كشفت مجموعة من الموظفين في شركة أوبن إيه آي عن حقيقة ما يصفونه بثقافة الاستهتار وعدم الشفافية في الشركة الناشئة التي تتنافس في سباق محموم على تطوير أقوى أنظمة الذكاء الاصطناعي على الإطلاق، وفقا لما ذكره تقرير من نيويورك تايمز.

وبحسب التقرير، عبر أعضاء المجموعة، التي تضم 9 موظفين حاليين وسابقين في الشركة، عن مخاوفهم المشتركة من أن "أوبن إيه آي" لم تتخذ ما يكفي من إجراءات وقائية تمنع أنظمة الذكاء الاصطناعي من تشكيل خطر في المستقبل.

وأكد أعضاء المجموعة أن الشركة التي بدأت رحلتها كمختبر أبحاث غير ربحي، تضع أولوية لتحقيق الأرباح والنمو في الوقت الذي تحاول فيه تطوير الذكاء الاصطناعي العام "إيه جي آي"(AGI)، وهو المصطلح الذي يُطلق في هذا المجال على البرمجيات الحاسوبية التي تستطيع تنفيذ أي مهام يمكن للإنسان تنفيذها.

كما يزعمون أن الشركة استخدمت أساليب صارمة ضد الموظفين عندما حاولوا التعبير عن مخاوفهم بشأن هذه التقنية، ومن هذه الأساليب اتفاقيات عدم مشاركة المعلومات المُقيِّدة التي طُلب من الموظفين المستقيلين التوقيع عليها.

وذكر دانيال كوكوتاييلو، الباحث السابق بقسم الحوكمة في الشركة وأحد منظمي المجموعة "أوبن إيه آي متحمسة للغاية بشأن تطوير الذكاء الاصطناعي العام، ويتسابقون بشكل متهور ليصبحوا الأوائل في هذا المجال".

رسالة علنية

نشرت المجموعة رسالة علنية، أمس الثلاثاء، تدعو فيها الشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، ومنها شركة أوبن إيه آي، إلى توفير قدر أكبر من الشفافية ومزيد من الحماية للموظفين المبلغين عن المخالفات.

وتضم قائمة الأعضاء الآخرين ويليام سوندرز، وهو مهندس أبحاث غادر أوبن إيه آي في فبراير/شباط الماضي، و3 موظفين سابقين في الشركة هم كارول وينرايت وجاكوب هيلتون ودانييل زيغلر.

وأضاف دانيال كوكوتاييلو أن العديد من الموظفين الحاليين في أوبن إيه آي دعموا هذه الرسالة دون الكشف عن هويتهم لأنهم يخشون انتقام الشركة.

كما وقّع على الرسالة موظف حالي وآخر سابق في شركة غوغل ديب مايند، وهي مختبر غوغل المركزي في مجال الذكاء الاصطناعي.

من جانبها، صرحت ليندسي هيلد، المتحدثة باسم شركة أوبن إيه آي، في بيان لها نشره تقرير نيويورك تايمز "نحن فخورون بسجلنا الحافل بتوفير أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي كفاءة وأمانا، ونثق في نهجنا العلمي لمواجهة المخاطر. نحن نتفق على أن النقاش الجاد أمر بالغ الأهمية نظرا لقيمة هذه التقنية، وسنستمر في التواصل مع الحكومات والمجتمع المدني والمجتمعات الأخرى حول العالم".

مجموعة الموظفين في أوبن إيه آي يقولون إن الشركة لم تتخذ ما يكفي من إجراءات تمنع خطر أنظمة الذكاء الاصطناعي في المستقبل (الفرنسية) لحظة حرجة

وذكر التقرير أن هذه الحملة تأتي في لحظة حرجة بالنسبة لشركة أوبن إيه آي، إذ لا تزال الشركة تتعافى من محاولة انقلاب العام الماضي، عندما صوّت أعضاء مجلس إدارة الشركة على إقالة رئيسها التنفيذي سام ألتمان، وذلك نتيجة مخاوف بشأن مدى صراحته مع مجلس الإدارة. ثم عاد ألتمان بعدها بأيام لقيادة الشركة، وأعيد تشكيل مجلس الإدارة بأعضاء جدد.

كما تواجه الشركة معارك قانونية مع صانعي المحتوى ممن اتهموها بسرقة أعمال محمية بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التي تملكها. كما أن نزاعها الأخير العلني مع الممثلة الشهيرة سكارليت جوهانسون، التي ادعت أن أوبن إيه آي استخدمت صوتها دون الحصول على إذنها في مساعد صوتي طرحته الشركة مؤخرا أضر بصورتها.

ولكن وبحسب التقرير لم يؤثر بها أي اتهام مثل الاتهام بأن الشركة تتعامل باستهتار شديد مع مسألة الأمان والسلامة للذكاء الاصطناعي.

وفي مايو/أيار الماضي، غادر اثنان من كبار الباحثين في مجال السلامة داخل الشركة وهما إيليا سوتسكيفر، المؤسس المشارك للشركة، وجان ليكه. وشارك حينها ليكه مزيدا من التفاصيل حول سبب مغادرته الشركة، فكتب عبر حسابه على منصة إكس "إن صنع آلات أكثر ذكاء من البشر مسعى محفوف بالمخاطر بطبيعته. تتحمل أوبن إيه آي مسؤولية هائلة نيابة عن البشرية بأسرها. ولكن على مدى السنوات الماضية، تراجعت ثقافة السلامة وعملياتها على حساب المنتجات البرّاقة".

كان الاثنان يقودان فريق المخاطر طويلة الأمد للذكاء الاصطناعي الذي كانت مهمته تركز على الإنجازات العلمية والتقنية لتوجيه أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر ذكاء منا والتحكم فيها. لم يوقع الاثنان على الرسالة العلنية التي كتبها الموظفون السابقون، لكن استقالتهما من الشركة حفزت هؤلاء الموظفين السابقين على التحدث علنا.

كوكوتاييلو يقول إنه في عام 2022، بدأت مايكروسوفت في اختبار نسخة جديدة من محرك البحث بينغ في الهند بدون موافقة مجلس السلامة (غيتي) العالم ليس جاهزا

انضم دانيال كوكوتاييلو، البالغ من العمر (31 عاما)، إلى أوبن إيه آي في عام 2022 كباحث في مجال الحوكمة، وطُلب منه توقُّع مدى تطور الذكاء الاصطناعي، ولكنه لم يكن متفائلا، بحسب تقرير نيويورك تايمز.

ففي وظيفته السابقة في إحدى منظمات سلامة الذكاء الاصطناعي، تنبأ باحتمال وصول الذكاء الاصطناعي العام في 2050. ولكن بعد رؤيته لمدى سرعة تطور هذه التقنيات، قلص المدة الزمنية التي توقعها، إذ يعتقد الآن أن ثمة احتمالا بنسبة 50% لوصول الذكاء الاصطناعي العام بحلول 2027، أي في غضون 3 سنوات فحسب.

كما يرى أن احتمالية تدمير الذكاء الاصطناعي المتطور للبشرية أو إلحاق أضرار كارثية بها تبلغ 70%، بحسب التقرير.

كما لاحظ أنه بالرغم من وجود بروتوكولات أمان لدى شركة أوبن إيه آي، ومنها جهود مشتركة مع مايكروسوفت تُعرف باسم "مجلس سلامة التطبيق"، والمفترض أن يراجع النماذج الجديدة بحثا عن المخاطر الأساسية قبل إصدارها للجمهور، فإنه نادرا ما كانت هذه البروتوكولات تبطئ من وتيرة عمل الشركة.

وأضاف أنه في عام 2022، بدأت مايكروسوفت مثلا في اختبار نسخة جديدة من محرك البحث بينغ في الهند بهدوء، واعتقد بعض موظفي أوبن إيه آي حينها أنه كان يتضمن نسخة لم تصدر بعد من نموذج "جي بي تي-4″، وهو النموذج اللغوي الأقوى لدى الشركة.

وأشار لإبلاغه أن مايكروسوفت لم تحصل على موافقة مجلس السلامة قبل اختبار النموذج الجديد، وبعد أن علم المجلس بتلك الاختبارات، عبر سلسلة من التقارير التي أفادت بأن بينغ يتصرف بطريقة غريبة تجاه المستخدمين، لم يتخذ أي إجراء لمنع مايكروسوفت من طرح محرك بحثها الجديد على نطاق أوسع، بحسب التقرير.

لكن فرانك شو، المتحدث باسم مايكروسوفت، نفى صحة تلك الادعاءات، وقال إن اختبارات محرك البحث بينغ في الهند لم تستخدم نموذج "جي بي تي-4" أو أيا من نماذج الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة أوبن إيه آي.

وذكر أن أول مرة أصدرت فيها مايكروسوفت تقنية قائمة على نموذج "جي بي تي-4" كانت في أوائل عام 2023، وقد راجعها ووافق عليها المجلس مسبقا.

وفي النهاية، يذكر التقرير أن دانيال كوكوتاييلو أصبح يشعر بالقلق الشديد لدرجة دفعته في العام الماضي إلى إبلاغ سام ألتمان بأن على الشركة "التحول إلى السلامة" وتخصيص مزيد من الوقت والموارد للحماية من مخاطر الذكاء الاصطناعي بدلا من الاندفاع إلى تطوير نماذجها بهذه السرعة. وقال إن ألتمان ادعى الاتفاق معه في الرأي، ولكن لم يتغير أي شيء يذكر.

في شهر أبريل/نيسان الماضي، استقال كوكوتاييلو من الشركة. وقال في رسالة بريد إلكتروني إلى فريقه إنه سيغادر، لأنه "فقد الثقة بأن أوبن إيه آي ستتصرف بمسؤولية" مع اقتراب أنظمتها من مستوى الذكاء البشري.

وكتب في رسالته "العالم ليس جاهزا، ونحن لسنا مستعدين. ويساورني القلق من أننا نندفع إلى الأمام بغض النظر عن هذا الواقع، ونجد مبررات لأفعالنا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الذکاء الاصطناعی العام أنظمة الذکاء الاصطناعی شرکة أوبن إیه آی فی أوبن إیه آی فی الشرکة فی مجال

إقرأ أيضاً:

هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟

في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.

كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟

لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.

كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.

ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.

المنافع المتوقعة

إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،

ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.

الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية

عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.

عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.

نظرة مستقبلية مشرقة

تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.

كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

مقالات مشابهة

  • كيف تعمل من المنزل باستخدام الذكاء الاصطناعي؟
  • أوبن أيه آي.. إطلاق أول نموذج لغوي مفتوح يشعل السباق في عالم الذكاء الاصطناعي
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
  • خبراء: الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للبشر
  • هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
  • إطلاق أول برنامج دكتوراه في الذكاء الاصطناعي في دبي
  • هل قول من فضلك للذكاء الاصطناعي يضر بالبيئة؟
  • ميتا: إنستغرام يستخدم الذكاء الاصطناعي لمنع القُصّر من الكذب بشأن أعمارهم
  • أسعار البيض تحلّق في أوروبا... من هي الدولة التي تدفع أكثر من غيرها؟