لا تزال الجغرافيا تعطينا الدرس تلو الدرس وتنبهنا إلى خطورة عالم المفاهيم الجغرافية. كان أستاذنا الدكتور حامد ربيع وأستاذتنا منى أبو الفضل يحذران من استخدام تلك المفاهيم الجغرافية وتناقلها في خطاباتنا والتي تحمل في جوفها تسميما وغزوا معنويا، وهي للأسف الشديد مسكونة بقابليات التطبيع الناشئ عن استخدام هذه المفاهيم من دون وعي استراتيجي يمثله عالم المفاهيم؛ ذلك أن مفهوم "الشرق الأوسط" بكل تنوعاته قديما أم جديدا، ضيقا أم موسعا، كبيرا أم صغيرا، فإنما يشكل معنى جغرافيا غربيا يؤسس لمركزية غربية إبان الحقبة الكولونيالية وما بعدها، والتي يشكل عنوانها "الغلبة والهيمنة" وتشكل أحوالها "التبعية وحال التجزئة والفرقة والتفرقة".



مفهوم الشرق الأوسط كمفهوم جغرافي واصف للمنطقة يُدخل الكيان الصهيوني (إسرائيل) من أوسع الأبواب، بل قد يكون في سياق اعتباره أداة وظيفية، تشكل الهيمنة بالوكالة حينما ليس فقط تتلاقى المصالح الغربية مع الصهيوني، بل تجعل من المصالح الصهيونية قسيما للمصالح الغربية.

إن مفهومي العالمين العربي والإسلامي يُخرجان الكيان الصهيوني من حياضهما، ولكن مفهوم الشرق الأوسط أحد المفاهيم الجغرافية القابلة لتسكين إسرائيل فيه؛ ترتع في ساحاته ومساحاته كيف شاءت، ورغم أن البعض يرى في الجغرافيا ودلالاتها أمرا محايدا؛ إلا أن التعاطي معها على هذا النحو قد يحمل تحيزات خطيرة وعلى رأسها مفهوم الشرق الأوسط.

أما المفهوم الآخر الذي أُطلق كمفهوم جغرافي والذي يساند ويدعم منظومات التفكير والتدبير في المنطقة، وفق أهداف مسمومة ومشبوهة، وغايات زائفة وخبيثة، فيكمن في تعبير "دول الطوق"؛ طوق على من؟ هل دول الطوق شكلت بالفعل وفي الواقع طوقا على عمل المقاومة الفلسطينية وأهدافها التحريرية والخوف من خياراتها على الأنظمة الرسمية الصانعة لكل خذلان والمنتجة لكل ضعف وهوان، ونظم رسمية ترتعد من كلمات المقاومة والانتفاضة ومقاصدها في الحرية والتحرير؟ أم هو طوق من ناحية أخرى لحماية وأمان وتأمين للعدو الصهيوني ووجوده ضمن وظيفة هذه الأنظمة لحراسة الحدود في سياقات اتفاقاتها التطبيعية المعلن منها والمخفي؛ الظاهر منها والمستور؟

تأمين للعدو من شعوب عربية لا تعترف بالكيان، ونظم عربية تجعل من أمن إسرائيل جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي العربي أو المصري.. من تحمي إذن دول الطوق المزعومة؟ إن اعترافنا بالعدو والتطبيع معه يجعل من دول الطوق المطبعة رسميا أو بصورة غير رسمية طوقا حاميا للكيان الصهيوني، وسواء أكانت دول الطوق تحاصر غزة والمقاومة أو تؤمّن الكيان الصهيوني؛ فإن الأمر يجعلنا نرفض استخدام هذا المصطلح البغيض؛ وكان أولى بتلك الدول ونظمها الرسمية أن تحتضن فعل وخيار المقاومة احتضان الرحم الحضاري لأغلى أولاده المتمثل في المقاومة.

أين هذا من مفهوم دول الرعاية الجغرافية التي تتمثل مفهوم الجوار الحضاري أو دول "الرحم الحضاري الخاصة" للمقاومة وخياراتها المصيرية بين الشرق الأوسط المنتج لكل معاجم الضعف والهوان والخذلان، والأمة "الوسط" الحافزة لقواميس العزة والكرامة والمجاهدة والمقاومة؟ هكذا يكون الخيار الجغرافي الحقيقي، المسكون بالمنظومة العقدية الدافعة الرافعة.

درس الجغرافيا والتطبيع قد يقترن بما يسمى "التقنية الجغرافية" وحرب الخرائط وطمس الذاكرة.. سلمان أبو ستة وجهده في الأطلس الفلسطيني؛ والذي يتتبع سياسات الكيان الصهيوني في طمس الذاكرة ووأد حق العودة؛ وجهود الصهاينة المتراكمة ضمن سياسات الصهاينة على الأرض (التهويد)!

مسائل عدة تمثل الإشكال الجغرافي والتطبيع الصهيوني للدولة الإسرائيلية الناشئة، وحق العودة من المعلوم بالضرورة في القضية الفلسطينية؛ وصعود ما يمكن تسميته بالجغرافيا النقدية والحالة "الكولونيالية" والاحتلالية والاستيطانية؛ من الجغرافيا التقنية إلى الجغرافيا النقدية؛ والمقاومة بالجغرافيا؛

حراس الذاكرة وما يمثله "سلمان أبو ستة" كنموذج في هذا المقام؛ يربطون معركة الذاكرة بحق العودة؛ من الجغرافيا التقنية حبيسة "الوصف الجغرافي" و"الأرقام"، إلى جغرافيا الأرض الحقيقية التي تستخدم "البشر" والإنسان.. "نقد الكشوف الجغرافية"، نقد الشعار الغربي "أرض لا صاحب لها" و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ومن ثم فإن التدافع الجغرافي هو من أهم المجالات الأساسية والحقيقية والواقعية التي تتحرك صوب جغرافيا البشر، وبشر الجغرافيا. المسألة لا تتعلق فحسب بالمكان المصمت أو إغفال البشر الحي، وتفاعلاته ضمن إعمار الأرض. إن الاغتصاب والاحتلال والاستيطان مفاهيم جغرافية بحق وفق التعريف "الحمداني" الذي اعتمده جمال حمدان في تصور الجغرافيا.

إن إسرائيل أرادت التعامل مع الجغرافيا ضمن وسائلها التقنية في طمس الحقائق والقيام بالادعاءات الجغرافية الزائفة، من "هيكل سليمان" وما شابه من أساطير وافتراءات، وهو أمر اصطنعوه لينازعوا المسلمين في عالم المقدسات، خاصة فيما يتعلق بهذا التطبيع الجغرافي في سبيل تمكين السردية الصهيونية، فهي لم تكن مجرد كلمات أو شعارات، بل حوّلها الكيان الصهيوني بعملياته المتتابعة في تغيير المعالم وطمس الذاكرة، وطمس الجغرافيا.

ومن هنا، فإن الخطاب الذي يؤكد على المقاومة الجغرافية منذ نشأة إسرائيل المصطنعة والزائفة هو الذي يتحقق ضمن معركة يجب أن نخوضها، هي معركة الذاكرة، وفلسطين والقدس والأقصى هي في قلب تلك المعركة الحضارية والوجودية، وهي أمور تجعل من الوعي الجغرافي متكاملا مع وعي الذاكرة التاريخية (الوعي التاريخي)، وهما أمران لا ينفصلان؛ عروة وثقى لا انفصام لها؛ من التطبيع إلى الترسيم إلى التحالف.. تبدو حلقات التطبيع المتنامية التي تحتل مساحات جغرافية جديدة تحت عناوين التطبيع، لكنها في الحقيقة جملة من الاختلالات الجغرافية المتسعة والمتراكمة، التي تشكل بيئة للكيان الصهيوني بيئة تقبل، بيئة مواتية لتحقيق كل أهدافه في الغصب والاحتلال والعدوان، ويسير درجة بعد درجة إلى توطين القابلية للاحتلال والغصب والعدوان، والانتقال من التطبيع إلى الترسيم، بل والتحالف الخائن مع العدو والتعايش مع ظواهر التصهين الثقافي والحضاري المتصاعدة ضمن مفهوم "الهرولة".

تصور الجغرافيا وعمارة المكان والأرض إنما يربط جوهريا بين المكان والمكانة.. صراع المكانة الزائف وطابور التطبيع الخانع والكاذب؛ إلى حقيقة تدافع المكانة الحقيقية باعتبار الشعوب ورضاها والشرعية واعتبارات الأمة ومرساها على طريق النهوض.

التطبيع بين مسار التغرير ومسار المقاومة والتحرير.. "الجغرافيا السياسية بهذا الاعتبار نعمة لمن عمل بأصول وعيها وسعيها، حركة وتدبرا، مكانة وتمكينا". وهي نقمة حينما يكون إمكانات المكان ومكنونه أكبر بكثير مما يعيشون فيه، ضعفاء فقراء حتى في أنماط التفكير. ومن هنا تتحول الجغرافيا السياسية، من نعمة وجب شكرها بالعمل بشرطها واستحقاقها، إلى ما يمكن تسميته "بانتقام المكان" من أهله ومن أصحابه، الذين يتنازلون عن منافعه ويرهقونه بتنازلاتهم المنقوصة والفاضحة. إن خذلان المكان موجب لنقمته وانتقامه، إنه درس المكان الخالد المتدبر لمعانيه من كونه "موضعا" أو "وضعا" مكانيا جغرافيا إلى كونه "موقعا" بمكنونه البشري، وإرادته، ومكونه الاستراتيجي، واعتباراته.

ودرس الجغرافيا كذلك ليس بعيدا عما يمكن تسميته بالجغرافيا الكونية، إذ تتسع لمناهضة الكيان ودعم تحرير فلسطين في بقاع شتى، إنها جغرافية الإنسان المفطور على حب القيم وتطبيقاتها على كل مكان وزمان وإنسان مهما اختلفت الأحوال والأوطان. حركة فطرية قيمية ترفض كل ما يفعله الإنسان من أن يقوم بانتقائية المعايير التي تفوق عملية الازدواج إلى الكيل بألف مكيال.

إنها المقاومة في ميدان التدافع بين القيم المحررة والقيم المستبعدة، بين قيم الحق والعدل، وقيم الظلم والعدوان والطغيان، إنها ثورة يشهدها الغرب ضمن حساب عسير لمسيرته الحضارية الاستئثارية والطغيانية التي أصابها حال الانكشاف والفضح بصورة لم يسبق لها مثيل، إنها ثورة الحساب لحضارة نصّبت نفسها معلما ومرشدا لتعليم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإذا بها تسقط في الامتحانين بدرجات تضعها في مصاف دول الاستبداد ومساحات الطغيان، وتكشف الكيان العنصري الهادف إلى الإبادة الجماعية ضمن سياسات الاحتلال والاستيطان والعدوان.

المقاومة الافتراضية في جغرافيا افتراضية؛ تُخاض مواجهة جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين وكل المؤمنين بهذه القضية في جغرافيا افتراضية لا تعترف بموازين القوى العسكرية، بل يكفي جهاز كمبيوتر محمول أو هاتف نقال، لنقل ما يجري في اللحظة ذاتها إلى ملايين المتابعين. وما جرى في سنة 2021 في حي الشيخ جرّاح دليل على قدرة أشخاص قليلي العدد على مواجهة دولة مدججة بالسلاح.

وأخيرا، فإننا نعتبر أن الناظم بين هذين الوعيين "الجغرافي" و"التاريخي"، و"الزماني" و"المكاني"، إنما يكمن في أصول الوعي العقدي بالقضية الفلسطينية، وطبيعة الصراع الوجودي المكنون في قلب هذه القضية، فالقدس هي القدس وليست غيرها ولا بديل عنها، كما يؤكد الحكيم البشري (المستشار طارق البشري).

لقد مثّلت عملية "طوفان الأقصى" والجغرافيا السياسية التي صنعتها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ مقاومة التطبيع في الميدان واعتماد خيار المقاومة في الأمة. ومن هنا لا بد أن نفتح الباب واسعا للمقاومة العقدية- التاريخية- الجغرافية، ولا بد لنا من التعرف على ما يمكن تسميته في هذا المقام "الجغرافيا السياسية للتطبيع".

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجغرافيا التطبيع إسرائيل الفلسطينية إسرائيل فلسطين التطبيع الجغرافيا طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجغرافیا السیاسیة الکیان الصهیونی الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

صمود غزة يفتك بـ “اقتصاد الكيان الصهيوني”

يمانيون../
يتعرض العدو “الإسرائيلي” لخسائر اقتصادية فادحة نتيجة عدوانه الغاشم على غزة، هذه الخسائر ليست مجرد أرقام، وإنما تمثل تجسيدا حقيقيا للأثر العميق لعمليات المقاومة. فقد بلغت تكلفة الحرب مستويات قياسية، حيث تأثرت قطاعات حيوية بشكل غير مسبوق، ما أثر بشكل كبير على الحياة اليومية لملايين الصهاينة.

تشير الخسائر البشرية التي تكبدها العدو إلى أن صمود المقاومة الفلسطينية أمام العدوان كان له دور محوري في إحباط المخططات الإسرائيلية. ومع تزايد التقارير التي تُظهر تدهور سمعة الاقتصاد الإسرائيلي، يبدو أن المقاومة -رغم التصعيد- قد تمكنت من فرض واقع جديد أثر في قدرة “إسرائيل” على السيطرة. لم تعد هذه الحقائق قابلة للتجاهل، خاصة مع التصريحات المتزايدة من خبراء ومحللين “إسرائيليين”، إذ يؤكدون أن خسائر الاقتصاد “الإسرائيلي” منذ عملية طوفان الأقصى حتى الآن قد بلغت حوالي 100 مليار دولار، وما زالت هذه الخسائر تتصاعد.

يعاني الاقتصاد الإسرائيلي أيضاً من تأثيرات الأحداث الحالية في غزة، التي تستنزف موارد “إسرائيل” عسكرياً وتكبّد خزينة الكيان مليارات “الشيكلات”. بالإضافة إلى ذلك، تستمر عمليات المقاومة الفلسطينية -المعززة بصواريخ ومسيرات الإسناد اليمني- في تحقيق نجاحات في العمق الإسرائيلي، في وقت تعاني فيه “إسرائيل” من الحظر البحري المستمر على حركة ملاحة سفنها والسفن المتعاونة معها في البحر الأحمر.

الكلفة الاقتصادية باهظة

في مقابلة أجرتها صحيفة “معاريف”، أدلى أفيغدور ليبرمان بتصريحات قوية ضد من يسمى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكداً أن الأخير “قاد إسرائيل إلى الدمار ولا يعرف إدارة أي شيء”. وفي إطار حديثه، أضاف ليبرمان أن نتنياهو يسعى فقط لضمان بقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة، في وقت تواجه فيه “إسرائيل” التهديدات الوجودية، وتدخل في أزمة متعددة الأبعاد هي الأعمق منذ إنشائها، تجلت في القتلى والجرحى من “الجنود” والمستوطنين، بالإضافة إلى الكلفة الاقتصادية الباهظة”.

في السياق، يكشف التقرير الصادر عن منظمة “لاتيت” للإغاثة الإنسانية أنه -بالإضافة إلى التحديات الأمنية والعسكرية الراهنة- هناك حرب أخرى، وهي “الحرب على الفقر، حيث تواجه “إسرائيل” اختباراً أخلاقياً يتطلب التضامن والمسؤولية المتبادلة. ويعد هذا الاختبار عاملاً حاسماً في تحديد مدى صمود المجتمع وقوته أو ضعفه عند مواجهة هذه الأزمات”.

وحسب صحيفتي “يديعوت أحرونوت” و”إسرائيل اليوم”، يوضح التقرير أن تكاليف المعيشة التي كانت مرتفعة بالفعل قبل الحرب، شهدت تفاقماً ملحوظاً بسبب الظروف الحالية، ما تسبب في ضغوط لزيادة الأسعار، وخصوصاً في قطاع المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية. وكشفت الأرقام أن متوسط الإنفاق الشهري للأسر المدعومة بلغ 10,367 شيكلاً (ما يعادل 2,870 دولاراً)، وهو أعلى بنسبة 1.7 مرة من متوسط صافي دخلها الشهري البالغ 6,092 شيكلاً (1,686 دولاراً).

ويظهر التقرير أن 78.8% من الأسر المدعومة من “حكومة” العدو تعاني من الديون، مقارنة بـ26.9% من عامة السكان، فيما عانى 65% من متلقي المساعدات من تدهور أوضاعهم الاقتصادية، بالإضافة إلى 32.1% من عامة الناس خلال العام الماضي. تقوم هذه الأرقام بتسليط الضوء على عمق الأزمة الإنسانية التي تؤثر على فئات مختلفة من الصهاينة.

كذلك، تشير النتائج إلى التأثير على الأطفال والمراهقين الذي أحدثته الحرب، حيث تأثرت الإنجازات الأكاديمية لـ44.6% من الأطفال المدعومين بشكل كبير مقارنة بـ1.14% في صفوف عموم السكان. بل ووجد أن خُمس الأفراد الذين تلقوا المساعدات أفادوا بأن أحد أطفالهم ترك المدرسة أو اضطر للانتقال إلى مدارس داخلية بسبب الضغوط المالية.

وبالنظر إلى فئة كبار السن من اللصهاينة، تظهر التقديرات أن 81.7% من هؤلاء المستفيدين يعانون من الفقر، و52.6% في فقر مدقع. كما يُعاني أكثر من ثلثهم (34.8%) من انعدام الأمن الغذائي الشديد، و60.4% من كبار السن المدعومين اضطروا للتخلي عن الأدوية أو العلاج الطبي بسبب عدم قدرتهم على تحمل التكاليف.

ويؤكد تقرير “لاتيت” أن العائلات داخل كيان العدو تعيش في حالة من الخوف المستمر من نفاد الطعام، وعدم قدرتها على تأمين وجبات متوازنة لأطفالها. ومع تصاعد التحديات، تنبأ مؤسس شركة “لاتيت” والرئيس التنفيذي للمنظمة بأن التوقعات المستقبلية ليست مطمئنة، حيث من المتوقع أن تؤدي الإجراءات الاقتصادية المخطط لها -مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة وشروط التأمين- إلى تفاقم معاناة الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع. هذه الوقائع تكشف عن أزمة شاملة يمر بها الكيان المؤقت.

هشاشة الوضع الاقتصادي الإسرائيلي

تشير التقارير الأخيرة من “إسرائيل” إلى أن الاقتصاد يعاني من تقلبات حادة نتيجة العدوان على غزة، ما يعكس عدم جدوى هذا العدوان بدلالة تأثيره المدمر على الاستقرار الاقتصادي حيث أصبح الكيان الصهيوني مقصداً للمضاربين الذين يستغلون الظروف الصعبة لجني الأرباح. فبدلاً من الاستقرار، تتعرض الأسواق للارتباك، ما يبرز فشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها العسكرية. تعكس تصرفات المضاربين حقيقة يأس المستثمرين وفقدانهم الثقة في مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي.

إن التحولات الاقتصادية التي يشهدها السوق “الإسرائيلي” تؤكد أن العدوان لم يحقق أهدافه، بل ساهم بدلاً من ذلك في تعزيز صمود المقاومة وزيادة هشاشة الوضع الاقتصادي في “إسرائيل”. ومن المتوقع أن تشير التطورات المستقبلية إلى استمرار هذا الاتجاه، ما يعزز الأمل في تحقيق نتائج إيجابية تعكس ما أنجزته جهود المقاومة من انتصارات مستمرة.

تستمر الأحداث في “إسرائيل” في كشف واقع اقتصادي متزعزع، حيث أدت التطورات الجارية إلى خلق بيئة مواتية للانتهازية المالية. تظهر التغيرات السريعة في أسعار العملات -مثل الشيكل- تقلبات غير مسبوقة؛ فعلى سبيل المثال، انخفض “الشيكل” بشكل حاد إلى أكثر من 4″ شيكل” لكل دولار في بداية العدوان على غزة.

هذه التغيرات تعكس عدم استقرار الوضع الاقتصادي في الكيان ، وهو ما يخلق صورة مواتية للمستوطنين الصهاينة عن انهيار النظام المالي وضعف أجهزة الإدارة الاقتصادية للكيان. كما ازدهرت التقلبات فور بداية العدوان، ومع التوصل لاتفاق مع لبنان يظل اقتصاد العدو الإسرائيلي في حالة عدم استقرار مستمر، مع تذبذبات تفوق تلك التي شهدها اليورو في ذات الفترة.

وتشير دراسات لخبراء ومحللين متخصصين في الاقتصاد الاسرائيلي إلى أن المضاربين يستخدمون أدوات مالية متطورة ومعرفة عميقة بالسوق، ما يمنحهم ميزة تنافسية لا تتوفر للآخرين. فالعديد من الصهاينة يجدون صعوبة في فهم أسباب تراجع السوق أمام الظروف الإيجابية، وهذا يُظهر الفجوة بين الخبراء والمستثمرين غير المحترفين. كلما زاد عدم استقرار السوق، زادت فرص الربح للمضاربين، ما يعكس فشلاً في “مجتمع” المستثمرين الأوسع.

الدراسات أثبتت أن السياسات الـ”حكومية” الفاشلة في معالجة الأمور داخل الكيان وخلق انقسامات عميقة في لدى المستوطنين بأنه تتحول “إسرائيل” إلى ملعب مالي مفتوح للمضاربين، حيث تسهم الصراعات السياسية والاجتماعية، ومغالطات ما يسمى بـ”الإصلاحات القانونية المتعلقة بالعدالة”، إلى عمق ما وصل إليه حال الانقسامات في داخل الكيان وما باتت تلعب من دور بالغ الأهمية في زيادة الهوة بين الاستقرار والثقة في السوق. على سبيل المثال، شهدت “إسرائيل” احتجاجات واسعة ضد هذه الإصلاحات، ما أثر على الثقة في أجهزة إدارة الكيان المؤقت وأدى إلى انخفاض في الاستثمارات الأجنبية. بينما يستفيد المضاربون من هذه الفوضى، فإن المستوطنين العاديين يشعرون بارتباك حول كيفية تأثير الأحداث على استثماراتهم ومدخراتهم.

كما تشير التغيرات الاقتصادية غير المدروسة والتي ساهمت في تفتيت الثقة ووضعت الكيان المؤقت في موقف يمكن وصفه بكونه ملعباً للمضاربين. ذلك ما أكده “عيران هيلدسهايم” المراسل الاقتصادي لموقع “زمن إسرائيل” بالقول إن “هذا التدهور الاقتصادي يسلّط الضوء على حقيقة كارثية مفادها أن سياسات الـ”حكومة” الحالية لم تخلق انقساما وصدعا داخليا فحسب، بل غيّرت أيضا وضعها الاقتصادي من قوة تجتذب العديد من الاستثمارات، إلى ملعب مالي للمضاربين من جميع أنحاء العالم، ممن يستغلون عدم الاستقرار والاضطرابات التي تمر على “إسرائيل” لجني الأرباح” وفق مراسل المقع.

مشيرا إلى أن المضاربين -المعروفون بقدرتهم على اتخاذ قرارات سريعة- يعتمدون على تحليل التغيرات اللحظية في السوق. على سبيل المثال، يمكن للمضاربين “شبه أسماك القرش” أن يستفيدوا من الأخبار غير المؤكدة، مثل الشائعات حول التوصل إلى اتفاقات سياسية أو عسكرية، ليشتروا الأصول قبل أن ترتفع قيمتها. وقد أظهرت البيانات أن البنوك الكبرى مثل “جيه بي مورغان” و”غولدمان ساكس” قد حققت أرباحا كبيرة من تلك التغيرات، حيث توقعت تقارير أن تحقق هذه البنوك ما يصل إلى 475 مليون دولار من عمليات التداول المتعلقة بالسندات و”الشيكل”.

وأكد أن من المتوقع أن يكسب البنك الأمريكي الرائد جيه بي مورغان 70 مليون دولار من هذه المعاملات، ما يجعله أكبر رابح بين البنوك العالمية العشرة، ويشير النمو الرقمي إلى نشاط غير عادي وإيجابي في الأصول “الإسرائيلية”، وبالتحديد في عام يتسم بنشاط تداول ضعيف نسبياً، ومن المتوقع أن يسجل بنك “غولدمان ساكس” و”سيتي غروب” أرباحاً كبيرة نتيجة لذلك.

خاتمة

تشير التطورات الاقتصادية في “إسرائيل” إلى أن العدوان على غزة لم يؤد فقط إلى نتائج عسكرية غير محمودة، بل أسفرت أيضاً عن تفكيك الأساس الاقتصادي للكيان المؤقت. إن هذه البيئة من الفوضى توفر فرصة للمستثمرين المتخصصين، بينما تترك المستوطنين العاديين في حالة من الارتباك وعدم اليقين.

تتجلى قوة المقاومة الفلسطينية في غزة كرمز للصمود والعزيمة، حيث تبرز الأحداث الأخيرة مؤشراً على أن هذا الصمود يأتي في إطار الحق الطبيعي للفلسطينيين في نيل حريتهم واستعادة أراضيهم. تشهد “إسرائيل” اليوم نتائج العدوان التي تعكس الفشل في تحقيق الأهداف العسكرية، وبينما تعاني من تصاعد الفقر وأزمات اقتصادية خانقة، تتأكد حقيقة أن المقاومة لا تزال تمثل حجر الزاوية في النضال الفلسطيني.

يشير الواقع الاقتصادي في الكيان إلى أن الصمود الذي أبدته غزة لم يكن مجرد رد فعل، بل هو جزء من مسيرة طويلة نحو التمكين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، يتوجها القدس عاصمة لها. الفشل الاقتصادي الذي تواجهه “إسرائيل” اليوم هو نتيجة مباشرة لثبات الفلسطينيين ولإرادتهم في المقاومة، ما يبرز الفجوة بين ادعاءات القوة العسكرية والواقع الملموس.

في مواجهة هذه الظروف، يبقى الأمل قائماً بأن المقاومة ستكون سنداً لتحقيق الأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني، ويجب أن يتم تعزيز هذا الصمود عبر التضامن والتنظيم، ليتمكن الفلسطينيون من العبور نحو غد مشرق ومزدهر، حيث تستعاد الحقوق المسلوبة وتُحقق الأهداف الوطنية. إن المسيرة نحو الاستقلال وبناء الدولة المستقلة على كامل التراب الفلسطيني باتت أكثر وضوحاً، في ظل هذا الصمود المتواصل.

أنصار الله – يحيى الربيعي

مقالات مشابهة

  • عمليات نوعية للقسام اليوم ضد جيش الاحتلال / تفاصيل
  • صمود غزة يفتك بـ “اقتصاد الكيان الصهيوني”
  • اتفاقية التطبيع بين السعودية وكيان العدو الصهيوني جاهز للتنفيذ
  • اللواء القادري: عمليات اسناد المقاومة الفلسطينية مستمرة ولن تتوقف
  • فريق الأمم المتحدة يزور مواقع الآليات التشغيلية التي استهدفها العدوان الصهيوني بميناء الحديدة
  • السعودية تقترب من التطبيع مع كيان العدو الصهيوني
  • أبرز عمليات المقاومة في شمال قطاع غزة خلال 77 يوماً من العدوان الصهيوني وحرب الإبادة (إنفوجرافيك)
  • الكشف عن تلقي صنعاء رسائل من جهات عربية حول عمليات اسناد غزة
  • حزب الله يُدين العدوان الصهيوني على منشآت مدنية في اليمن
  • فصائل المقاومة الفلسطينية تبارك عمليات القوات المسلحة وتدين العدوان الصهيوني على اليمن