الذين سرقوا مستقبل السودان يدمرون ماضيه!
تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT
في مساء الرابع عشر من أبريل 2023، كنت أحضر حفلا موسيقيا في الخرطوم. كانت نهاية شهر رمضان على الأبواب، واستمع الجمهور إلى آلات العود والدفوف والقانون من أوركسترا بيت العود التي أنشئت للحفاظ على الآلات السودانية التقليدية. دندنت مع الأغنيات التي راجت بعد ثورة 2019 ثم عدت إلى المنزل بمعنويات مرتفعة.
في اليوم التالي شاهدت الطائرات المقاتلة تطلق الصواريخ على الأحياء التي نشأت في رحابها.
وهي الآن في حرب مع شركائها السابقين في الحكومة، بينما يمثل الشعب السوداني الأضرار الجانبية لهذه الحرب. وقد أورد تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش في مايو تفاصيل حملة التطهير العرقي التي قامت بها قوات الدعم السريع ضد المساليت وغيرهم من غير العرب في غرب دارفور. وهناك أنباء أخرى عن عمليات إعدام بإجراءات وجيزة وتعذيب واغتصاب. وفي جميع أنحاء البلد، نزح أكثر من أحد عشر مليون شخص. وتعرضت البيوت للاحتلال والنهب. واستهدفت المتاحف ولعل محتوياتها بيعت أو تدمرت أو نهبت وحسب. في انقلاب عام 2021، أخرت قوات الدعم السريع والجيش حلم الثورة بسودان ديمقراطي تعددي. والآن تعتزم قوات الدعم السريع تدمير أي دليل على أن سودانا آخر قد يوجد يوما أو كان له وجود من قبل. وإذا استمرت بقية دول العالم في الإشاحة بنظرها، فقد تنجح هذه الجهود.
أمضت عمتي أيام الحرب القليلة الأولى جالسة على أرضية غرفة المعيشة في بيتها هي وأطفالها وأحفادها، في محاولة لتجنب الرصاص المضاد للطائرات. وسرعان ما اقتحم جنود قوات الدعم السريع بيتها وأجبروا عائلتها، ومنها طفل عمره 8 أشهر، على الاستلقاء على وجوههم في التراب والبنادق مصوبة إلى رؤوسهم حسبما حكت لي. تدمر المنزل الذي عاشت فيه في الخرطوم لأكثر من ثلاثين عاما، وغرق منزلها في الفضلات البشرية. وهربت عائلتها تاركة كل شيء وراءها.
هرب والد عمي إلى مصر عندما بدأ القتال. وسرعان ما سمع بعد ذلك أن قوات الدعم السريع أفرغت منزله من كل ما كان فيه ومضت به في الشاحنات، حتى الخزف الصيني الذي جمعته زوجته منذ أكثر من خمسين عاما. وحكى لي أقاربي أن الجنود تغوطوا على أسرة أطفاله قبل أن يغادروا البيت. ومات والد عمي لاجئا بعد بضعة أشهر دون أن يرى منزله مرة أخرى.
وعلى مقربة من منزلي، دمر الجنود منزل جدي ومزقوا صور جدتي وكتب جدي وسحبوا مراتبها إلى الشارع. ذلك المنزل الذي شهد مآسي وانتصارات 7 أبناء و27 حفيدا و5 من أبناء الأحفاد لم يعد من الممكن التعرف عليه.
تعرضت منازل عديدة في شتى أرجاء البلد للنهب بهذه الطريقة على أيدي قوات الدعم السريع، حيث أبلغ الناس أن الأبواب والنوافذ نفسها تعرضت للسرقة في بعض الأحيان. بيوتنا هي التي أقمنا فيها أعراسنا وجنائزنا، وتجمعت فيها عائلاتنا لتناول الإفطار في أيام الجمع والأعياد، وفيها أتاح لنا أجدادنا أماكن حتى قبل أن نولد. بيوتنا هذه الآن غنائم الحرب: فقد اتصل شخص ما بعمي وأخبره أن عائلة كبيرة من تشاد تنوي السكن بمنزله. واتصل أحد أفراد الميليشيا بصديق وقال إنه موجود في بيت صديقي هذا وسوف يقضي فيه شهر العسل.
ولا شك أن دافع الميليشيا هو الربح حيث يتردد أن ما يجري نهبه يباع في أسواق السودان وخارجها. لكنهم أيضا يمحون السودان الذي كان قائما قبل الحرب ليضمنوا ألا يجد من يجرؤ على العودة ما يرجع إليه.
***
شأن كثير مما في البلد، ساء حال المتحف الوطني السوداني خلال 30 عاما من حكم عمر حسن البشير، ولكنه قبل الحرب كان يشهد عملية تجديد بتكلفة ملايين الدولارات، وبقيادة من اليونسكو والهيئة الوطنية للآثار والمتاحف.
زرته للمرة الأخيرة في أوائل أبريل 2023، قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب. كان المتحف يضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، بدءا بأنصاب الملكات المحاربات القدامى وحتى الجداريات المسيحية في القرن الثالث عشر. وتنتشر في حدائقه معابد نوبية ومصرية قديمة مخصصة للإلهين المصريين حورس وآمون بعد بذل جهود مضنية لإنقاذها خلال إقامة سد أسوان. في سنوات نشأتي، لم يوفر نظام البشير سوى فرص قليلة جدا للفخر الوطني، ولكن في المتحف الوطني كان من الممكن أن نلمح نسخة أفضل من بلدنا- نسخة أكثر تنوعا وتعقيدا واحتواء. وذلك سودان لمحته لوهلة أيضا في عام 2019، عندما اتحد الكثير من السودانيين اتحادا سلميا للإطاحة بالبشير.
في اعتصام أمام مقر الجيش الوطني، رأيت متظاهرين من أعراق وأديان وانقسامات اجتماعية سابقة يجتمعون معا من أجل بناء سودان ديمقراطي كانوا شديدي الاحتياج إليه والاستحقاق له. هتفنا «كلنا دارفور» اعترافا بالألم الذي ألحقه النظام بتلك المنطقة. كان المسيحيون يقدمون وجبات رمضان للمسلمين، والصوفيون يؤدون رقصاتهم. وبعد حملة قمع عنيفة شنتها قوات الدعم السريع، خرج الناس مرة أخرى.
لكن قادة الجيش الوطني وقوات الدعم السريع الذين كان يفترض أن يترأسوا حكومة انتقالية، لم تكن لديهم أي نية للتخلي عن السلطة. فبعد عامين، قاموا بانقلاب، ثم انقلبوا بعضهم على بعض.
في مايو 2023، دخل مقاتلو قوات الدعم السريع المتحف الوطني. وفي مقاطع فيديو منشورة على الإنترنت، بدا عليهم السرور وهم يفتحون التوابيت النوبية القديمة مقلقين راحة الجثث التي يبلغ عمرها ثلاثة آلاف عام. اتخذ القناصة مواقع على سطح المتحف. وتعرض المتحف للنهب ويستعمل الآن مقبرة لقوات الدعم السريع. كما تم إخلاء متحف بيت خليفة في أم درمان بعدما تم تجديده هو الآخر منذ فترة قريبة.
نشر أفراد في قوات الدعم السريع مقاطع فيديو لأنفسهم في أطلال موقع النقعة الديني القديم، وهو أحد مواقع التراث العالمي. . ويقال إنهم نهبوا أو أحرقوا المكتبات والأراشيف الجامعية. وسمعت في سبتمبر أن مجموعة الآلات الموسيقية النادرة في أكاديمية بيت العود، التي استمعت إليها عشية الحرب، قد تعرضت للتدمير.
هربت من منزلي في السودان منذ عام واحد. لا يزال ملايين الناس هناك محاصرين بين جيش غير كفؤ وميليشيا إبادة جماعية هو الذي أنشأها. بالنسبة للملايين هناك، كان هذا عاما حافلا بالإعدامات بإجراءات موجزة، والمجاعة الساحقة، وتدمير المدينة تلو الأخرى على أيدي الميليشيا.
حاصرت قوات الدعم السريع مدينة الفاشر في شمال دارفور منذ أكثر من شهر. وتنتظر المدينة الآن، وهي المهددة أصلا بالمجاعة، مذبحة محتملة. ومع ذلك، لا يزال المجتمع الدولي مكتفيا بالوقوف في موقف المتفرج. فنادرا ما يتم إيلاء الاهتمام للسودان، وكثير مما قرأته يختزل الصراع إلى صراع على السلطة بين جنرالين أو مشكلة هجرة في أوروبا. ولعل هذا هو سبب إحساس مقاتلي الدعم السريع بالحرية وهم يبثون جرائمهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لم يكن للميليشيات المتمردة مكان في السودان الذي حلمنا به في اعتصام عام 2019. لقد سرقوا منا هذا المستقبل، والآن يطمسون ماضينا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع أکثر من
إقرأ أيضاً:
«الدعم السريع» تستعيد السيطرة على قاعدة رئيسية في دارفور
قالت «قوات الدعم السريع» السودانية إنها استعادت السيطرة على قاعدة لوجيستية رئيسية في شمال دارفور، أمس (الأحد)، بعد يوم من استيلاء قوات منافسة متحالفة مع الجيش السوداني عليها، وفق ما أوردته وكالة «رويترز»، اندلع الصراع بين «الدعم السريع» والجيش في أبريل (نيسان) 2023، ووقعت بعض أعنف المعارك في شمال دارفور، حيث يقاتل الجيش والقوات المشتركة المتحالفة، وهي مجموعة من الجماعات المتمردة السابقة، للحفاظ على موطئ قدم أخير في إقليم دارفور الأوسع.
وقال الجيش والقوات المشتركة في بيانين إنهما سيطرا، أمس، على قاعدة «الزرق» التي استخدمتها «الدعم السريع» خلال الحرب المستمرة منذ 20 شهراً قاعدة لوجيستية لنقل الإمدادات من الحدود القريبة مع تشاد وليبيا.
وقالا إن قواتهما قتلت العشرات من جنود «الدعم السريع» ودمرت مركبات واستولت على إمدادات أثناء الاستيلاء على القاعدة.
ويقول محللون إن الحادث قد يؤجج التوتر العرقي بين القبائل العربية التي تشكل قاعدة «الدعم السريع»، وقبيلة الزغاوة التي تشكل معظم القوات المشتركة.
واتهمت «الدعم السريع» مقاتلي القوات المشتركة بقتل المدنيين وحرق المنازل والمرافق العامة القريبة أثناء الغارة.
وقالت في بيان اليوم: «ارتكبت حركات الارتزاق تطهيراً عرقياً بحق المدنيين العزل في منطقة الزُرق، وتعمدت ارتكاب جرائم قتل لعدد من الأطفال والنساء وكبار السن وحرق وتدمير آبار المياه والأسواق ومنازل المدنيين والمركز الصحي والمدارس وجميع المرافق العامة والخاصة».
الخرطوم: «الشرق الأوسط»