فاجأ الرئيس الأمريكي جو بايدن، بطرحه خريطة طريق لوقف الحرب على غزة، وإتمام صفقة تبادل والشروع بإعادة الإعمار. وتشمل الخطة ثلاث مراحل: الأولى تبدأ بوقف لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع، وبانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من المناطق المأهولة، والإفراج عن عشرات المحتجزين الإسرائيليين من النساء وكبار السن والمرضى، مقابل إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين.
كان رد الفعل الإسرائيلي الأول على خطة بايدن هو وصفها بأنها «خريطة طرق»، وليس خريطة طريق بمعنى أنّها قابلة للتأويل والتوجيه في أكثر من مسار. وبعد الاعتراف بأن ما جاء في خطاب بايدن هو المشروع الإسرائيلي ذاته، الذي قدمته إسرائيل كأساس لصفقة جديدة، جاءت التسريبات بأن بايدن أدخل من عنده بعض اللمسات، التي قد تكون خفيفة لكنّها جوهرية بالمنظور الإسرائيلي، وفي مقدمتها رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار الشامل والدائم، قبل تحقيق «أهداف الحرب».
لقد اضطر نتنياهو، خلال النقاش المسبق، إلى قبول «المشروع الإسرائيلي» لأنّه كان المتحفّظ الوحيد عليه في مجلس الحرب، بعد ما حظي بدعم قيادة الجيش والموساد والشاباك، والوزراء الجنرالات، يوآف غالانت وبيني غانتس وغادي آيزنكوت. وقد أمل نتنياهو بأن ترفض حركة حماس هذا المخطط، ليظهر هو بمظهر المرن المعتدل، وحماس بقالب «التعنّت والعناد». ويبدو أن بايدن فهم لعبة نتنياهو وأراد أن يلزمه بموقفه هو، وأن يسعى مرة أخرى لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن حماقة قيادتها.
هناك أقوال لم ينبس بها نتنياهو منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي لا تقل أهمية عمّا صرح به وكرره واجتره. هو لم يلتزم في أي مرحلة بإعادة المحتجزين «أحياء»، وعلى الرغم من ضغوط الأهالي، رفض استعمال كلمة «أحياء» حتى في الجلسات المغلقة. المعنى الوحيد لذلك هو أن نتنياهو على استعداد للتضحية بالمحتجزين في سبيل تحقيق غايات الحرب التي أعلنها. وهو لن يوافق، عن طيب خاطر، على صفقة تعيدهم مقابل وقف الحرب، ولن يقبل بها إلّا إذا اضطر لذلك تحت وطأة الضغوط، وانسداد مخارج الإفلات من هذه الضغوط. يبدو نتنياهو على اقتناع تام بأن مصيره السياسي ومكانته في تاريخ الدولة الصهيونية، لن يحسما في تحرير أو عدم تحرير المحتجزين، بل في نتيجة الحرب، وهو ما زال يراهن على إطالة مدتها أملا في حسمها في مرحلة ما. وزمن الحرب في عرفه يسير بموازاة الزمن السياسي وحالته في الاستطلاعات، وهو يرى أنّه بدأ يستعيد قوّته وهيبته القيادية تبعا لسياساته المتشددة. السبب أن خسارة نتنياهو والليكود هي في أوساط اليمين تحديدا، حيث «هرب» مصوتوه إلى أحزاب مثل «العظمة اليهودية» بزعامة إيتمار بن غفير، و»إسرائيل بيتنا» بقيادة أفيغدور ليبرمان، وكذلك إلى قائمة «المعسكر الرسمي» بقيادة بيني غانتس. قراءة نتنياهو، الضليع في عالم الانتخابات، أن عليه اتخاذ موقف أكثر تشددا لاستعادة ناخبيه الذين هربوا منه بعد السابع من أكتوبر. وبالنسبة له الأمور واضحة وهي أن الذين يطالبونه بوقف الحرب والتوصل إلى صفقة ليسوا من مصوتيه، وهو لن يكسب دعمهم إن هو قبل برأيهم، فهم بعيدون عنه وعن عقيدته السياسية، وهو سيخسر في اليمين ولن يكسب في الوسط.
أحسنت حركة حماس صنعا بأنها لم ترفض خطّة بايدن وأكّدت على مطلبها الأساسي وهو، ضمان تنفيذ فعلي مضمون لما جاء فيها
المشكلة في الخطابات السياسية لبنيامين نتنياهو هو أنه يقول الحقيقة والكذب في الدرجة نفسها من الحماس. وبعكس ما يتوهّم البعض، فإن المشكلة الأكبر ليست في كذبه وأضاليله، بل في حقيقة مواقفه ومعتقداته الراسخة، التي تتمحور حول تعظيم مكانة الذات الشخصية والقومية، والخلط بينهما، ومنح الشرعية العلنية لارتكاب أبشع الجرائم تحت شعار «شعب يدافع عن نفسه»، والشرعية الضمنية لـ»قائد فذ يحمي شعبه». ولا يظهر في خطاب نتنياهو ما يوحي بأنه على استعداد لوقف دائم للحرب في أي سياق كان، قبل تحقيق أهداف الحرب. نتنياهو هو صاحب القول الفصل في الدولة الصهيونية، وهو يستند إلى أغلبية برلمانية مطلقة ومتماسكة قوامها 64 عضو كنيست. وهو في الحقيقة مصر على مواصلة الحرب، وعلى استعداد لاتخاذ خطوات تكتيكية، ليس لوقفها، بل لضمان استمرارها.
تكتيك نتنياهو الحالي هو تحميل مسؤولية «فشل الصفقة» على حركة حماس، وحتى على بايدن نفسه. أما في حكومته فهو يسعى إلى التوصل إلى تفاهمات مع بن غفير وسموتريتش وبعض نواب الليكود، لإعطائه حبلا لمواصلة التكتيك بحيث يطرح أكثر المواقف مرونة شرط ألّا تتجسد عمليا إلى صفقة فعلية، ليكسب قبول الموقف ولا يدفع ثمن التنفيذ، وإضافة لذلك هو يزرع الألغام في كل مشروع لصفقة جديدة، حتى يقوم بتفجيرها عند اللزوم والعودة بقوّة إلى الحرب. ومن الواضح أن قائدا سياسيا يقول لشعبه ليل نهار أنّه سيحقق له «النصر المطلق»، لن يقبل أن يخسر المعركة ويأتي بالفشل المطلق والإخفاق في إنجاز أي من أهداف الحرب. العالم كله يقول، ونصف الإسرائيليين يعتقدون بأنّه من المستحيل القضاء على حركة حماس. لكن النخبة اليمينية السياسية والأمنية المحيطة بنتنياهو تقول خلاف ذلك، ومقاربتها العامة هي أنه كلما فشلت الدولة الصهيونية في تحقيق أهدافها عليها «على الأقل» مواصلة حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل والدفع نحو التهجير، وهذه غايات إسرائيلية أهم من الأهداف الرسمية المعلنة.
لقد أحسنت حركة حماس صنعا بأنها لم ترفض خطّة بايدن وأكّدت على مطلبها الأساسي وهو، ضمان تنفيذ فعلي مضمون لما جاء فيها من دعوة لوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيلي وعودة النازحين وإعادة الإعمار. اليقظة مطلوبة وملحة لعدم منح نتنياهو ثغرة للادعاء بأن حماس هي التي تمنع التوصل إلى اتفاق، فعلى الرغم من رد حماس الإيجابي، ما زالت وسائل الإعلام الإسرائيلية تردد بأن حماس لم ترد. لقد لاحت فرصة مهمة جدا لمحاصرة وعزل الموقف الإسرائيلي، والغالبية الساحقة من الحكومات (وليس فقط الشعوب) تريد للحرب أن تنتهي. وهنا يأتي الدور العربي لحشد الضغوط الدولية على إسرائيل. وإذا كان هناك ضغط قوي وفعلي فسوف يخضع له نتنياهو، الذي يدل تاريخه السياسي على أنه يرضخ دائما إذا جرى كبسه وحشره في الزاوية.
نتنياهو يريد وينوي ويعمل على مواصلة الحرب من دون تحديد خط النهاية لها، وهو سيحاول أن يتصدى بالمراوغة والألاعيب والخطاب في الكونغرس لمساعي وقف حرب الإبادة الجماعية. لكنه في النهاية ليس كلي القدرة ويمكن محاصرته عبر مساع تبدأ أولا بفلسطين، وثانيا في العالم العربي، وثالثا في العالم الواسع. فلسطينيا يجب سد ثغرة «اليوم التالي»، بالمبادرة إلى إقامة حكومة خبراء فلسطينية متفق عليها من جميع الفصائل، بما فيها حماس، لتقوم بإدارة شؤون الضفة الغربية وغزة، وطرحها أمام العالم كممثلة للإرادة الفلسطينية. هذه المبادرة كفيلة بسد الطريق على مؤامرات الالتفاف على الإرادة الوطنية الفلسطينية. وعلى العالم العربي أن يتبنّى بالكامل مخرجات الإرادة الوطنية الفلسطينية الموحّدة، ويدعمها ماديا ومعنويا وسياسيا ودبلوماسيا. وأمام العالم يطرح العرب والفلسطينيون رؤيا واضحة لليوم التالي، تفتح المجال لوقف الحرب، ليأتي بعدها اليوم التالي فلسطينيا بالكامل وبامتياز. الانقسام الفلسطيني القائم يترك ثقوبا خطيرة، يستغلها أعداء الشعب الفلسطيني للنيل منه ومن حقوقه ومن حياة بناته وابنائه. الشعب الفلسطيني ينادي: سدّوا ثغرات الانقسام وانقذوا شعبكم!
المصدر: القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بايدن غزة نتنياهو حماس حماس غزة نتنياهو بايدن مقالات مقالات مقالات صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة اقتصاد صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الصهیونیة حرکة حماس
إقرأ أيضاً:
واشنطن تغذّي آلة الحرب الصهيونية لقتل الفلسطينيين
محمد عبدالمؤمن الشامي
في خطوة جديدة تؤكّـد دعم الولايات المتحدة المُستمرّ للعدوان الصهيوني، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن صفقة أسلحة ضخمة لاحتلال “إسرائيل” بقيمة 3 مليارات دولار، تشمل قنابل خارقة للتحصينات، معدات هدم، وجرافات عسكرية. هذه الصفقة تأتي في وقت تشهد فيه غزة والمناطق الفلسطينية الأُخرى أفظع أنواع العدوان من قبل كيان الاحتلال، والذي أسفر عن استشهاد وإصابة أكثر من 160 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. ومع ذلك، في الوقت الذي تسارع فيه واشنطن لتسليح الاحتلال، يبقى الموقف العربي مُجَـرّد بيانات شجب، دون أي تحَرّك ملموس لوقف هذه المجازر.
الصفقة التي أقرها البنتاغون على “أَسَاس طارئ” تعكس النية الأمريكية في تعزيز قدرات الاحتلال على تدمير غزة والبنية التحتية الفلسطينية بشكل أكبر. تشمل هذه الصفقة 35،529 قنبلة زنة 1000 كغ، وهي قنابل مدمّـرة قادرة على محو أحياء سكنية بالكامل. كما تتضمن 4000 قنبلة خارقة للتحصينات مخصصة لضرب الأنفاق والملاجئ، ما يعني استهداف المدنيين في أي مكان يحاولون اللجوء إليه، إضافة إلى ذلك، تشمل الصفقة 5000 قنبلة زنة 500 كغ، مزودة بأنظمة توجيه لتوجيه القنابل التقليدية بدقة، وجرافات عسكرية بقيمة 295 مليون دولار التي كانت تستخدم في هدم المنازل وتدمير الأراضي الزراعية الفلسطينية.
الصفقة تعكس سياسة أمريكية ثابتة تدعم الاحتلال بشكل غير محدود، مما يضمن له التفوق العسكري المطلق في المنطقة. الهدف الأمريكي واضح: استمرار دعم الاحتلال بلا قيود، حتى لو كان ذلك يعني قتل المزيد من الفلسطينيين. ومع ذلك، يبقى الموقف العربي بعيدًا عن التصعيد الحقيقي ضد هذه السياسة. فحتى الدول التي سبق لها أن انتقدت الاحتلال، بقيت في دائرة المواقف السلبية، منها بيانات الشجب التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
في ظل هذه الأحداث، يظل الفلسطينيون يدفعون الثمن غاليًا. العدوان الصهيوني، الذي بدأ في 7 أُكتوبر 2023 وما يزال مُستمرّا، أسفر عن مئات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين، وأدى إلى دمار هائل في غزة. ومع كُـلّ يوم يمر، تتعمق الأزمة الإنسانية، حَيثُ يعاني السكان من الحصار المُستمرّ والقصف المكثّـف.
في هذا السياق، إذَا لم تتحَرّك الدول العربية الآن على مستوى المقاطعة السياسية والاقتصادية لواشنطن، وَإذَا استمر الصمت أمام هذه المجازر، فسيظل الاحتلال ماضٍ في عدوانه، ولن تكون فلسطين وحدها التي تدفع الثمن. الدور قادم على الجميع، وحينها لن يجد العرب من يدافع عنهم، كما تركوا الفلسطينيين وحدهم في مواجهة آلة الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيًّا. يجب أن يكون هناك تحَرّك جاد الآن، قبل أن تجد الدول العربية نفسها في قلب العاصفة، وقد فقدت القدرة على الرد.