في الحياة كما في الروايات والأفلام والمسلسلات، هناك قضايا رابحة وأخرى خاسرة. قد تبدو مسألة الفوز والخسارة نسبية هنا ومتعددة، فهذه قضية رابحة أكاديميا يحصل بموجبها الأكاديمي على منصب مرموق نظير تبنيه لموقف ما ودفع طلابه باتجاهه؛ أما زميله فيخسر مقعده الأكاديمي لتبنيه موقفا آخر، ولنا في المظاهرات الطلابية في أمريكا وأوروبا مثال حي.
يتبنى كثير من الناس بطريقة عملية وناجعة مبدأ الفوز في كل شيء تقريبا، ولكن لكل شيء ثمنه؛ وكي يكون المرء في الجانب الفائز دوما فعليه أن يتبنى مواقف معينة، ويسلك سلوكا معينا يوقعه لا محالة في شراك التعارض الصارخ مع الدين، المبادئ الأخلاقية، الإنسانية، أو حتى الوفاء للوطن والأمانة، في تعارض مع واحد من هذه الأعمدة أو معها كلها!. فكي يفوز المرء دائما، لا بد أن يكون كائنا يشبه الحرباء تتكيف وتتلون حسبما تقتضيه المصلحة وأينما تجري رياح الفوز، أما المتمسك بمبدأ فسيجد من يخالف ذلك المبدأ بغض النظر عن خطئه وصوابه. في الهواتف الذكية خاصية تتيح لمستعملها عرض الذكريات والصور وفقا لليوم أو الشهر أو الحالة الجوية لدى التقاط تلك الذكريات، وللإنسان بصفته كائنا يعيش على هذه البسيطة تاريخه وأرشيف ذكرياته المرقوم في كتبه ؛ فيكفي أن يقلب المرء صفحات كتاب تاريخي ليقرأ سيرورة الربح والخسارة الماديتين أو المعنويتين. ففي الخسارة المادية، يرى الإنسان المادي الموت خسارة فادحة؛ بينما يراها المؤمن فوزا وشهادة. وفي حين أن المادي يرى خيانة الوطن فوزا نظير حفنة من المال أو تسهيلات وميزات يتلقاها من المحتل، فإنها خسارة عظيمة وفق كل الشرائع والمبادئ الإنسانية العامة في الشرق والغرب.
في ضوء هذا كله نجد جرّاحا للأمة أو الوطن يُعمِل في الناس مِبضَعَه من دون تخدير، وهو مبضع ناجع وفعّال حتى وإن ظهرت نتائجه بعد فترة من الزمن؛ وهو ما يحدث غالبا. فهذا الجرّاح الماهر، قد يمتد أثر مبضعه لقرون لا لفترة بسيطة فحسب، فهناك من يستعمل نظرياته وهناك من يقتبس من أعماله وهناك من يتأثر به في شتى مناحي الحياة؛ إنه المثقف. وفي فترة تاريخية حرجة يشاهد فيها المرء بغير حول منه ولا قوة إبادة صارخة وصريحة ولا يستطيع إيقافها إيقافا فوريا، يتفاجأ بأن يجد مِن بني جلدته، بل من يدعي الإنسانية يبرر الإبادة ويراها حدثا عاديا، مبرئا المجرم، ومساويا بينه وبين الضحية!.
في القرن الماضي، ذهب الفيلسوف والأكاديمي الفرنسي المعاصر ريجيه دوبريه إلى بوليفيا في عمل صحفي، لينتهي به الأمر في السجن وقد لفقت له السلطة آنذاك تهما بانضمامه إلى الثوار. شاهد في سجنه وحبسه المآسي تلو الأخرى، وليس آخرها فريق المخابرات الأمريكي الذي كان يتدخل في ذلك البلد اللاتيني تدخله في شتى بقاع العالم، ليكتب بألم وحسرة «..طالما أن العالم هو ما هو عليه، فإني لا أتمنى أن أموت في فراشي». وفي تلك الفترة من الظلم والاضطهاد الذي لحق تلك البلدان المسحوقة آنذاك، كان لعدد من المفكرين الأثر في تغيير أحوال تلك البلدان التي أصبح بعضها في مصاف الدول العظمى إثر الإصلاحات والنضال على مدى أجيال. وفي جانب آخر من العالم، يحدث أن تجد مجموعة من المثقفين الذين يضعون مبضعهم لا ليستأصلوا الزائدة الدودية من الأمة، بل ليقطعوا الأمعاء فتموت الأمة ببطء. ولا أعني بمصطلح الأمة هنا المصطلح ذو البعد الديني فحسب بل ببعديه الجغرافي والعِرقي، ونحن نعيش في منطقة ساخنة متربّصٌ بها من شتى الاتجاهات.
يتجلى التوحش الثقافي في التطرف القاتل المتمثل في إقصاء الآخر والتسفيه برأيه ونقده نقدا لا يبت للموضوعية بصلة، مع استعمال مبالغ فيه لمصطلحات مثل الرجعية والتخلف والعصور الحجرية وما شابهها لدى الحديث عنه أو إليه؛ وهو توحش يضرب جذور الثوابت ليوهمنا بأن هنالك ثوابت أخرى، الثوابت التي يريدها هو. فـ«عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحد للصلاة، والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، هو الاستحمار، وإن كان عملا مقدسا. وقوفا في الصلاة، أو انشغالا بمطالعة أحسن الكتب العلمية والأدبية، أو مناجاة مع الله؛ وأي شيء تنشغل به في هذا المجال، يفيد أن المسبب قد استعمرك. وإن أي جيل ينصرف عن التفكير في «الدراية الإنسانية» كعقيدة واتجاه فكري، ومسير حياتي، وتحرك مداوم إلى أي شيء حتى ولو كان مقدسا، هو استحمار. وقد لا يدعوك الاستحمار إلى القبائح والانحرافات أحيانا، بل بالعكس، قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر أنت بها، وهنا يغفل الإنسان، ويتجه نحو جمال العمل، ولطافته غافلا عن الشيء الذي ينبغي أن يَعِيه، وهذا هو الاستحمار من طريق غير مباشر.«من كتاب النباهة والاستحمار لعلي شريعتي». وإن الدعوة إلى تجاهل الإبادة سواء في غزة أو السودان أو أي مكان آخر، والدعوة إلى استمرائها وإلى الاشتغال بقضايا الهامش كالخلافات الدينية وقال فلان وفعل فلان؛ مما يندرج تحت الاستحمار.
يحمل لواء التوحش الثقافي اليوم ثلة من المثقفين الذين يصفون أنفسهم بالمتنورين، وهم في الحقيقة لا يقلون تطرفا عن المتطرفين الذين يملكون السلاح. فالتنوير الحقيقي يكمن في اتّباع الحق والحقيقة وإن قالها المخالف لي فكريا، بل وإن قالها عدوي ما لم يكن فيها استغفال أو استغباء. وليس أدل على أهمية الاستفادة من معسكر العدو من جماعة المؤرخين الجدد الذين هم يهود مولودون في الأراضي المحتلة «إسرائيل» وقدموا دراسات وأبحاثا وكتبا تعد حجر الأساس في تقويض الاحتلال وآخر معاقل الاستعمار الاستيطاني الصارخ على وجه هذه البسيطة. فهل سنكترث للعدو وبيننا وبينه مسافة آمنة، أم ننتظر اقترابه من الأبواب كي نستيقظ من سكرة التوحش الرعناء، ونتفق ونجتمع على تفكيك وبناء العقل والعقلية السليمة نقديا وتاريخيا وثقافيا في مواجهة الاستعمار الناعم؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
محاضرة تسلط الضوء على دور المسرح في بناء الوعي الثقافي
«عمان»: ضمن أنشطة جناح وزارة الثقافة والرياضة والشباب فـي معرض مسقط الدولي للكتاب، نظّمت المديرية العامة للفنون جلسة حوارية بعنوان «دور المسرح فـي بناء الوعي الثقافـي»، جمعت نخبة من الأصوات المسرحية العُمانية التي تشكّل امتدادًا فعّالًا فـي الفضاء الثقافـي المحلي، وأدار الجلسة سعود الخنجري، واستضافت كلًا من الكاتب والمخرج المسرحي أسامة بن زايد الشقصي، والممثل المسرحي عمران بن صالح الرحبي، إلى جانب الكاتب والمخرج أحمد ضحي الشبلي، فـي حوار تلامس محاوره جوهر العلاقة بين المسرح والمجتمع، ودور الخشبة فـي تأطير الوعي وتفكيك الأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان العُماني والعربي.
استهلّ أحمد الشبلي حديثه بالإشارة إلى التحوّل النوعي فـي وعي الفضاء الثقافـي العُماني، مؤكدًا أن المسرح لم يعد يُختزل فـي كونه فنًا أدائيًا للترفـيه، بل تجاوز ذلك ليغدو أداة للتأثير والتنوير، وقوة رمزية للمطالبة بالحقوق ومساءلة الواقع.
وأشار إلى إدماج مادة المسرح ضمن بعض المناهج التعليمية باعتباره وسيطًا تربويًا ونفسيًا، يساعد الناشئة على التعبير وتجاوز الخجل، إلى جانب كونه وسيلة فنية لحل المشكلات المجتمعية بلغة رمزية وإبداعية. وأضاف أن المسرح قادر على ترسيخ الهُوية، ونقل التراث، وإدخال الذائقة الموسيقية والبصرية فـي الحياة اليومية للأفراد، مما يجعله رافدًا عميقًا فـي تشكيل وعي جماعي أكثر نضجًا واتساعًا.
من جانبه، أكد عمران الرحبي أن المسرح لم يعد منفصلًا عن هموم الناس، بل بات منصة فكرية ومجتمعية قادرة على استيعاب القضايا المعاصرة وتقديمها فـي صيغة فنية محفّزة للنقاش. ولفت إلى أهمية عروض المسرح لذوي الإعاقة، ليس بوصفها عروضًا متخصصة، بل كجزء من خطاب أوسع يتناول قضايا إنسانية مشتركة، تمسّ الجميع وتوحّد التجربة البشرية تحت مظلة الوعي الجمعي. وشدد الرحبي على أن الجمهور اليوم لم يعد متلقّيًا سلبيًا، بل يشارك فـي تشكيل الخطاب المسرحي ويعيد إنتاج معانيه، مما يستوجب من المسرحيين مستوى أعمق من التأمل والمسؤولية.
أما الكاتب والمخرج أسامة الشقصي، فاقترب من زاوية الكتابة المسرحية، مؤكدًا أن النص الجيد لا يُكتب لفئة عمرية محددة، بل ينطلق من الوعي ويُخاطب الوعي. وأوضح أن المسرح يبدأ من القراءة العميقة، ومن إدراك أن كل نص هو محاولة لفهم الذات والواقع من جديد. وأشار إلى أن المتلقي الناضج لا يقرأ فقط، بل يعيد التفكير فـيما قُدّم إليه، ويخرج من العرض محمّلًا بأسئلته الخاصة.
شهدت الجلسة تفاعلًا ملحوظًا من جمهور المعرض، حيث تخللتها مداخلات ثرية وأسئلة طَرحت هواجس المسرحيين والجمهور على حد سواء، ولا سيما ما يتعلق بتحديات الإنتاج المسرحي، وتوزيع العروض خارج المركز، ودعم المواهب الصاعدة فـي المحافظات. وأكد المشاركون أن المسرح ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة أو تقديم العروض، بل هو مساحة حرة للتعبير، ومختبر فكري يعيد طرح أسئلة الإنسان، وهُويته، ومكانه فـي هذا العالم. وتأتي هذه الجلسة ضمن جهود وزارة الثقافة والرياضة والشباب لتفعيل الحراك المسرحي وتعزيز حضوره كأحد أبرز أعمدة النهضة الثقافـية العمانية.