يمانيون/ تقارير
بايدن أتاح الإبادة، وهو يحمي منفذيها، ويلاحق معهم كل من يتحرك عبر العالم لوقفها، بما في ذلك هيئات الأمم المتحدة ومؤسسات العدالة الدولية التي تخدم إمبراطوريته منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
أحدث الطرح الذي تقدّم به الرئيس الأميركي جو بايدن خرقاً في المراوحة التي كانت قائمة طوال الأسابيع الأخيرة في حرب الإبادة على غزة، لكنها مع ذلك لا تزال مبادرةً ملتبسة تختزن الكثير من دواعي الشكوك والحلقات الغائبة التي يمكن أن تقوض فرصها في تحقيق ما يبتغيه بايدن، فضلاً عن طرفي المواجهة المباشرين؛ الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية.
أول دواعي الالتباس في طرح بايدن هو إعلانه أن مبادرته هذه هي طرحٌ إسرائيلي، ثم محاولة رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو التنصل من الطرح، الأمر الذي يمكن أن يفسَّر بمعانٍ مختلفة.
وثانيها أن في مضامين الطرح المعلن غياباً لحسم موافقة الكيان على وقف دائمٍ لإطلاق النار والانسحاب من القطاع بأكمله مع اكتمال تنفيذ الخطة.
وثالثها غياب السيناريو الواضح للحكم في غزة بعد إتمام مراحل الاتفاق كلّها.
ورابعها غياب آلية الضمانة الأميركية التي ستجبر الكيان على وقف الحرب وتنفيذ باقي المندرجات التي تمثّل شروطاً فلسطينية.
وخامسها غياب الضمانة الأميركية المكتوبة للاتفاق بأكمله، وخصوصاً نقطة مركزية فيه، وهي عدم قيام الكيان بمواصلة الحرب بعد إتمام المرحلة الثالثة والأخيرة من الاتفاق، إذا تمّ.
وفي هذه النقاط الخمس، يتمثل المحك الذي سيحكم ما إذا كان بايدن قادراً على فرض إنهاء الحرب أو ما إذا كان يريد ذلك بالفعل.
التقديرات المنطقية لمصلحة الرئيس الأميركي، ومعها مصلحة واشنطن والكيان على مستوى استراتيجي، تفيد بأن وقف الحرب عند هذا الحد حاجة لهم أكثر من كونه خياراً، ذلك أن الجيش الإسرائيلي استنفد في غزة خياراته العسكرية والأمنية بأكملها تقريباً، والتي كان يفترض أنها ستكون مجدية، لكنها لم تكن كذلك في الميدان.
الورقة الأخيرة التي يمثّلها اجتياح رفح، والتي لوّح بها وهدد المقاومة والشعب الفلسطينيين والوسطاء العرب، بدت قاصرةً عن تأمين أي نصرٍ أو هيكل شبيه يمكن تسويقه على أنه نصر، بل إنها زادت الكلفة السياسية والدبلوماسية على الكيان وجيشه، ولم تفلح سوى بقتل المزيد من الفلسطينيين الأبرياء، ومن بينهم الأطفال والنساء، كما جرت عادة هذا الكيان وذلك الجيش.
الفاتورة الإنسانية التي ستلاحق الكيان حول العالم لسنوات طويلة تزيد مع كل إصرارٍ على خيار إضافة القوة إلى القوة وزيادة الدم على الدم.
لا فوائد سياسية إسرائيلية تذكر في الأشهر الماضية، بل خسائر بالجملة. وقد تحولت من خسائر في السمعة والصورة والهيبة والردع إلى خسائر تهدد أسس هيكل الكيان وفرصه في الحياة لسنوات طويلة مقبلة.
بايدن من جانبه يحاول إنقاذ ذلك، وهو يعرف تماماً وظيفة الكيان في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، والحاجة إليه قوياً مهاباً قادراً على إخافة القوى المناهضة للهيمنة الأميركية على المنطقة، فضلاً عن وظيفته في تعطيل قوى المنطقة السيدة، ومنعها من الإمساك بسيادتها وفرصها المستقبلية، وتحريك إرادتها باتجاه مصالحها الوطنية، وهؤلاء الذين تعنيهم النقطة الأخيرة لا يقتصرون على القوى المناهضة للولايات المتحدة، بل يشملون مجمل دول المنطقة الممنوعة من الإمساك بإرادتها الخاصة وسيادتها على المستويين السياسي والاقتصادي.
وضرب الردع الإسرائيلي في نواته الصلبة يعني انهيار هذه القدرة الإسرائيلية، وتالياً القدرة الأميركية على استتباع الدول، كبيرها وصغيرها، ومن يحلم بأن ينمو منها.
ومع هذه الخلاصات التي تبدو بين سطور بايدن خلال الأشهر الممتدة من شباط/فبراير الماضي وحتى اليوم، يجب أخذ مسألة أخرى شديدة الأهمية بالحسبان، وهي الاحتمالات المستقبلية لاندلاع حربٍ إقليميةٍ كبرى، في ظلّ استعداد قوى عالمية كبرى لتغذية تلك الحرب بالتقنيات والأسلحة والمعلومات، لتحويلها من حربٍ بأهدافٍ تقليدية “شرق-أوسطية” إلى حرب نهاية الوجود الأميركي في المنطقة، عبر توفير ما يضمن تدمير أسس التفوق الذي عاش عليه الكيان منذ تأسيسه، وبالتالي تدمير الكيان نفسه، خصوصاً مع جاهزيةٍ غير مسبوقة لقوى محور المقاومة على المستويات البشرية والتقنية وحيازة المعلومة والوسيلة والإرادة والمفاجآت الكثيرة والمثيرة.
هذه الأخيرة لم يتكشف جلّها خلال الأشهر الثمانية الماضية، بل إن ما يظهر منها يتناسب مع الحاجة والسياق والتطورات السياسية والعسكرية الراهنة والتقديرات لاحتمالات المستقبل، وفيها ضرورة أن تُحفظ جواهر التسليح والأساليب إلى وقتها المثالي.
لا نتحدث هنا عن غزة فحسب، بل بالتحديد عن جبهتي لبنان واليمن، وهما الجبهتان اللتان بدا منهما احتمالات هائلة لمفاجآت مدوية باتت في الأسابيع الأخيرة تطال حاملات الطائرات الأميركية؛ عنوان هيبة إمبراطورية العالم، بعدما طالت أبرز قواعد الكيان ومواقعه الحساسة، ما عُلم منها وما لم يُعلم، وما أُعلن وما لم يُعلن.
هذه اللحظة الحالية بهذا المعنى هي لحظة إنهاك قدرة الكيان وتهديد القوة الكامنة خلفه في أعتى وسائلها، لردعهما معاً عن التفكير في استسهال المغامرة الموسعة. تقول هاتان الجبهتان إنَّ على أميركا أن تسارع الآن إلى وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وإلا فإن كل خياراتها ستكون غير قادرة على تأمين الحد المقبول من الأمن للكيان.
ولا بد من قراءة مسار مواقف بايدن وإرادته، استنتاج أنه يفهم ما يحدث، ويقرأ تلك الرسائل كما هي، ووفق مضامينها الحقيقية لا تلك المتاحة للحشود.
وفي هذا الفهم، حاول بايدن منذ بداية الحرب حماسة الكيان وحكومته، وضمان توفير الفرصة له للقضاء على المقاومة إذا أمكن، مع هامشٍ من “الأضرار الجانبية” المقبولة أميركياً، يصل إلى حد الإبادة المنقولة على الهواء مباشرةً.
بايدن أتاح الإبادة، وهو يحمي منفذيها، ويلاحق معهم كل من يتحرك عبر العالم لوقفها، بما في ذلك هيئات الأمم المتحدة ومؤسسات العدالة الدولية التي تخدم إمبراطوريته منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، لكن ذلك كله لم ينفع، وهو الآن كمرشح لا كرئيس مضطر إلى وقف الحرب بما يناسب الكيان إذا أمكن، لكن الظروف الواقعية لا تشير إلى إمكانية صناعة شكل انتصار للأخير.
وبناء عليه، فإنه مضطر إلى الضغط على الدول العربية للضغط بدورها على حماس، لتقبل بأقصى ما يمكن تصويره على أنه مصلحة إسرائيلية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستقبل الكيان.
وفي ذلك مصلحة استراتيجية أميركية، ومصلحة إسرائيلية بتقليص الخسائر الهائلة القائمة والمتوقعة بعد، ومصلحة شخصية انتخابية له ولحزبه، قبل خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، ما يمكن أن يشكل دفعاً قوياً لترشيحه كرئيس قادر على وقف الحرب وحماية الحليف التاريخي، صاحب النفوذ في دوائر صنع القرار وجماعات الضغط داخل أميركا وحول العالم.
هكذا يحاول بايدن منع القوى الكبرى المنافسة من الدخول على خط مأزقه في فلسطين وضمان هزيمة له تبدو محققة؛ فبعد ضغطه على المحكمة الجنائية الدولية لمنع ملاحقة نتنياهو ووزير دفاعه غالانت والكيان بصورة عامة، ها هو يصوّر أن الكيان موافق على الصفقة، وأن المشكلة تكمن في موقف “حماس” منها، ومثله يؤكد الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي أن “الكرة الآن في ملعب حماس”.
ويعود بايدن نفسه ليطلب من أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني الضغط على “حماس” لقبول طرحه، من دون أن يرسل صيغة اتفاق مكتوبة يضمنها بنفسه وتضمنها دولته، علماً أن ضمانات واشنطن بدت هشّة في السابق، خصوصاً بعد انسحاب سلفه دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بعد أشهر فقط من التوصل إليه مع سلفه باراك أوباما.
وفي حين يطلب الضغط على المقاومة، يواصل إرسال قنابله لقتل الفلسطينيين، ويفشل في إيصال المساعدات الإنسانية الملحة إليهم في القطاع المحاصر والواقع تحت نارٍ يوفرها هو ودولته للكيان، ويحتفظ بقطعه البحرية وأنظمة صواريخه لمنع أي خطر يطال الكيان، ويواصل استخدام أفضلية “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي ضد حقوق الشعب الفلسطيني، ويضغط على الدول لمنع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حالة فصامٍ واضحة عن خيار حل الدولتين الذي لطالما دغدغت واشنطن فيه من رضي به من العرب والمسلمين.
يضع بايدن إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية أولوية يمكن النفاذ منها لترويج الصفقة، لكن إلزام “إسرائيل” بالثمن لا يزال موضع شكٍ كبير في خطته تلك.
ويتطلَّع الرجل إلى أن تنقذه وتنقذ الكيان معه اتفاقيات تطبيع جديدة يرمم بها ما تداعى من أسس حياة الكيان بخلق فرصة اندماج له في المنطقة، استناداً إلى قذرة الكيان على القتل، التي أثبتها لثمانية أشهر بنحو 40 ألف دليل بالقتل، ونحو 100 ألف مرة بالجرح والتهجير وهتك الكرامة البشرية.
يريد بايدن أن يستثمر في قدرة القتل الإسرائيلية لتحقيق اتفاقيات تطبيع تنقذ “إسرائيل”، لكن السؤال المنطقي البارز الذي ينبري من تلقاء نفسه الآن، وبعد 8 أشهرٍ من الإبادة الجماعية: هل يستوي في أي منطقٍ أن تطبّع أي دولةٍ في العالم علاقاتها مع قوة همجية متفلتة من أي ضوابط، ومع قوة قابلة لتنفيذ إبادة لحل مشكلة أمنية لها؟
الرسالة الكبرى المنطقية من هذه الحرب هي أن التطبيع مع الكيان حالة متناقضة مع منطق الدول والشعوب، وليست من السياسة والاستراتيجيا في شيء، وهي استحالة وليست خياراً إلا لمن يريد أن يحتضن هذا الخطر في جواره، وينمّيه ليبتلعه لاحقاً.
نقلا عن الميادين نت # بايدن#الرئيس الأمريكي#العدوان الصهيوني على غزةً#كيان العدو الصهيوني#مقترح بايدن#وقف إطلاق النارفلسطينالمصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الکیان على وقف الحرب
إقرأ أيضاً:
صحفي أمريكي: مسؤولون بإدارة بايدن يتحدثون عن فشله إزاء حماية المدنيين في غزة
كشف مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، عن حديث مسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن عن فشل سياسة الولايات المتحدة إزاء قطاع غزة، الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي للعام الثاني على التوالي.
وقال الصحفي الأمريكي ديفيد إغناتيوس في المقال المشار إليه، إنه "عندما يفكر بايدن في القضايا غير المكتملة ضمن إرثه، آمل أن يضع اتخاذ إجراءات حاسمة لمساعدة السكان المدنيين في غزة الذين دمرتهم الحرب في مقدمة أولوياته"، مشيرا إلى أن "عبء المعاناة المدنية في النزاع المستمر في غزة لمدة عام لا يُحتمل".
وأضاف أن الاحتلال الإسرائيلي "أخبر إدارة بايدن قبل عدة أشهر أنهم حققوا أهدافهم العسكرية الرئيسية في غزة، لكن الحرب تستمر جزئيا لأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليس لديه خطة واضحة لمرحلة ما بعد الحرب".
ولفت إلى أن كبار مسؤولي إدارة بايدن يقولون له إنهم "يدركون وجود التزام أخلاقي واستراتيجي لتقديم المساعدة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين الذين تضرروا بشدة في هذه الحرب".
ووفقا للمقال، فإن المسؤولون رفيعو المستوى في إدارة بايدن "يتحدثون عن فشل السياسة الأمريكية في حماية المدنيين بنبرة تعكس الألم وربما حتى الخجل. هذا النقد الذاتي مبرر. لقد حاول فريق بايدن حماية المدنيين لكنه غالبا ما فشل".
وأشار الكاتب إلى أن إلى الوضع الإنساني المتردي في قطاع غزة، موضحا أن معاناة الشعب الفلسطيني هناك قد تتفاقم أكثر مع انهيار آخر بقايا شبكة الأمان التي توفرها الأمم المتحدة.
ولفت إلى مصادقة الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يحظر عمليات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، موضحا أن هذا القرار قد يؤدي فعليا إلى وقف دور الوكالة في توفير الطعام والدواء والماء والتعليم للمدنيين الفلسطينيين.
وشدد الكاتب على أن القرار الإسرائيلي حظر نشاط الأونروا كان رفضا مباشرا لطلب إدارة بايدن، التي حذرت أن قانون الأونروا "سيدمر الاستجابة الإنسانية في غزة... ويحرم المدنيين الفلسطينيين من الخدمات التعليمية والاجتماعية الحيوية".
وقال إن "مشاهدة كل رعب يضاف إلى معاناة الإدارة - وإحساسها بالعجز. بالنسبة لبلينكن، كانت لحظة خاصة بالغة الأذى مشاهدة فيديو جوي في الأول من مارس يظهر فلسطينيين يائسين يندفعون نحو قافلة طعام ثم يسحقهم الشاحنات أو يتم إطلاق النار عليهم من قبل الإسرائيليين".
وأضاف "كانت صدمة أخرى هي مقتل سبعة من عمال منظمة وورلد سنترال كيتشن في قطاع غزة في نيسان /أبريل الماضي".
وأشار الكاتب إلى أن بايدن طالب الاحتلال "باتخاذ إجراءات وحدد جدولا زمنيا لنتنياهو لتسليم النتائج". ووفقا للمقال، فإن "الكلمات لم تعد تهم. إنها الاختبار الأخير للرئيس المنتهية ولايته. إذا لم تتخذ إسرائيل تدابير فورية لحماية المدنيين في غزة، فإن الولايات المتحدة ملزمة قانونا بوقف تزويد الأسلحة لحرب كان يجب أن تنتهي قبل شهور".