الجزيرة:
2024-11-24@12:44:58 GMT

انبعاث الأندلس في غمرة الحرب على غزة

تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT

انبعاث الأندلس في غمرة الحرب على غزة

اندلعت "حرب" ما بين إسرائيل وإسبانيا، على خلفية تاريخ الأندلس. منعت السلطات الإسرائيلية القنصل الإسباني من الالتقاء بالفلسطينيين وتقديم أي دعم لهم بالقدس والضفة الغربية. ودعا إسرائيل كراتز، وزير الخارجية الإسرائيلي، السلطات الإسبانية إلى دراسة السبعمئة سنة من حكم المسلمين للأندلس، ردًّا على عزم إسبانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

والحقيقة أن من يحتاج لدراسة فترة حكم المسلمين للأندلس هو وزير خارجية إسرائيل نفسه، فليس هناك فترة عاش فيها اليهود رخاءً وعطاءً كما عاشوا في فترة الأندلس المسلمة. والمادة موجودة بوفرة، وقد اشتغل عليها باحثون من كل المشارب والعقائد، ومن أهمهم ليفي بروفنسال، الذي يُعد كتابه "تاريخ الأندلس المسلمة" مرجعًا أساسيًّا في الدراسات الأندلسية. وهو فرنسي يهودي، وُلد بالجزائر وعاش بالمغرب (توفي في خمسينيات القرن الماضي)، وقدّم أيادي بيضاء في الدراسات الأندلسية. ويُعرف للمغاربة سابقته في دراساته عن الغرب الإسلامي وترجمته لبعض المصادر إلى الفرنسية.

والطريف أن ذلك الباحث، خلال تهيئته لرسالته عن الأندلس، كان إذا استعصى عليه النفاذ إلى وجه من وجوه الحياة في الأندلس، جال في أزقة فاس، وغشي أفناءها، وفحص ضروب الحياة فيها، لأنه كان يرى أن الأندلس المسلمة ما تزال حية في فاس. ويمكن أن نضيف عملًا مرجعيًّا لباحث أميركي، هو أبراهام نيومان، بعنوان "اليهود في إسبانيا" صدر سنة 1948 من جامعة برنستون، ومؤلفه يهودي أيضًا. ويرى أن العصر الذهبي لليهود في أوروبا كان إبان "إسبانية المسلمة".

لو فتحنا باب التاريخ وتألق اليهود في مناحي الحياة كلها بالأندلس، بل توليهم مناصب المسؤولية، لأعيانا الجهد. منهم الطبيب والوزير حسداي بن شبرط (في عهد الخليفة الأموي الحكم المستنصر)، وابن النغريلة في عهد ملوك الطوائف. ناهيك عن ضروب المعرفة التي أخذ فيها يهود الأندلس بنصيب، وتأثرهم بنظرائهم المسلمين، من علم الكلام والتصوف والنحو والعروض، وأساليب الكتابة في العربية، ومنها المقامات، والأخذ عن العربية للارتقاء بالعبرية، والكتابة بالعربية، أصلًا، أو بحروف عبرية.

يكفي أن نشير هنا إلى العمل الجبار الذي اضطلع به حسين مؤنس، وقد تولى مسؤولية معهد الدراسات الأندلسية في مدريد، وكتابه المرجعي "فجر الأندلس"، وهو من الكتب التي لا غنى عنها لمن يهتم بالأندلس. ونضيف ما يضطلع به العلامة أحمد شحلان، وهو من أهم المتخصصين في الدراسات الأندلسية والتراث العبري خاصة. الصلة ظاهرة ما بين ابن حزم وأبراهام بن عزرا، وعلم الكلام الإسلامي وكتابات موسى بن ميمون، أو أبراهام بن موسى بن ميمون في "كفاية العابدين" الذي نسج فيه على سَنن "إحياء علوم الدين" للغزالي. وهذا غيض من فيض.

نَذكر بما اضطلعت به مدرسة طليطلة في ترجمة التراث العربي إلى العبرية، في شتى المعارف (بما فيها الطب)، ومنها إلى اللاتينية. وهو جهد قام به علماء يهود، وحفظوا جزءًا من تراث إنساني كاد أن يندثر، ومنها بعض كتابات ابن رشد التي ضاع أصلها العربي، وبقيت في صيغتها العبرية، ونقلها العلامة أحمد شحلان من العبرية أصلًا (وليس من الإنجليزية كما فعل البعض) إلى العربية، كما في كتاب "جوامع سياسة أفلاطون" أو "تلخيص أخلاق أرسطو".

وحينما أفل نجم الحضارة الإسلامية بالأندلس، ودُفع اليهود إلى الهجرة، اختاروا بلاد المغرب ومصر والأستانة مستقرًا، ونزحت أقلية إلى البرتغال، ومنها إلى أمستردام، ومنها أسرة سبينوزا، الذي كان متأثرًا بالحَبر أبراهام بن عزرا (تلميذ ابن حزم)، ويحمل سبينوزا، بشهادة المختصين، "الحَمض النووي" للأندلس في مسعاه للتوفيق بين الإيمان والعقل. يكفي أن نشير إلى أن مصطلح السفارديم إنْ هو إلا ترجمة للتعبير العربي "الكتابيين" إلى العبرية، من "سفر" أي كتاب و"يم"، صيغة الجمع في العبرية.

لكن هنا نتحدث عن الأندلس الرمز، أو الأندلس الفكرة. عادت الأندلس الرمز بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها سنة 1991، ورعت الولايات المتحدة أول اللقاءات من أجل حل القضية الفلسطينية في مدريد (أكتوبر/تشرين الأول 1991). ولم يكن اختيار مدريد اعتباطيًّا، ولكن لما ترمز له الأندلس. وكانت الأندلس في تعريف المسلمين، هي جزيرة إيبيريا، وليس فقط إقليم الأندلس، مع ما طبعها من تعايش أو على الأصح من توادد، وهو أوسع من التعايش، وهو ما يعبر عنه الإسبان بالعيش المشترك ترجمة للتوادد في القاموس العربي La convivencia.

وعادت الأندلس الفكرة في غمرة الحرب الأهلية التي مزقت يوغسلافيا، وما صاحبها من تقتيل وتطهير عرقي، وكانت هذه السابقة المشينة ما أوحى للباحثة الأميركية مارية روزا مينوكال (وهي من أصول كوبية) بكتابة مرجع عن أوجه الأندلس، عنونته بـ"زينة الدنيا"، ومدار فكرتها، أنه لو أُخذ بسابقة الأندلس والاعتراف فيها بالملل والنحل، لما وقع التطهير العرقي الذي عرفته ما كان يوغسلافيا سابقًا. وقد ترجمت دار توبقال الكتاب بعنوان "الأندلس العربية، إسلام الحضارة وثقافة التسامح" (ترجمة عبد المجيد جحفة ومصطفى جبّاري).

ووُظّف تاريخ الأندلس من خلال قراءة مجتزأة بعد 11 سبتمبر/أيلول، وأجرى الوزير الأول حينها خوسيه ماريا أثنار قراءة مُغرضة لتاريخ الأندلس، وهي قراءة تَرتبط برؤية للمؤرخ كلاوديو سانشيث ألبورنوس، الذي كان يرى أن حلول الإسلام بالأندلس كان عملية اغتصاب، ولكن نبض الشارع ما لبث أن رفض هذه القراءة، ردًّا على انحياز إسبانيا إلى الولايات المتحدة في حربها على العراق سنة 2003، وقامت مظاهرات مناوئة في ساحة باب الشمس، ليس فقط ضد السياسة بل ضد التوجّه.

وتعود الأندلس اليوم، كفكرة، ليس الأندلس الرقعة، ولا الأندلس الحقبة. والأندلس الفكرة ليست توهمًا، وإنما تُبنى على شيء حقيقي، وسابقة فريدة. هذه الأندلس الفكرة هي ما يستحثُّ ساسةً ومفكرين وباحثين، من أجل التعايش، والتسامح بل التوادد.

وليس بعزيز أن تنبعث الأندلس الفكرة في فلسطين، ويعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون، بلا تمييز، وعلى خلاف ما لمز به وزير خارجية إسرائيل، ليس عن جهل، بل عن تجاهل. فالحل هو الأندلس.. هذه السابقة التي عصمت من التمييز والتطهير العرقي، إلى أن سادت فكرة منمطة لدين واحد، ولغة واحدة، أو ما يسميه الباحث الإسباني رودريغو دي زياس بعنصرية الدولة في إشارة إلى ما قامت به إسبانيا ضد المسلمين واليهود على السواء.

لا تموت الأفكار. تسكن، كما الحبة، بطن الأرض، وتأتي عليها السنون العجاف، فإذا نزل الغيث أخرجت شطأها، وأينع عودها، وآتت ثمارها. وحسنًا فعل وزير خارجية إسرائيل إذ ذكّر بالأندلس، ليس من خلال نظرته المغرضة، بل من خلال نظرة موضوعية، وهي التي تنبعث اليوم في إسبانيا، وفي أطيافها السياسية والمجتمعية والثقافية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى 

في مدينة بيالي الأوغندية، بعيدًا عن ضجيج الحرب وضياع الأحلام في السودان، يروي آلاف اللاجئين السودانيين قصصهم التي تتأرجح بين المعاناة والنجاح في المنافي القسرية. من بين هؤلاء، تبرز حكاية الموسيقار سعود، الذي كان يسكن منطقة الخوجلاب بمدينة بحري قبل أن تدفعه الحرب إلى مغادرة وطنه، تاركًا خلفه ذكريات عمر كامل، ليبدأ رحلة جديدة في معسكرات اللجوء. 

كمبالا: التغيير

الحرب التي تجاوزت عامًا ونصف أجبرت آلاف الأسر السودانية على النزوح القسري، حيث بحثوا عن الأمان داخل البلاد وخارجها. يعيش معظمهم في ظروف إنسانية صعبة، تعكس حجم المعاناة التي فرضها النزاع على حياتهم اليومية.

سعود، المتخصص في العزف على البيانو والجيتار والكمنجة، يصف مسيرته الفنية بأنها رحلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، بدأت منذ طفولته في الحفلات المدرسية، واستمرت بالدراسة في معهد الموسيقى والمسرح، الذي أصبح لاحقًا كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان.

لحظة قاسية

يقول سعود: “الموسيقى كانت جزءًا من حياتي حتى قبل الحرب، لكن النزوح أضاف لها أبعادًا جديدة. رغم أصوات الرصاص التي أحاطت بنا، كانت الموسيقى دائمًا بداخلي؛ المعاناة كانت مصدر إلهام، وبدل أن تقيدني، فتحت لي آفاقًا للإبداع”.

عبر سعود مع أسرته الحدود إلى أوغندا، متجهًا إلى معسكر نيومانزي عبر منطقة اليقوا بجنوب السودان. يصف لحظة وصوله بأنها كانت قاسية: “كنا في حالة مزرية، وكانت ذكريات الوطن تطاردني. تركنا خلفنا كل شيء، ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد تمامًا”.

وسط هذه الظروف، كانت الموسيقى طوق النجاة. أطلق سعود مبادرة لدعم اللاجئين نفسيًا عبر الموسيقى، حيث شكّل فرقًا صغيرة من الأطفال والشباب لتقديم جلسات غنائية ودعم نفسي. يروي سعود: “في أول حفل نظمته، رأيت الدموع في عيون الناس، خاصة النساء. قالوا لي إن الأغاني أعادتهم إلى السودان، فبكيت معهم”.

تدريب الأطفال

رغم التحديات، استمر سعود في تقديم تدريبات موسيقية للأطفال والشباب، على الرغم من انعدام الكهرباء وضيق المساحات في المعسكر. أنتج ست مقطوعات موسيقية خلال إقامته، لكنه لم يتمكن من تدوينها لعدم توفر النوتات الموسيقية.

يعاني اللاجئون السودانيون من أوضاع نفسية صعبة، حيث تلاحقهم ذكريات الفقد والنزوح القسري. ورغم ذلك، يواصل الكثيرون، مثل سعود، صناعة الأمل وسط الألم.

يقول سعود: “الموسيقى ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي رسالة أمل وسلام. سأستمر في استخدامها لتوحيد السودانيين وإعادة بناء الوطن”. في معسكرات اللجوء، تبقى أصوات الفنانين السودانيين شاهدًا على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى إبداع، وعلى قوة الموسيقى في خلق حياة جديدة حتى وسط أقسى الظروف.

الوسومآثار الحرب في السودان اللاجئين السودانيين في يوغندا معسكر بيالي للأجئين يوغندا

مقالات مشابهة

  • سر المرة الوحيدة التي بكى فيها سمير غانم على الشاشة.. ما القصة؟
  • الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر
  • من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى 
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • شاهد بالفيديو.. الكابتن التاريخي لنادي الزمالك يتغزل في المنتخب السوداني بعد تأهله للنهائيات: (السودان التي كتب فيها شوقي وتغنت لها الست أم كلثوم في القلب دائماً وسعادتنا كبيرة بتأهله)
  • ما الدول التي إذا زارها نتنياهو قد يتعرض فيها للإعتقال بعد قرار الجنائية الدولية؟
  • ما الدول التي يواجه فيها نتنياهو وغالانت خطر الاعتقال وما تبعات القرار الأخرى؟
  • مذاهب الفقهاء في تعدد المساجد التي تصحّ فيها الجمعة بالبلدة الواحدة
  • خبير دولي: نعيش السنوات الأولى من الحرب العالمية الثالثة واستخدام النووي فيها وارد
  • مجلس الأمن الذي لم يُخلق مثله في البلاد!