هل يمكن لنا أن نتخيّل الجواهري، أو السيّاب، أو محمود درويش يظهر ممثّلا في عمل درامي؟
أظنُّ أنّ الفرضية بعيدة؛ فالساحة ليست ساحة الشاعر، لكن هذا لم يمنع السينما والإذاعة والتلفزيون من مشاركة عدد من الشعراء في أفلام ومسلسلات تلفزيونيّة من بينهم: الشاعر عبدالرحمن الخميسي الذي شارك في فيلم(الأرض) ليوسف شاهين، وأدّى دورًا مهمًّا هو الشيخ يوسف، كما مثّل الدكتور عبد الأمير الورد، الشاعر وأستاذ النحو بجامعة بغداد في عدّة مسلسلات تلفزيونيّة، قّدمت باللغة العربية الفصحى، وكان يعمل مدقّقا لغويا لمعظمها، أما د.
وشارك الشاعر نزار قبّاني في بطولة مسلسل إذاعي إلى جانب المطربة نجاة الصغيرة، وكمال الشناوي، ونعيمة وصفي، وعبد البديع العربي وعنوانه (القيثارة الحزينة) وذلك عام1967 والمسلسل من تأليف يوسف السباعي ووضع الموسيقى له محمد عبد الوهاب، وجاءت مشاركة قباني بجهود السيد بدير بعد نجاح أغنية نجاة(أيظنّ) عام1960 و(ماذا أقول له؟) و(إلى حبيبي) و(أسألك الرحيلا) التي لحّنها عبد الوهاب قبل رحيله، ويقول المحرر الفني لـجريدة (الاتحاد) بعددها الصادر في 10 أغسطس 2018: «نزار الذي مثّل لأوّل وآخر مرّة في حياته، ظلّ طوال المسلسل يتحدّث كأنه يلقى قصيدة، وكان كلّ مشهد بمثابة بيت شعر يرتّله بصوته»، ولم تكن تلك المشاركة أخيرة، فقد وقف أمام كاميرا السينما في فيلم (القنّاص) الذي أخرجه الراحل فيصل الياسري عام ١٩٧٩ وتجري أحداثه في بيروت وتدور حول الحرب الأهلية اللبنانية، وظهر الشاعر نزار قباني في هذا الفيلم في أكثر من مشهد، أوّلها عندما يحضر بطل الفيلم أمسية له، يلقي فيها قباني قصيدته «يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ»:
مَنْ ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضراوينْ؟
من شطّبَ وجهكِ بالسّكّين
وبعد انتهائه من قراءة القصيدة يدخل شاب في نقاش معه، وبعد خروجه من الأمسية يسقط صريعًا برصاصة قنّاص، فظهور قباني كان مفصليّا ومن نسيج الفيلم، وعليه تبنى أحداثه، وعن لقائه بقباني لمفاتحته بموضوع المشاركة، يقول الياسري « كانت زيارتي إلى نزار قباني منتصف عام 1979 في بيروت، وكانت مهمتنا إقناع نزار قباني أن يمثّل في فيلمي، وأن يظهر في مشهد، وهو يقرأ مقاطع من قصيدته تلك أمام جمع من الناس ويدخل معه في نقاش وحوار حول بيروت التي يعشقها!!» ويواصل الياسري حديثه: «طرقنا باب المنزل ففتحته لنا زوجته العراقية بلقيس الراوي، وأوسعت لنا الطريق ببشاشة، ثم جاءنا صوت نزار قادما نحونا مرحّبا.. استهوت فكرة فيلم (القناص) نزار قباني، وكان صبورا معنا أثناء التصوير الذي استغرق ثلاثة أيّام بسبب تكرار انقطاع التيار الكهربائي في المركز الثقافي العراقي في بيروت، حيث كنّا نصور مشاهد الأمسية الشعرية «، ولا نعدّ هذا الظهور تمثيلا، فهو يشبه ظهور الكاتب توفيق الحكيم في فيلم (عصفور الشرق) 1986م ليوسف فرنسيس، وهو يجيب عن أسئلة الفنان نور الشريف المتعلقة بكتابيه (عصفور من الشرق) و (يوميات نائب في الأرياف) ويأخذ موافقته بأنّ يمثّل دوره في شبابه، ولم تكن مهمة المخرج سهلة، فقد بذل جهدًا كبيرًا في إقناع الكاتب الكبير الذي غادر عالمنا بعد عام واحد من إنتاج الفيلم، وكذلك يشبه ظهور المفكر إدوارد سعيد في فيلم (الآخر) ليوسف شاهين متحدّثا للممثل (هاني سلامة) وزميل له عن الحوار مع الآخر والتعايش معه، أي يظهر الكاتب بشخصيته الحقيقية، ويبدو أن المشترك الذي يجمع الشاعر بالممثل يتجسّد في الأداء، وقد ارتبطت بدايات المسرح اليوناني بأداء الشاعر الإغريقي أسخيلوس لأعماله المسرحية ويشير ألاردايس نيكول في كتابه (المسرحية العالمية) أن تاريخ المسرح بدأ حوالي سنة 490 ق.م. عندما وقف أسخيلوس أمام النظارة في أثينا، وقرأ مسرحيته «الضارعات»، وكان تقف خلفه الجوقة، لكن الشاعر المسرحي انسحب شيئا فشيئا من خشبة المسرح، تاركا المكان للممثل، واشتهر شعراء كثيرون بجمال الإلقاء، وهذا يجعل من السهولة إقناع الشاعر بالدخول في مجال التمثيل ولكن للأخير فرسانه مثلما للشعر فرسانه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نزار قبانی فی فیلم
إقرأ أيضاً:
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقافي السوفياتي بالروسية؟
كان اسم شمشاد عبد اللهيف ذاته تقاطعًا بين الثقافات، حيث يجمع بين اسم فارسي ("شجرة تشبه الصنوبر")، ولقب عربي ("عبد الله")، والنهاية السلافية "يف" التي تعني ببساطة "من".
هذه التوليفة الثقافية كانت ممكنة في قلب طريق الحرير العظيم السابق، وتحديدًا في أوزبكستان السوفياتية السابقة، الدولة الواقعة في آسيا الوسطى والتي ارتبطت -في الحقبة السوفياتية- بالمأساة السياسية وعمالة الأطفال في صناعة القطن.
بمظهر يشبه نجمًا سينمائيًا إيطاليًا متقدمًا في العمر وسلوك أرستقراطي رفيع، كان شمشاد عبد اللهيف، الذي توفي هذا العام بسبب السرطان عن عمر ناهز 66 عامًا، شاعرًا وكاتبًا يبدع بالروسية. إنتاجه الأدبي كان متواضعًا، عدة كتب صغيرة من الشعر والمقالات، وسيناريو لفيلم لم يُنتج، ولكنه ساعده في شراء شقة في مدينة فرغانة الأوزبكية في أواخر الثمانينيات.
رغم افتقاد قصائده للقافية والوزن الثابت، فإن حياته وأعماله تقدم إجابات على أسئلة شائكة تواجه الفنانين اليوم: هل يمكن للفن أن يكون مسؤولا عن الحروب والإمبريالية؟ وكيف يمكن إزالة الاستعمار من ثقافتك إذا كنت تكتب بلغة المستعمر السابق؟ ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثالث، يبرز سؤال آخر: إلى أي مدى يجب أن ترفض اللغة والثقافة الروسية؟ خاصة إذا كانت هذه اللغة هي أداة التعبير الفني لشخص غير سياسي يكره الاستبداد، وليس له أصول روسية، وتعرض للنقد لعدم اتباعه التقاليد الشعرية الروسية.
إعلانونشر عبد اللهيف أول مجموعة شعرية له بعنوان "الفجوة" في سانت بطرسبورغ عام 1994 من خلال مجلة Mitin. لاقت المجموعة إشادة نقدية واسعة وحصلت على جائزة أندريه بيلي في العام نفسه، وهي واحدة من الجوائز الأدبية الأكثر أهمية في روسيا.
فرغانةيرتبط اسم "فرغانة" بالنسبة لمعظم من يعرفون آسيا الوسطى السوفياتية السابقة بوادي يقطنه 16 مليون شخص، وهو المنطقة الأكثر خصوبة وكثافة سكانية بين الصين وإيران وروسيا. لعب هذا الوادي دورًا محوريًا في طريق الحرير العظيم، حيث جمع بين الثقافات والأديان والتكنولوجيا. ورغم تقسيمه بين أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، أصبح موقعًا للتوترات السياسية والمجازر بعد الحقبة السوفياتية.
لكن عبد اللهيف جعل من اسم "فرغانة" رمزا لمزيج ثقافي غير تقليدي من خلال كتاباته. ففي سبعينيات القرن الماضي، جلب عبد اللهيف تيارات الحداثة الغربية المحظورة إلى الشعر الروسي، وأسس عبد اللهيف "مدرسة فرغانة الشعرية" عام 1990 إلى جانب الشعراء الأوزبكيين حميد إسماعيلوف وهمدام زاكيروف. تميزت هذه المدرسة بتركيزها على كتابة الشعر باللغة الروسية واعتبارها أداة للحوار الثقافي بين الشعوب ما بعد السوفياتية.
الظهيرة – مشدود – بجلد ليلكي (لون زهر الليلك)
تشق على طول طية، تكشف عن طريق إلى التفتح،
العش يشعر بثقل، والموت
لا يغرق في إناء من العسل المتقزح الألوان"
(من قصيدة "الظهيرة، 1975″، مترجم بواسطة أليكس سيغال)
"النجم الشرقي"تميز أسلوب عبد اللهيف بالهروب الداخلي الذي كان مناهضًا لنبرة ولغة وأسلوب الأدب السوفياتي الرسمية، واستطاع الابتعاد عن رقابة السلطات بفضل موقع فرغانة النائي عن موسكو. أصبحت المدينة الهادئة، المغطاة بأشجار الجميز، مهدًا للإبداع غير التقليدي بعيدا عن رادار المسؤولين الشيوعيين والخدمات السرية التي أجبرت الكتاب الأكثر تسييسًا -والحائزين جائزة نوبل في المستقبل- ألكسندر سولجينتسين ويوسف برودسكي على الخروج من الاتحاد السوفياتي.
إعلانوفي فرغانة قدم موسيقيون وفنانون مثل إنفر إزمايلوف وسيرجي أليبكوف إبداعات مميزة، حيث طور الأول أسلوبًا فريدًا في العزف على الجيتار، بينما دمج الأخير بين الفن الأوروبي والآسيوي.
ظهرت أعمال عبد اللهيف فقط بعد إصلاحات البيريسترويكا التي فتحت الاتحاد السوفياتي للعالم. ومنذ عام 1991، عمل عبد اللهيف محررًا للشعر في المجلة الأدبية "زفيزدا فوستكا" ("النجم الشرقي")، ونشرت المجلة أعمال الحداثيين الغربيين التي كانت محظورة، إلى جانب الترجمة المنقحة للقرآن الكريم، وأعمال الفلاسفة الصوفيين، والفلاسفة الطاويين الصينيين، والشاعر السوري أدونيس.
برز شمشاد عبد اللهيف كأيقونة بين الفنانين غير التقليديين في الجمهوريات السوفياتية السابقة، في حين قوبل بازدراء من قبل الكتّاب المحافظين.
يقول دانييل كيسلوف، أحد أتباع عبد اللهيف الذي أصبح لاحقًا محررًا للموقع الإخباري المؤثر "فيرجانا.رو" ومحللًا لشؤون آسيا الوسطى: "في الثمانينيات، كان شمشاد قد بدأ بالفعل في استخدام لغة شعرية جديدة اخترعها بنفسه، مما أثار استياء جميع التقليديين في الأدب الروسي".
في عام 1994، حصل عبد اللهيف على جائزة تحمل اسم الشاعر الروسي البارز أندريه بيلي، وهي جائزة ثقافية مضادة يتمثل رمزها في كأس من الفودكا وتفاحة، كان على الفائز تناولها أمام لجنة التحكيم والجمهور الأدبي. ورغم أن عبد اللهيف لم يكن من هواة الكحول، فقد أجبر نفسه على "قبول" الجائزة.
شهدت مجلة "زفيزدا فوستكا" قفزة هائلة في شعبيتها، حيث بلغ توزيعها رقمًا مذهلا وصل إلى 250 ألف نسخة، معظمها بيعت في روسيا المستقلة والجمهوريات البلطيقية.
صديقي ومرشديفي تلك الفترة، تعرفت إلى شمشاد عبد اللهيف وأصبحنا صديقين. على الفور، أقنعني بترجمة عدة قصائد من الإنجليزية والإيطالية. كنت طالبًا في التاسعة عشرة من عمري أدرس الأدب الإنجليزي، وسعدت برؤية اسمي منشورًا في مجلة "جادة".
إعلانلاحقًا، بعد أن حصلت على وظيفة مكتبية، توليت كتابة عشرات من قصائده على الحاسوب لإرسالها عبر البريد الإلكتروني إلى ناشريه وأصدقائه المنتشرين على مسافات تبعد آلاف الكيلومترات.
كان عبد اللهيف يكرر لي مقولته الشهيرة: "مركز العالم ليس في أي مكان، وهو في كل مكان"، مؤكدًا أن الأدب من الطراز العالمي قد يُنسى في أماكن نائية من آسيا الوسطى.
لكن مجلة أدبية رائدة لم تكن شيئًا يمكن لرئيس أوزبكستان السلطوي إسلام كريموف أن يتسامح معه. ففي عام 1995، أمر بفصل جميع أعضاء هيئة تحرير مجلة "زفيزدا فوستكا".
شاعر بلا عملأصبح عبد اللهيف شاعرًا عاطلًا عن العمل، يعيش في حالة رثة قريبة من الفقر، لكنه ظل يسافر بشكل متكرر إلى مهرجانات أدبية في الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا والولايات المتحدة.
مثل مئات الفنانين ذوي الفكر المستقل، الذين يتجنبون رعاية الدولة وضجيج الإعلام والسياسة، جسد عبد اللهيف بشكل رمزي استعادة الفن الراقي لنقائه الأصلي.
بين التضحيات والإمبراطورياتيتطلب الفن الراقي عقودًا من التفاني في شكل فني – سواء كان موسيقى أو أدبًا أو رسمًا – ويستند إلى قرون من التقاليد. ورغم ذلك، فإنه يزدهر غالبًا في البلدان الغنية التي عادة ما تكون إمبراطوريات، إذ تقوم هذه الدول أحيانًا بتلميع سجلها الملطخ بالدماء من خلال دعم الفنون.
كان "المؤلف" الأول المعروف في التاريخ هو الشاعرة الأكدية الأسطورية إنخيدوانا، التي جعلها والدها سرجون الأكدي الكاهنة الكبرى لإله القمر "نانا"، بينما كان يوحد إمبراطورية قديمة كبرى بالشرق الأوسط.
في روما القديمة، أغدق الإمبراطور أغسطس بالذهب على الشاعر الروماني فيرجيل، الذي أصبحت قصيدته الطويلة "الإنيادة" محور الأدب اللاتيني، وجاءت هذه الثروات من غنائم حروب الإمبراطورية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وبالنسبة للإيرانيين، تمثل "شاهنامه"، الملحمة التي كتبها الفردوسي، الروح الوطنية الإيرانية. لكن هذه الملحمة دُعمت ماليًا من قبل السلطان محمود الغزنوي، الذي غرق في بحور من الدماء خلال حملاته شمال شبه القارة الهندية وما يعرف الآن بباكستان.
إعلان الفنانون المستقلون ودروس التاريخمع ذلك، لم يكتب فنانون مثل فنسنت فان جوخ، ومعلم الهايكو الياباني ماتسو باشو، والشاعر الفرنسي شارل بودلير، وعبد اللهيف، أناشيد مدح للحكام. لم ينحنوا أمام السلطة، ولم يقبلوا بالعمولات الغنية أو المعاشات الحكومية، ودفعوا ثمن صدقهم بحياتهم:
"أغنية الطائر المحاكي تتسرب إلى طعم الكرز الأسود
خاصة هنا في ساحة الأب والأم
حيث للمرة الأولى يُسمع السؤال
والجواب بالتناغم
انتعاش المناطق النائية المختفية في
نهاية القرن عندما
تشبه المرحلة النهائية لأي كون صغير فجرًا طويلًا."
(من قصيدة "العائلة"، ترجمة أليكس سيجال).