لندن– حضرت الحرب على قطاع غزة في أول مناظرة انتخابية متلفزة تجمع بين رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ومنافسه زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر، لكن هذا الحضور كان مخيبا لآمال كل مناصر للقضية الفلسطينية في بريطانيا، وذلك رغم الزخم الذي يحققه الحراك الداعم لفلسطين في المملكة المتحدة.

وحظيت المناظرة الأولى بين الشخصين الذين سيفوز أحدهما برئاسة وزراء المملكة المتحدة بعد الانتخابات العامة في الرابع من يوليو/تموز المقبل، بمتابعة إعلامية كبيرة بالنظر لكونها الأولى بينهما ولمعرفة الخطوط العريضة لمشروعهما السياسي في القضايا الداخلية والخارجية.

وظهر الارتباك على كلا المرشحين عند التطرق لقضية الحرب على قطاع غزة لعدم قدرتهما على القطع بموقف حاسم، بل إن هذا الارتباك طال حتى مذيعة قناة "إي تي في" التي تم تجد حرجا في تحوير سؤال طرحه أحد الحاضرين للمناظرة عندما سأل المرشحين عن خطتهما لوقف "الفظاعات التي تحدث في غزة حاليا"، لتقوم المذيعة بإعادة صياغة السؤال، وتتحدث عن "الهجوم الإرهابي ليوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وما حدث بعدها من تدحرج للأحداث" دون أن تأتي على ذكر قطاع غزة بالاسم.

سوناك (يمين) وستارمر لم يختلفا في المناظرة على دعم إسرائيل (وكالات) المحافظون.. إسرائيل أولا

بقراءة موقف رئيس الوزراء البريطاني ريشي يظهر أنه لا يعول كثيرا على ملف غزة في حملته الانتخابية لعلمه أن ما قام به حزبه طيلة أشهر الحرب من دعم مطلق للاحتلال الإسرائيلي ورفضه في أكثر من مرة الدعوة لوقف إطلاق النار، لا يمكن محوه خلال أسابيع الحملة القليلة.

ولهذا عرض سوناك موقفا باهتا من الملف الفلسطيني سقفه أقل حتى من السقف الأميركي، عندما أعلن أولا على دعمه المطلق لما سماه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مؤكدا أن حكومته تدعم الصفقة التي أعلنها الرئيس الأميركي جو بايدن.

ورفض سوناك الحديث عن تعنت بلاده في وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل رغم المطالب الداخلية والخارجية بذلك، مكتفيا بترديد مواقف حزبه القديمة من "إطلاق سراح الرهائن والسماح بدخول المساعدات ودعم الميناء العائم الذي تقوم أميركا ببنائه".

بل إن رئيس الوزراء البريطاني قام بربط غريب بين أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول "وبين ضرورة الاستثمار أكثر في تأمين البلاد من هجمات مشابهة"، وهو ما قرأ فيه بعض المعلقين استمرارا لسياسة حزب المحافظين التي تحاول شيطنة وتشويه صورة التضامن مع الفلسطينيين لدى الرأي العام.

شهدت بريطانيا مظاهرات كبيرة داعمة للفلسطينيين وداعية لإيقاف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (رويترز) العمال.. تلاعب بالكلمات

حاول زعيم حزب العمال كير ستارمر أن يقدم تصورا أكثر وضوحا لموقف حزبه من الحرب في غزة، بإعلانه تأييد وقف فوري لإطلاق النار في غزة، "وإطلاق سراح الرهائن بدون شروط لأنهم عانوا لأشهر طويلة وكذلك ضمان دخول المساعدات"، مضيفا أن الوضع في غزة "كارثي ومات عشرات الآلاف من الأشخاص من بينهم أطفال ونساء ويجب أن يتوقف هذا الوضع".

ولم يأت ستارمر بجديد حيث سبق لحزبه أن دعا لكل هذه النقاط قبل بدء الحملة الانتخابية، ويعلم ستارمر أن ملف غزة سيكون ضاغطا على حزبه أكثر من حزب المحافظين، حيث ظهر في الانتخابات الجزئية أن الحزب فقد نسبة كبيرة من أصوات المسلمين (تشير التقديرات لفقدان الحزب حوالي 60% من أصوات الجالية المسلمة في بريطانيا).

وفي نهاية تقديمه لتصوره للتعامل مع الملف الفلسطيني أكد سترامر أن الحل هو السعي "لحل دائم متمثل في حل الدولتين"، لكنه عجز عن تقديم أي تفاصيل حول كيف يمكن الوصول لهذا الحل في ظل الظروف الحالية، كما ظل وفيا لسلوك الزعماء السياسيين البريطانيين وهو البقاء على مقربة إن لم يكن في ظل السياسة الخارجية الأميركية في التعامل مع هذا الملف.

تبعية لأميركا

لا يفرق السياسي والنشاط البريطاني كريس ناينهام "بين موقف حزب العمال وحزب المحافظين في الحرص على العلاقة مع إسرائيل وفي الرؤية لحل الملف الفلسطيني.

ويؤكد رئيس تحالف "أوقفوا الحرب" وهي المظلة الأكبر للمنظمات الداعية لوقف الحرب في غزة في حديثه للجزيرة نت، أن المحافظين وعبرهم الحكومة لا تريد إغضاب الأميركيين، "وما زالت تحاول فعل كل شيء من أجل دعم الإسرائيليين، لأن إسرائيل ككيان هي في قلب المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وهناك قوى -مثل الولايات المتحدة وبريطانيا- معنية بالحفاظ على تفوقها العسكري، وبالتالي يمكن اعتبار ما تقوم به كل من واشنطن ولندن في هذا السياق جزءا من تبادل الأدوار، بحيث تبدو الولايات المتحدة وكأنها تمارس نوعا من الضغط على إسرائيل في حين يواصل الحلفاء الآخرون دعمها بشتى الطرق".

أما عن موقف حزب العمال وزعيمه كير ستارمر، فقد عاد كريس إلى تاريخ مواقف الحزب، مشيرا إلى أن حزب العمال تاريخيا -باستثناء الفترة التي قاد خلالها جيرمي كوربن الحزب- "كان مؤيدا لكل الحروب الأميركية في الشرق الأوسط، بل إنه بادر للمشاركة فيها حين كان يقود الحكومة، والحزب أيضا من الداعمين لتسليح إسرائيل، ولا يعارض أيا من سياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي دعم إسرائيل سياسيا أو عسكريا ليس غريبا عن أدبياته أو تاريخيه السياسي".

وخلص الناشط الحقوقي البريطاني إلى أن هناك تقاطعا كبيرا بين حزب العمال مع توجه المحافظين "في المقاربة الاستعمارية لسياسة الخارجية، وهذا يفسر إلى حد بعيد موقف زعيم الحزب من الحرب في غزة. ومع تصاعد المطالب الشعبية بوقف تصدير الأسلحة لإسرائيل، قد يبدو موقفه الأخير موقفا انتخابيا يتساوق معها، ولكنه لا يغير شيء من عقيدة الحزب الداعمة لإسرائيل ولتزويدها بالمزيد من السلاح".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات حزب العمال قطاع غزة فی غزة

إقرأ أيضاً:

هل تنزلق أوروبا إلى الحرب؟

فلنبتعد قليلًا عن ضجيج ما حدث للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، لنستعيد ونحلل حادثة سبقتها بأيام كان بطلها أيضًا جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي.

في ميونخ، على منصة القاعة الكبرى في فندق بايرشه هوف، وقف جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي ترامب، وألقى خطابًا مطولًا ومتعاليًا.

تحدث إلى الأوروبيين كمُعلّم وعاب ديمقراطيتهم التي "تكمّم الأفواه وتواجه احتمال انهيارها من الداخل". لم يذهب الناخبون في بلدانكم إلى صناديق الاقتراع، قال فانس، لمنحكم تفويضًا كي تفتحوا بوابة الفيضان Flood Gates وتغرقوا القارة باللاجئين. ستفعل أميركا النقيض من ذلك تمامًا، بحسب كلمات الرجل.

وحتى يبلغهم، بما لا يدع مجالًا للشك، أن سياسة أميركا تجاه أوروبا ذاهبة في اتجاه لم يألفوه فقد استخدم تعبيرًا من أصول الثقافة الأميركية:

"هناك شريفٌ جديد في المدينة".

يعود التعبير إلى ما قبل القرن التاسع عشر، ويراد به القول إن البلدة – في الغالب سيئة السمعة- مقبلة على تغيير جوهري في السياسة، وثمّة قسوة وشيكة استحقتها.

أغلب الأميركيين يتذكرون التعبير الأثير من الفيلم الكلاسيكي Blazing Saddles، أو السروج المشتعلة، من أفلام السبعينيات. إذ ترسل السلطات شريفًا جديدًا أسود اللون – أي مخالفًا للقواعد والتوقعات- إلى بلدة سيئة السمعة. سيعيد الشريف، في سياق كوميدي، للسلطة هيبتها، وسيؤدب المذنبين من كل صنف ونوع.

إعلان

تنفّس الأوروبيون قليلًا من الهواء حين أعقبه وزير دفاع ألمانيا على المنصة نفسها، وقال بوضوح إن خطاب نائب الرئيس الأميركي "غير مقبول".

في اليوم التالي صعد المستشار أولاف شولتس، وقال: "لن نقبل أن يتدخل الغرباء في ديمقراطيتنا، أو في انتخاباتنا، أو في تشكيل الرأي الديمقراطي لصالح ذلك الحزب. إن الشأن السياسي الألماني يحدده الألمان لا سواهم".

أحال شولتس، كعادة كل سياسي ألماني، إلى الدرس الذي تعلمته البلاد من تاريخها الخاص، وإلى العقيدة الفاشية التي لا يزال "ذلك الحزب" (البديل من أجل ألمانيا)، يحملها في جيناته السياسية.

تلقت ألمانيا نصيبًا خاصًا من خطاب نائب الرئيس الأميركي الذي استمرّ لما يزيد عن نصف ساعة. بدت سخريته من "جدار النار Firewall" مزعجة لأحزاب الوسط الألمانية التي تحاول عزل "ذلك الحزب"، من خلال جدار ناري يجرّم التقارب معه. على هامش المؤتمر ذهب فانس للقاء أليس فايدل، زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، وتجنّب مستشار ألمانيا.

لم يتأخر "الشريف الأميركي" كثيرًا، إذ أعلن من واشنطن تزكيته المطلقة لما ورد في خطاب نائبه في ميونخ.

المستوى الثقافي في ألمانيا، على مختلف الميديا المحلية، رأى فيما يجري صدعًا لم يعد ممكنًا إصلاحه. نصف ساعة من الاستماع إلى ملخص الصحافة على راديو ألمانيا، السابعة صباحًا، تكفي لرؤية الصدع الغربي، وحتى للتنبؤ بمآلاته.

تخوض الديمقراطية الألمانية نزالًا صعبًا مع الراديكالية اليمينية، حيث يحل حزب البديل في كل استطلاعات الرأي ثانيًا. وبحسب دراسة لبيو سنتر، 2024، فإن 26% من "رجال" ألمانيا أصبحوا راضين عن الحزب.

تحاول أحزاب الوسط إخراج الوحش من اللعبة، وسبق لفريدريش ميرتس، مستشار ألمانيا المنتظر، أن وعد ناخبيه بأن يدفع حزب البديل إلى هامش الحياة السياسية، إلى "حيث ينبغي له أن يكون"، بحسب كلماته.

إعلان

لحظة التقارب- ربما غير المقصودة، التي حدثت مؤخرًا بين الحزب المسيحي الديمقراطي وحزب البديل المتطرّف، أثناء التصويت على مشروع "ميرتس" المتعلق باللجوء- أثارت موجة من الغبار في كل الفضاء الألماني.

حتى إن الكنيسة، التي تنأى بنفسها عن الصراع السياسي، التحقت بالنقاش، واحتجت بكلمات حازمة على ما جرى. فاينبيرغ، المعمّر اليهودي- الألماني والناجي من الهولوكوست – أعاد إلى الرئاسة الألمانية وسام الشرف الذي منحته إياه تقديرًا لجهوده في التعليم. على منصات كثيرة قال الرجل الذي يبلغ من العمر 99 عامًا إن اقتراب حزب من أحزاب الوسط، المسيحي الديمقراطي، من حزب البديل أعاده إلى الأيام الأولى من العام 1933.

لم توفر الدولة الألمانية شيئًا في المواجهة مع اليمين المتطرّف. في عدد من الولايات الألمانية وضع الحزب، بأكمله، تحت رقابة جهاز حماية الدستور (أمن الدولة)، كما صُنف جناح "شباب البديل" التابع للحزب بوصفه كيانًا متطرفًا.

وفي يونيو/ حزيران من العام الماضي حظرت وزارة الداخلية، مجلة Compact المعروفة بخطابها المتطرف. سابقة غير مألوفة في الديمقراطية الألمانية الحديثة نسبيًا، وقفت أمامها المحكمة الإدارية الاتحادية، أغسطس/ آب 2024، حائرة.

علّقت المحكمة قرار وزارة الداخلية وجاء في بيانها "هناك أدلة على أن محتوى المجلة ينتهك كرامة الإنسان، لكن الحفاظ على حرية الصحافة له الأولوية"، كما نقلت رويترز في حينه.

أجواء الصراع هذه تعدّ في نظر فانس ونجوم الماغا (اجعل أميركا عظيمة مجددًا) انتهاكًا لحرية التعبير، يرفضه دافع الضرائب الأميركي.

الأميركي مواطن ديمقراطي لا يقبل أن يذهب جنوده لحماية نظام ينتهك الحريات ويقوض القيم المشتركة، كما ألمح فانس بعد عودته من ميونخ. فانس نفسه، كما سخر كتاب أميركيون عديدون، يرفض الاعتراف بنتائج انتخابات 2020، ولا يرى في اقتحام مؤيدي ترامب مبنى الكابيتول في واشنطن، 2021، خطرًا على الديمقراطية.

إعلان

الغرام المفاجئ بين حزب البديل الراديكالي وإدارة ترامب لا يعكّره برنامج الحزب المنادي بطرد القوات الأميركية من الأراضي الألمانية وجعل البلاد خالية من السلاح النووي الأميركي المهدد للسلام، كما يقول برنامج الحزب 2024.

يؤكد حزب البديل على هذا المطلب منذ العام 2016، وتقع فكرة إبعاد ألمانيا عن الهيمنة الأميركية في صلب خطابه القومي.

كما لا تؤثر عليه وعود ترامب بفرض تعريفات جمركية على الصادرات الأوروبية قد تضر على نحو عميق بالاقتصاد الأوروبي. شكل من الغرام المتطرف يصعب تخيله خارج أجواء الشك والكراهية وانعدام الثقة بالنظام الديمقراطي.

لا يمثل حزب البديل كيانًا متجانسًا بالمعنى الفلسفي والثقافي. هو أقرب إلى حشد من الغاضبين يعيش أغلبهم في شرق البلاد. في المجمل فإن 54% من الناخبين الألمان لا يثقون بالأحزاب السياسية، كما كشف استطلاع لمؤسسة فورسا الألمانية في العام الماضي. تداني هذه النسبة نتائج الاستطلاع الذي أجراه معهد الدراسات السياسية في باريس، شمل ناخبين من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبولندا، حيث قالت النتائج إن 60% من المشاركين لا يثقون بالمؤسسات السياسية. النسبة نفسها، ستون في المائة، رأت في الديمقراطية نظامًا منخفض الكفاءة.

ثمّة بيانات كثيرة تقول إن اليمين الراديكالي يعتمد، في الأساس، على "أيديولوجيا خوفٍ" لا تعنى بالحقائق، بل بالمشاعر والمزاج العام.

تقدم الشعبوية الحقائق البديلة، أي الأوهام. ولأن الليبرالية السياسية توزع الوعود، والليبرالية الاقتصادية توزع اللامساواة، فإن فضاء واسعًا ينشأ بين السياسة والاقتصاد.

في داخل ذلك الفضاء تستثمر الشعبوية في أيديولوجيا الخوف، وفي إنتاج الحقائق البديلة. فقد كشفت دراسة أجريت على عينة من 1000 شاب ألماني تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عامًا أن مستويات القلق كانت أعلى بين الأشخاص الذين يضعون أنفسهم في خانة اليمين المتطرف، بخلاف من قالوا إنهم ينتمون إلى الوسط الديمقراطي.

إعلان

تنزلق أوروبا إلى حرب ثقافية داخلية، ومن نتائج تلك الحرب أن أحزاب الوسط أصبحت أكثر راديكالية أملًا في استجلاب رضا الناخبين، وتجنبًا للخروج من الحلْبة.

في غمرة الصراع الوجودي، كما يراه رجال الوسط السياسي، نجح حزب البديل المتطرف في القفز على جدار النار. وإن كان جدار النار السياسي لا يزال قائمًا، وإن بصورة أقل صلابة من قبل، فإن حضور الحزب في الحياة العامة صار حدثًا طبيعيًا يستهوي واحدًا من كل أربعة ألمان.

كيف يمكن لمؤسسة ديمقراطية أن تجرّم حزبًا يمثّل ربع السكان؟ تقف أحزاب الوسط أمام هذه الحقيقة الجديدة ولم يعد في متناول يدها الكثير لتفعله. ثمة إشارات خطرة قادمة من الماضي.

فقد منحت انتخابات برلمان ولاية تورنغن في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1930 الحزب النازي (NSDAP) الفرصة للمشاركة في حكومة إقليمية لأوّل مرّة في تاريخه. انتخابات الصيف الماضي التي جرت في الولاية نفسها أعطت حزب البديل الراديكالي أعلى نسبة من الأصوات.

على هدي المؤتمرات الترامبية الحمراء، التقى قادة يمينيون متطرفون في مدريد، قبل أيام، وعقدوا مؤتمرهم تحت لافتة "لنجعل أوروبا عظيمة مجدّدًا MEGA". مرّة أخرى، يردد اليمين الأوروبي: هناك تهديد ثقافي محدق بأوروبا، وعلى القارة أن تتداعى للحفاظ على هويتها الثقافية. ولكن أيضًا عليها أن تقيم الحواجز بين دولها، وأن تتدبر كل دولة أمن حدودها. أي أن تصبح أوروبا عظيمة ونقية ومنقسمة في آن واحد.

يستلهم اليمين الألماني الحكاية الترامبية وبات يرى كل شيء ممكنًا. في مهرجان انتخابي بولاية ساكسن أنهالت، قبل وقت قصير، استضاف حزب "البديل من أجل ألمانيا" إيلون ماسك عبر شاشة كبيرة. تحدث ماسك إلى مضيفيه قائلًا إنهم أمل ألمانيا الوحيد، كما يفعل عبر حسابه على منصة إكس. أخذته نشوة اللحظة إلى دعوة "الألمان" إلى تجاوز "عقدة الحرب العالمية الثانية". فهمت نصيحته – التي حصدت تصفيقًا منقطع النظير- بحسبانها استهدافًا مباشرًا للهولوكوست، حرم السياسة الألمانية المقدس. تمنح زمرة الماغا أحزاب اليمين الأوروبية شهادة حسن سيرة وسلوك، وذلك هو التهديد الحقيقي الذي تراه أحزاب الوسط، لا ادعاءات فانس.

إعلان

على المستويات الدنيا داخل جمهور حزب البديل ثمة "تطرف يميني، تلاعب بالتاريخ، وانعدام ثقة في النظام الديمقراطي"، كما لاحظت الصحفية جيسكا بيركا وهي تعدّ تقريرًا ميدانيًا لصالح "بي بي سي" عن شباب الحزب. إنكار المحرقة، مديح هتلر، وكراهية "أولئك الذين في الأعلى" هي المادة اليومية التي يتناولها شباب الحزب.

وبحسب فحص أجرته صحيفة دي تسايت الألمانية فإن أكثر من 80% من أعضاء الحزب الراديكالي لا يملكون شهادة ثانوية عامة. ثمة شعور واسع بالاستياء والخوف واللايقين، وبالنتيجة يندفع قطاع ممن فقدوا ثقتهم بالمؤسسة الديمقراطية وبكفاءة الدولة الليبرالية إلى الجماعة التي تنجح في استثمار استيائهم.

يدعي ساسة ألمانيا أن بلادهم تمثل آخر "مرج أخضر" للديمقراطية في العالم، وأن مؤسساتهم الديمقراطية محميّة بالعبرة التي تعلموها من التاريخ.

وهو اعتقادٌ لا يشاركهم فيه ترامب وماسك وفانس وبقية زمرة الماغا، ولا حتى القوى غير الليبرالية التي تجتاح القارة التائهة. وفيما يبدو فإن "زمرة الماغا" تحاول فرض نظام جديد على كل أوروبا يستهدف تفكيكها من الداخل، كقوة موحدة، من خلال سياسة "فرّق تسُد"، كما يذهب ستيف والت، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة هارفارد في مقال على مجلة فورن بوليسي.

من المحتمل أن تفتح التجربة الترامبية الباب على حقبة أميركية ممتدة من التطرف والانعزالية و"الرجولة" السياسية. يدرك الأوروبيون واقع هذا الاحتمال وخطورته، وأنه بات عليهم ألا يفكروا بما سيفعلونه كي يكسبوا رضا ترامب، بل بما عليهم أن يفعلوه ليتدبروا شأن قارتهم.

تحديات خطرة، خطورتها حقيقة على كل الأصعدة. ومن المثير أن الشعوب الأوروبية، أمام صدمة ترامب، قلّبت أوراقها ولم تجد من حيلة سوى حيلة الشرق الأوسط، التي لطالما كانت مثار سخرية: مقاطعة البضائع الأميركية. فقد قال استطلاع رأي في الأيام الماضية إن 60٪ من الألمان يرفضون شراء سيارات تسلا، التي يصنعها إيلون ماسك، وإن 60٪ من البريطانيين قالوا إنهم سيشترون سيارات كهربائية صينية. بنسبة أعلى من الأوروبيين، قال الكنديون إنهم لن يشتروا البضاعة الأميركية.

إعلان

الأشياء تتداعى في العالم الغربي الذي لم يكف يومًا عن الزعم أن نموذجه في السياسة والثقافة يمثّل نهاية الكمال البشري.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الدولة وسلاح حزب الله: تسوية او مواجهة
  • هل تنزلق أوروبا إلى الحرب؟
  • باحث: تمديد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في مصلحة إسرائيل
  • حزب العمال الكردستاني ووقف إطلاق النار.. قراءة في الدلالات والانعكاسات الإقليمية
  • الحَرْبُ مُنْعَطَفٌ تِكْتِيكِيٌّ أَمْ مُطَبٌّ دْيالِكْتِيكِيٌّ (2)
  • أوروبا تلتف حول زيلينسكي.. وستارمر يتحدث عن لحظة حرجة لا تتكرر إلا مرة كل جيل
  • أوروبا تلتف حول زيلنسكي وستارمر يتحدث عن لحظة حرجة لا تتكرر إلا مرة كل جيل
  • قيادة بحزب العمال البريطاني: أوروبا لن تتحمل حروب ترامب ورفع الدفاع ضروري للحماية
  • قيادة بحزب العمال البريطاني: أوروبا لن تتحمل حروب ترامب
  • دعوة أوجلان.. هل تنهي وجود حزب العمال في كردستان العراق؟