ظـواهر السياسـة بين الفكـر والواقـع
تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT
غالبا ما يلاحظ المشتغل في حقـل الفلسفة - والفلسفة السـياسيـة على وجـه خـاص - تلك الفـجـوة الهائلـة التي تـفـصل المفـاهـيمَ السـياسيـةَ، في صيـغـتها النـظـريـة المجـردة، ومـوضوعـاتـها - بعضَها عن بعض - على نحـو ما تتجلـى في الواقـع التاريـخي. ينبغي أن لا يُـنْـظَـر إلى تلك الفجـوة بوصفـها عوارا أو قرينـة على طـوبـويـةِ الفـلسفة أو بـرانـيـةِ التـفكيـر الفلسفـي عن الواقـع الموضـوعي؛ لأن هـذه طبيعة أيِ معرفة: أكانت نظـريـة - من نوع المعـرفة الفلسفـيـة - أو عمليـة تجريبيـة، من نوع علـوم الطبيعة.
لا تُـشـبه صورةُ الدولـة، كما رسـمتْـها فلسفـةُ أرسطـو في كتابـه السياسيـات، صورةَ أي دولـة واقعـيـة قامت في الفضاء اليوناني. ومع ذلك، نعجـز عن فهـم عمـل الدول - في ذلك العهـد - إنْ لم نَـعُـد إلى كتاب أرسطـو ذاك؛ إذ فيـه - وحـده - مفاتيـحُ ذلك الفهـم. أما السبب فيَـكـمَـن في أن أرسطـو - الذي حلـل عشـرات الدساتيـر في كتابـه - اشْـتَـقَ مفهـوما مجـردا للدولـة ممـا بين الدولِ التي دَرَسَـها مـن مشتَـرَكـات. لذلك هـو لا يطابـِق الدولَ القائمـةَ بأعيانها وهـو - في الوقـت عـيـنِـه - يُـطْـلِعـنا على السـمات العامـة للدولـة التي نعـثُـر عليها في هـذه الدولـة أو تلك. ويصْـدُق هـذا على مفاهيم سياسيـة أخـرى مثـل: الدسـتور، والمواطـن، ونظام الحكـم، والحـق، والواجـب... وسواها مما عَـرَض له أرسطـو في ذلك السِـفْـر المرجـعي. ويعني هـذا أن التـجـريد - وهـو تجـاوُزُ المحسوسِ والعيانـيِ - ليس انصـرافـا عن الواقـع أو مبـارَحـة له أو ابتعـادا عـنه، بـل هـو وسيلةٌ معرفـيـة للعودة إليه بوصـفـه - هـذه المـرة - مُـدْرَكـا عـقـلـيـا.
حين نستخدم المفهـوم، لا نلـتفـت إلى الصُـور العـيانـيـة المحسوسة التي يُحْـتـمـل أن يكـون عليها، كمـا لا يكـفيـنا ما ينطبـع على ذهـننا من صُـوَر واقعيـة مباشرة لإدراك معنى ذلك المفهـوم. نتحـدث، مثـلا، عن الدولـة الحديثة أو عن الدستـور. هـذا حديث مفهـومي يجـري بعيـدا عن عالم المحسوسات، عالـم الواقـع، أما في الواقـع فلا يـوجـد هناك شيءٌ اسمُـه دولة أو اسمُـه دستور، وإنـما تـوجد دولٌ متعـددة ودساتـيرٌ شتـى تختلف بينها. في هـذه الدول تقـوم أنظمـة حكم متعـددة: ملكيـة، جمهوريـة؛ وفي الحالين تختلف باختلاف نمـط توزيع السلطة فيها؛ فقد تكون رئاسيـة أو برلمانيـة أو تكـون السلطـة فيها متـقَاسَـمة بين الرئاسـة والبرلمان... إلخ، وقُـلِ الشيء نفسَـه عن دساتـير الدول واختلافاتـها. لكـن هـذه الفسيـفسـاء من عناصـر التـعدُد والاختـلاف فـي كـل ظاهـرة سياسيـة لا تمنع من تجريدها بغية بناء نموذج ذهـني ومفهـوم عـام لا بديل عنه من أجـل تـناوُل الظـاهـرة.
قـد يقال: هـذا شأن ظـواهـر السياسـة كما تـبدو في الفلسـفة، أمـا إذا مـا انتـقـلنا إلى العلـوم الاجتماعيـة والإنسانيـة فيخـتلف الأمـر؛ حيث يبـدو خطاب هذه العلوم (علم السياسة، مثلا، أو علم الاجتماع السياسي) أدنى إلى الاتصال بموضوعه من خطاب الفلسفة وأَدْعـى إلى استـكـناهـه في تجلـياته الماديـة المباشرة. ومع أن هـذا صحيحٌ، جزئـيـا، من حيث إن العلوم هـذه تتناول ظـواهـر السـياسة في واقـعها المباشـر وفي نظـام اشتغالها المادي، إلا أنـه ليس صحيحـا، أَلـبَـتـةَ، إنْ نحن قصدْنا بحُـكْمنا ذاك المعرفـةَ المتحقـقةَ من موقـع هـذه العـلوم؛ إذْ هـي - في وضعها الاعـتـباري - تشبـه المعرفـةَ الفلسفيـة في كونها تتوسَـل المفاهيم في الدرس والتحلـيل؛ وهـي (المفاهيـم) نتاج تـصوُرات نظريـة ناهيك بما تنطـوي عليه من تجريد. لا بـد، إذن، من الاعتـراف بتلك الحالة من عـدم المطابَـقة بين نظام المعرفـة وموضوعات العالم الخارجـي (السياسيـة في حالتـنا) بوصفها حالـة مفهـومة، تمـاما، مـن وجهـة نظـر المعرفـيـات (نظريـة المعرفة، فلسفة العلـوم، الإيـپـستيمولوجيا)، وبوصفها حالـة لا تطعـن في حُـجـيةِ المعرفة أو تشهد عليها بل من حيث هـي - عـكـس ذلك - تقـيـم الدَليل على وجـاهـة تلك المعـرفـة وتشهد لها. وهـل من شهادة لها أغنـى من أن يقال إنها ليست معرفـة حسـية مباشرة؛ حيث الحـس أدنـى المراتب جميـعا وأعلاها مظـنونـيـة؟
وكما أن المسافـةَ كبيـرةٌ بين النمـوذج الذهـني المجـرَد، الذي يعـبِـر عنه المفهـوم، والظاهرةِ كما هي في الواقع، في مباشـرِيَـتها العيانـيـة، كذلك هـي كبيـرةٌ - أيضـا - المسافـةُ بين ظـواهـر السياسة في مجتمعات بعينها وفي أخـرى. إذا كان مبْـنَـى الفجـوة الأولى على مبـدإ الاختلاف بين الفكـر والواقـع، المفهـوم والظاهـرة، فإن مبْـنى هـذه الفجـوة الثـانـيـة على مبدإ التـفاوُت في التـطور بين المجتمعات والدول، ومـدى ما حقـقـتهُ كـلُ واحـدة منها من تراكـم في مضمـار البناء والتـنميـة السياسيـيـن. لا تخضـع الدول والمجتمعات لوتيـرةِ تطـوُر واحـدة و، بالتـالي، لا تَـقْبـل النظـرَ إليها جميعِها من الزاويـة عـينِها، ولا إطـلاقَ الأحكـام نفسِها عليها. قـد يقـال إن هناك حـدا معلـوما لتعريف الأشياء والظـواهـر لا يُخـتَـلَـف عليه هـو حدُهـا الأدنى المشتَـرك، أي الحـد الذي تجـوز فيه تسميةُ كيـان بأنه دولة، وهيئـة بأنـها سلطـة، وعلاقـة بأنها مواطَـنة...إلخ؛ وهـذا صحيح لا مِـرْيـةَ فيه، ولكن مَـن قـال إن هـذا الحـد المشترك يُطْـلِعنا على تلك الظاهـرة التي نُدخـلها تحته في كيانيـتها الخاصـة أو في اختـلافـها عن غيرها الذي يُشـبهـها في المشـتَـرَك العـام من السمـات من غير أن يتشابها في شروط التـطـور؟ لا بـد، إذن، من التسليـم بصلة أي ظاهـرة سياسيـة بشروطها الخاصـة المجتمعيـة من أجل إحسان معرفـتها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أحاديث عن السياسة.. توازن القوة
يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"الدول هي قوى لاعبة أساسية، وصُنَّاع القرار عقلانيون بشكل أساسي، وبنية النظام الدولي تلعب دورًا رئيسًا في تحديد القوة" روبرت غلبين.
*********
من بديهيات أية مواجهة سواء على مستوى شخصي كان أو مؤسساتي أو دولي، على شكل الفرد أو المجموعة النظر إلى مقدار القوة بين طرفي المواجهة، هنا لا أحدثك عن حق وباطل، ولا عن شجاعة أو جُبن، عالِم أو جاهل، غني أو فقير، أُحدِّثُك عمَّا يحدث واقعيًا، والفوارق الشكلية والموضوعية في الإمكانيات.
الواقعية في السياسة هي الخطوة الأولى لأي قائد، لا تعرف في الواقعية ولاتؤمن بها، أعمل بأي عمل غير السياسة، الواقعية هي ملاذ بعد الله، وبعد نظر، وحسن تصرف وعقل راجح، لايمكن لأي حامل أو مؤمن بالشعارات العاطفية- أيًا كان نوعها - أن يقود شركة ناهيك عن بلد به شعب ومؤسسات ومقدرات.
حُسن اختيار المستشارين أولى القواعد التنفيذية للواقعية، المستشار المخلص الذي يستطيع قول كلمة لا، وليس المستشار الذي يتجلى بالوجاهه والسيارة الفارهة، وله صولات وجولات في المجتمع. لن أذكر حدثًا مُعيَّنًا، لكن انظر حولك وشاهد وتمعَّن، وافهم جيدًا ما ذهبت إليه هذه الكلمات.. كثيرٌ من الأمور كانت نهايتها مؤلمة بسبب التهور والعواطف، والشعاراتية والفكر البعيد عن الواقع.
لكن هل إذا كانت إمكاناتك قليلة أو لا تُقارن بالطرف الآخر بالمواجهة تركن وتصمت وتستسلم؟
بالطبع لا.. لكن في هذه الظروف تبرز القدرات الاستثنائية، ووجود المستشارين الثقات المبدعين ذوي الحل والعقد، ومالكي الخبرة، واستقاء الحكمة التي هي ضالّة المؤمن، و"رأس الحكمة مخافة الله"، هناك شيء اسمه التفاوُض، واستخدام مثالي لأوراق الضغط، ولو ورقة واحدة؛ فأهل الخبرة والشجعان والمؤمنون بقضاياهم يستطيعون تحويل هذه الورقة إلى نار تحرق مائة ورقة ضغط لدى الطرف المقابل، يقول تعالى: "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ" (البقرة :249)، وكذلك الاستعداد الأمثل بإعداد ردع يمكن المفاوض من اللعبة التفاوضية. يقول تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال:60).
قواعد أي دولة أو مجتمع هو حدود وسيادة وعلم وحكومة معترف بها قائمة بإدارة الدولة، وبنفس الوقت توجد بديهيات لايمكن للقواعد السالفة الذكر أن تقوم بدونها، ولاء الشعب للوطن وللقيادة (أيا كان نوعها منتخبة أم نظام حكم تقليدي)، والتماسك الاجتماعي- السياسي، أو ما يتم تسميته بالوحدة الوطنية؛ إذ إن كيان الدولة يفترض فيه إستيعاب كل الأعراق والطوائف الموجودة تحت راية الدولة، ويكون النظام الحاكم على مسافة واحدة من الجميع، كذلك وجود حرية رأي معقولة أو نسبية سواء من خلال صحافة حُرة أو برلمان مُنتخَب أو غير ذلك، توجد دول ليس لديها برلمان منتخب، وحرية الصحافة بها ليست بالقدر الموجود بدول أخرى، لكنها تمارس دور الدولة بإقتدار من خلال توفير كل ماشأنه تيسير حياة الناس، وبإمكان المواطن بها الوصول لأعلى الهرم السياسي بلا معوقات حقيقية؛ بل وأخذ مراده بيُسر. الحقيقة التي تغيب عن الكثير ان جل التحركات المنادية بالحرية والانتخابات وما شابه، ترنو إلى هدف تيسير الحياة وتسهيلها على البشر، هذه هي زبدة مايسمى بالتحركات السياسية، هنا لست في دور المهمش لهذه التحركات لكني أذهب إلى نظام سياسي مرن بإستطاعته التعامل المُتغيرات داخليًا وخارجيًا بنفس يستوعبها ويتدرج معها؛ بما يتناسب وظروف البلاد الواقعية. ولعل نماذج موجودة تؤكد نجاخ مثل هذا الخط السياسي الجامع بين المرونة والتماسك.
إذن.. كيف يمكن تحقيق توازن القوة بين دولتين لا مجال للمقارنة بينهما لا في عدد السكان ولا القدرة العسكرية ولا المساحة أو التضاريس الجغرافية؟
التوازن يبدأ بعقلية الدولة وافتراض عقلانية صُنَّاع القرار، وكيفية حل هذه المعضلة من خلال تمتين الجبهة الداخلية كأول حل، ووجود جيش ذي عقيدة قتالية رأسها الردع والقدرة على الثبات بالحرب الدفاعية، وإبرام معاهدات مع دول كبرى للتعاون والفائدة المشتركة، وبناء سياسة خارجية قائمة على زرع الثقة والصداقة، ومبادرات السلام؛ حيث البحث عن البدائل المتاحة للحروب، والإيمان بالأمن الجماعي بين الظول المتشابهة بالظروف على قاعدة: الواحد للكل، والكل للواحد.
في كتاب "مبادئ العلاقات الدولية" (1)، نقرأ: "لا يوجد مفهوم وحيد في الواقعية السياسية، هناك واقعيات، على الرغم من أن كلًا منها مبنية على مجموعة أساسية من الافتراضات، كل منها يُعلِّق أهمية مختلفة على فرضيات أساسية مختلفة، ومع ذلك لا يُوحِّد مكونات النظرية الواقعية، هو تأكيدها على الدولة الموحدة في نظام دولي يتسم بالفوضى، وهو ما يميزها بوضوح عن النظريات الليبرالية والراديكالية أيضا".
في قصيدة شهيرة، قال الشاعر خلف بن هذال :
ولا تأمن سحاب صيف يلقح بأسرع الأوقات
إديار عامره بشعوبها راحت من أسبابه
ولا تأمن فروخ الداب لو عاشن وأبوهن مات
يجن الصبح بأنياب تنسل كنها أنيابه
ترى ما حل في بعض الدول تنبيه وإنذارات
ومن لا ينتبه مع عاتي التيار يغدا به
صحيح أهل القرى ما يُؤخذون إلا على الغفلات
عبر والمعتبر يعيا الأمور وياخذ إحسابه
*******
كتاب "مبادئ العلاقات الدولية"، كارين أ. منغست وإيفان م. أريغوين، ترجمة حسام الدين خضور، دار الفرقد، الطبعة الأولى، ص 120. رابط مختصر