مؤتمر القاهرة وفرص السلام في السودان
تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT
مؤتمر القاهرة وفرص السلام في السودان
محمد جميل أحمد
تبدو مآلات الحرب السودانية اليوم أكثر خطورةً من أي وقت مضى، في ضوء المعطيات المخيفة التي كشفت عنها تلك المآلات؛ من شبح للمجاعات وانهيار الدولة المركزية وما يترتب عن ذلك الانهيار في منطقة جيوسياسية يجاور فيها السودان خمس دول شهدت حروباً أهليةً طاحنة، إلى جانب المخاطر الأخرى التي يمكن أن تترتب عن انهيار الدولة في السودان، من مظاهر الجريمة المنظمة، والهجرة السرية، والإرهاب ، فضلاً عن وصول أوضاع الاقتتال الجارية الآن إلى الحرب الأهلية الشاملة.
تلك المآلات ستعني بالضرورة أن مصالح كبرى لدول عالمية وإقليمية ستتضرر وهي مصالح لا يمكن غض الطرف عنها في ظل التشابك الحيوي الذي كشفت عنه طبيعة التجارة الدولية اليوم، إلى جانب التوازنات الجيوسياسية التي ستضطر تلك الدول إلى البحث عن حل للأزمة السودانية، بالرغم من انشغال العالم اليوم بحربين؛ الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب إسرائيل في غزة .
وتبدو كل من مصر الولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان المعنيتان أكثر بخطورة مآلات الحرب السودانية على مصالحهما الأمنية والجيوستراتيجية.
فمن ناحية تدرك الولايات المتحدة، أن هناك أكثر من سبب يدفعها إلى البحث عن حلول للأزمة السودانية، فالحرب في السودان اليوم لا تشيه أي حرب أهلية في أفريقيا. فالصومال الذي انهارت فيه الدولة منذ العام 1990 لم يكن سوى طرف على هامش القرن الأفريقي، وليس لموقعه الجيوستراتيجي تلك الخطورة التي يمثلها الموقع الجيوسياسي للسودان، فضلاً عن أن هناك دواع أخرى تجعل من الولايات المتحدة معنيةً بوقف الحرب في السودان على نحو خاص، ذلك أن الولايات المتحدة قد أدركت تماماً أن رغبة الشعب السوداني في الديمقراطية والدولة المدنية رغبة صادقة، ولاحظت أمريكا تلك الرغبة عبر وفرة من المعطيات التي عكسها المشهد السياسي في السودان منذ العام 2019 سواءً عبر اسقاط الجنرال عمر البشير في أبريل العام 2019 أو في مقاومة عملية فض اعتصام القيادة العامة في يونيو من العام ذاته، أو في رفض انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي واجهه الشعب السوداني بمظاهرات انطلقت منذ اليوم الأول للانقلاب وظلت مستمرةً لأكثر من عام لم يستطع فيه الانقلابيون تكوين حكومة ولا تسيير دولاب العمل العام بسبب تلك المظاهرات التي دفع الشعب السوداني فيها أكثر من 120 شهيد وشهيدة من خيرة أبناء الشعب السوداني، حتى اضطر الانقلابيون للتوقيع على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022 مع القوى السياسية، لكن سرعان ما انكشفت رغبة الجيش وحلفائه من عناصر النظام القديم في تفجير الوضع السياسي باندلاع حرب 15أبريل 2023 التي لاتزال مجرياتها راهنة.
ومن جهة أخرى تدرك مصر مآلات خطر الحرب في السودان على مصالحها القومية وعلى رأسها الأمن المائي الذي يعني أن وضعاً آمناً في السودان هو ضرورة استراتيجية لأمن مصر القومي، ولقد ظهرت هذه الحاجة على نحوٍ ملح مع بروز تلك المخاطر التي المذكورة لمفاعيل الحرب في السودان، لذلك تبدو مصر اليوم أكثر من أي وقت مضى استعداداً للبحث عن سلام في السودان والبحث جدياً عن ما يضمن حماية مصالحها الأمنية الجيوستراتيجية هناك.
ولعل الدعوة إلى مؤتمر لحوار سوداني سوداني في القاهرة يوم 30 يونيو تعتبر أبرز العلامات التي تعكس حرص مصر في ضوء معلومات سربتها الولايات المتحدة للأولى محذرةً لها من أن وضع الحرب في السودان بحلول شهر يوليو قد يصل إلى نقطة اللاعودة وعلى نحو يعكس خطورةً شديدة على أمن مصر ودول المنطقة.
ولقد ترافق مع تلك الجهود من أجل البحث عن السلام في السودان حدث كبير هو قيام المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بقيادة رئيس وزراء حكومة الثورة د. عبد الله حمدوك، في أديس اببا بين يومي 27 – 30 مايو الماضي وهو مؤتمر حشد كثيراً من القوى الحزبية والنقابية ولجان المقاومة والإدارة الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، وعكس التمثيل فيه طيفاً واسعاً للمجتمع السياسي السوداني، ونرجو أن يكون لنجاحه اللافت دوراً كبيراً في تعزيز الحل السياسي بالوصول إلى اتفاق ينهي الحرب في السودان ويعزز قيام حكومة مدنية، لاسيما وأن تنسيقية (تقدم) قد أعلنت موافقتها المبدئية على المشاركة في مؤتمر الحوار السوداني السوداني بالقاهرة في 30 يونيو الجاري.
*نقلا عن صحيفة عمان
الوسومحرب الجيش والدعم السريع سلام السودان مؤتمر القاهرة للحوار السوداني مصر
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: حرب الجيش والدعم السريع سلام السودان مصر
إقرأ أيضاً:
مقاربة بين "ذات الرداء الأبيض" والوضع السوداني الراهن
أحمد عمران
في عالم الأدب الإنجليزي، تُعد رواية "ذات الرداء الأبيض" للكاتب ويليام ويلكي كولينز واحدة من الأعمال المبدعة التي تروي قصة فتاة تُدعى ألين، التي تجد نفسها ضحية لمؤامرة مُعقدة تهدف إلى الاستيلاء على ثروتها. تُخفي هويتها الحقيقية، وتدمَّر حياتها، ويعتقد الجميع أنها فقدت ذاكرتها. ومع توالي التحقيقات، تكشف الحقائق عن أنَّ ألين كانت ضحية تلاعبات سياسية واقتصادية قذرة، حيث يكشف السعي الحثيث للسيطرة على ثروتها عن الأطراف المتآمرة خلف هذه المؤامرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تُعكس رواية "ذات الرداء الأبيض" في نسختها المعاصرة الوضع السوداني الراهن؟ هل يُظهر تدمير السودان على يد مؤامرات مدبرة، مختبئة تحت "الكدمول" في السياسة السودانية، والذي ارتداه كثيرٌ من المتآمرين في محاولة يائسة لتمويه هوية الأمة السودانية؟
الكدمول هو رداء قاتم مُغطى بالظلام فرضته قوى محلية وإقليمية بغية طمس حقيقة السودان الغنيّة بالتاريخ والثقافة والموارد. لقد تمَّ تدمير هذه الأرض التي تزخر بالكنوز من أجل مصالح شخصية وفئوية ضيقة، وأصبح هذا الكدمول قناعاً يُخفي وراءه أطماعاً أكبر، تماماً كما كانت "ذات الرداء الأبيض" تظهر في الرواية كشخصية ضائعة أو فاقدة الذاكرة، يُحاول أصحاب الكدمول اتلاف الإرث السوداني وسجلاته ومكتباته ومُقتنياته ضمن مؤامرة كبيرة تم التخطيط لها بعناية. هذا الرداء الكئيب يرمز إلى التمويه على الهوية السودانية الأصيلة، ويحولها إلى صورة مشوهة، بعيدة كل البُعد عن قيمها الثقافية والتاريخية. للأسف، أصبح حتى الساسة في السودان يرتدون هذا الكدمول لتنفيذ مؤامرة كبرى، ليُصبح بذلك رمزاً لاحتلال الهوية السودانية وتغييرها إلى ما لا يتناسب مع حقيقتها، بعد أن أضحى السودان ضحية لمؤامرات إقليمية ودولية تهدف إلى نهب ثرواته وتدمير مكتسباته.
كان أبناء السودان يحدوهم الأمل في مُستقبل المشرق، يترنمون بأغنية الخليل "عزة" للتأكيد على حب الوطن والذود عنه "عزة في هواك عزة نحن الجبال وبنخوض صفاك نحن النبال"، وكان هذا الشعار الوطني الذي يرفعه أبناء الوطن "عزة السودان" يمثل الأمل في غدٍ أفضل، حيث كانت الآمال معقودة على نهضة الوطن. أما اليوم، فقد تحول ذلك الشعار إلى ذكرى مُؤلمة لسقوطه في قبضة قوى خارجية، تماماً كما سقطت ألين ضحية لتدخلات مُعقدة شوهت حياتها، وسلبت منها قدرتها على التفاعل مع العالم. إنَّ حالة السودان اليوم، مثل ألين في الرواية، أصبحت تشهد على تآمرات خفية، تحاول طمس هويته وتحويله إلى مجرد صورة مشوهة عما كان عليه.
في مُقاربة الثوب الأبيض والانتقال إلى الكدمول، نجد في الرواية أن "آن كاثريك"، كانت ترتدي ثوب البراءة الذي لا يُعكر صفوه شيء. وفي المقابل، ارتدى السودانيون جلابيتهم البيضاء منذ القدم كرمز للنقاء والصفاء الثقافي والهوية الوطنية المُميزة. لكن، مثلما أُجبرت "آن" على خلع ثوبها الأبيض النقي لتلبس عباءة داكنة، اضطر كثير من السودانيين اليوم إلى استبدال جلابيتهم البيضاء بكدمول قاتم، يخفون خلفه جراحاً مثقلة بالخيانة. هذا التغيير في الثياب لا يعكس فقط التغيير في المظهر، بل يعكس الخيانة والمكائد التي أصبحت جزءاً من واقع الحياة السياسية في السودان.
كما كانت "آن" ضحية لسرّ لم تفهمه بالكامل، يعيش الشعب السوداني اليوم في ظل مؤامرات سياسية خفية مُعقدة، تشوبها الألغاز والأسرار التي لا يراها الجميع. وأما آن، فقد كانت غير مدركة أن السير "بيرسيفال" كان يخبئ أسراراً مظلمة وراء مظهره البريء، كما أنَّ السودانيين اليوم يشعرون بوجود قوى خفية تسحب الخيوط وتدير المشهد السياسي في الظلام، بينما تظل الحقيقة بعيدة عنهم. ولكن كما أن "والتر"، شخصية الرواية الفذّة، كشف الستار عن خيانة "بيرسيفال" وأسراره المظلمة، يظل الأمل قائماً في أن يكشف الشعب السوداني في يوم من الأيام حقيقة ما يُحيط به من مؤامرات خفية، وأن يعود الحق إلى نصابه.
على الرغم من كافة التلاعبات والمؤامرات، كانت "آن" تحتفظ في أعماقها بنقاء روحها، رغم ما جرى من حولها. وبالمثل، لطالما كان الشعب السوداني بريئاً في سعيه نحو الحرية والعدالة، رغم أنَّ القوى الخفية قد قادته إلى هاوية الخيانة. ولكن كما تمسكت "آن" بحقيقتها ورفضت الزيف المحيط بها، يظل الشعب السوداني متمسكاً بأمل استعادة هويته وكرامته في مواجهة الفساد والانحراف. وفي النهاية، ستظل الحقيقة سيدة الموقف، مهما كانت التحديات، وسينتصر الحق، كما انتصرت الحقيقة في الرواية.