمتلكها ، على استفزاز و إساءة " الدابى " دون سبب أو مبرر. لكن المتعارف أيضا عن كبشور تهجمه و اعتداءه على الغير لإبراز قوته ، سطوته و سيطرته على الآخرين، و لذلك السبب كان مكروها من عامة أهل الحى..... كما يضيف الغاضبون عليه، ان امتلاكه لركشة جاءت من عمله السرى في الممنوع و الحرام.

الحدث تم في الصباح الباكر عندما كان الدابى يشرب قهوة الصباح امام دكان صديقه جابر الخضرجى. دون سبب جاء كبشور الى المكان ثم قام بإساءة و استفزاز الدابى، حاول الدابى تجاهله و تفاديه بكل الطرق لكن ذلك السلوك المتزن و المتصف بالوقار جعل كبشور يتمادى في فعله ،عندها لم يجد الدابى بدا عن الدفاع عن نفسه.

تفاجأ كبشور بضرب الدابى المبرح له، ولم يجد بد من الصياح خوف الهلاك، لكن المتواجدين ذلك الصباح تجاهلوا صياحه عمدا نكاية فيه، و لم يهبوا لنجدته. عندها فقط تدخل صديق الدابى الخضرجى " جابر " لفض العراك ليس حبا فى كبشور و لكن خوفا من موته على يد الدابى.....يقولون ان " كبشور " أختفى لمدة أسبوع من السوق ثم ظهر بعد ذلك ذليلا و منكسرا. من ذلك العراك استمد الدابى لقبه و من ثم سريان المثل الشعبى الذى يقول ( أنشاءالله يدقوك دقة الدابى لكبشور ) !

لم تُعرف مهنة محددة للدابى لكن الثابت إنه بعد اكمال المرحلة المتوسطة عمل في دكان والده الصغير في الحى الذى كان في الأصل غرفة من منزل الأسرة، ثم ورث العمل و الدكان بعد وفاة والده.

الدابى لم يكن يرد طلبا لمحتاج حضر لدكانه ، كان يتأبط معه المثل المنسوب للحكيم الشعبى ( فرح ود تكتوك حلال المشبوك ) و الذى يقول ( التاجر يتم ميزانو ، و يحلى لسانو ، شوف أكان ما اتملأ دكانو ).....توسعت تجارته التي تلبى احتياجات الحى، و لم تنقص بضاعته في كل الظروف.

ورث من جده لوالدته و أسرتهم الممتدة تربية و " سعية " الحيوانات من اغنام ، خراف ، أرانب ، بط ، دجاج....و غيرها، لكن لخبثاء الحى و حساده رأيا آخر، فهم يقولون ان تلك الهواية فرضت عليه فرضا، لأنه كان عقيما و لم يستطع الانجاب رغم زواجه المتكرر !

البرنامج اليومي ل ( الدابى ) كان معروفا للجميع، يصحو مبكرا لتفقد " قدرة " الفول التي قام بوضعها على النار ليلا و معرفة مستوى نجاضه ، بعد ذلك يذهب لأداء صلاة الفجر في جامع السوق الصغير ثم يشرب قهوة الصباح عند صديقه جابر الخضرجى الذى يكون قد جهزله صفق البصل الأخضر، الخضروات التالفة ل " سعيته " ، و لم يكن جابر يأخذ نقودا مقابل ذلك، بل هي عربون للصداقة التي امتدت بينهما لسنوات طويلة.

من دكان جابر يتجه لدكاكين ( التشاشه ) لشراء الفول و التوابل و أي احتياجات أخرى قبل الذهاب الى المنزل، و فتح الدكان في تمام السادسة و النصف لاستقبال أفواج طلبة الحى الذاهبين الى مدارسهم لشراء الإفطار المكون في العادة من سندوتش الطحنية او الفول " المظبط " الذى اشتهر الدابى بطهيه. كان الأطفال يحبون ( عم الدابى ) كما ينادونه، لتعامله الأبوي، ودُه و الاستجابة دون ضجر لطلباتهم الملحاحة.

كانت الحياة تسير بهدوء و بوتيرتها العادية عندما صحى الدابى فجأة في الصباح الباكرعلى صوت طلقات و دانات عالية ثم صراخ مروع في الشارع ، فتح الباب ليشاهد من جاءوا لأداء فريضة الصلاة و هم يتراكضون في اتجاهات مختلفة و يتصايحون هربا من الرصاص المتطاير و مؤشرين له بعدم الخروج.

لزم منزله و لم يقم بفتح الدكان اتقاء للرصاص المنهمر كالمطر ، مع سماعه لأصوات انفجارات لم يسمعها في حياته من قبل. مكث عدة أيام في المنزل عندما حضر اليه بعض من أهل الحى طالبين منه المغادرة معهم...رفض نصيحتهم في رفق لكن فى إصرار، و هو يقول لن يترك " سعيته " تموت جوعا.....ذهبوا تاركين له و مغادرين.

بدأت حيواناته في الصياح من الجوع بل نفق بعضها، فهو لم يطعمهم لعدة أيام و لحسن حظه فقد كان خريف ذلك العام وافر المطر و عمل على نمو الأعشاب في الخور الذى يجاور منزله. أحضر " منجلا " كان يمتلكه و ذهب للخور لقطع الأعشاب لحيواناته الجائعة. بعد مدة من الزمن نفدت الأعشاب المجاورة لمنزله ،و لم يكن امامه من خيار سوى الذهاب للخور الأكثر بعدا لجلب مزيد من العشب.

كان قد فرغ لتوه من ملئ كيسه الصغير بالأعشاب الطرية، ومستعدا للعودة الى منزله فرحا بإمكانية اطعام حيواناته، عندما دوت أصوات الرصاص المنطلقة من قناصين الطرفين.

" الدابى " كان يقطع عشب الحياة من الشريط الفاصل .... . سقط على الأرض.......و العشب الذى قام بجمعه طوال ساعات، يتخضب بالدماء المندلقة على الخور ، و يتناثر في اتجاه الرياح !!

عدنان زاهر

مايو 2024

elsadati2008@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم یکن

إقرأ أيضاً:

المساندة الشعبية

عندما تنتفض الشعوب لا يمكن أن يقف أمامها عائق، والدليل على ذلك ثورة 30 يونيو، التى سطر خلالها المصريون ملحمة خالدة للحفاظ على هوية الوطن، وغيروا مجرى أحداث التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، وكتبوا بأحرف من نور مسار ميلاد جديد من مسارات العمل الوطنى الخالص.

كان استرداد الدولة المصرية من الجماعة الإرهابية طريقاً محفوفاَ بالمخاطر، اقتحمه الرئيس السيسى مدعوماً بمساندة شعبية قوية لإنقاذ وطن من الانهيار، والتصدى لمخططات الزج به فى طريق الفوضى.

وحفرت الأيام الممتدة من 30 يونيو إلى 3 يوليو عام 2013، أحداثها فى التاريخ لما حملته من دلالات ومعانٍ بعد إنقاذ مصر من حكم جماعة سرية متطرفة تتاجر بالدين وبالوطن، فغرقت البلاد فى حالة من التخبط والانهيار السياسى فى ظل حكمها لافتقارها لأى رؤية مستقبلية لإنقاذ الأوضاع المتدهورة.

إن مشهد 30 يونيو الذى شاركت فيه كل فئات الشعب المصرى بنزولهم إلى الميادين والشوارع للمطالبة بإسقاط حكم المرشد تحول إلى طوق نجاة أنقذ مصر والمنطقة العربية من مصير فوضوى محتوم، واتخذت الدولة المصرية خلال السنوات الماضية العديد من الخطوات الجادة فى سبيل إصلاح وإعادة بناء الوطن مرة أخرى بعد سنوات الدمار للقضاء على آثار سنوات الفوضى التى عاصرناها من خلال العمل على تحقيق الاستقرار السياسى.

لم يكن الحراك الاجتماعى الإيجابى أن يتم دون الحماية التى وفرها الجيش المصرى للشعب الذى وقف بجانبه وحمى ظهره عندما استمع إلى مطالبه بتدخله.

ستظل ثورة 30يونيو رمزاً لقوة الإرادة الشعبية والوقوف بقوة أمام المخططات الإرهابية التى كانت تحاك وتهدد مصر والمنطقة بأسرها، كما كشفت الوعى الذى يتمتع به المصريون ونضجهم الفكرى والسياسى، كما أظهرت الثورة شجاعة قائد وطنى عظيم هو الرئيس عبدالفتاح السيسى، وستظل هذه الثورة عنواناً للإرادة المصرية القوية التى لا تقهر، وترسخ لقاعدة أزلية هى أن مصر محفوظة بعناية الله وسواعد أبنائها الأبطال منذ فجر التاريخ حتى الرئيس السيسى الذى أنقذ الوطن فى أحلك الظروف التاريخية، لأنه قائد وطنى شجاع انحاز لصوت الشعب وتحمل عواقب القرار ببسالة لينتقل بمصر من حالة اللادولة والفوضى إلى استعادة دورها الطبيعى فى محيطها.

مقالات مشابهة

  • المسئولية.. والواجب الوطنى
  • الفساد للرُكب
  • «دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال»
  • المساندة الشعبية
  • في ذكرى يوم عظيم
  • يرحم الله المعلم الكبير مصطفى شردى
  • التعديل الوزارى
  • المناظرة «راكبة جمل»!
  • للتاريخ.. ليس كل ما يعرف يُقال
  • ثورة ٣٠ يونيه.. والإخوان المسلمين