لا أخفي قلقًا من سيناريوهات ما بعد العدوان على غزة، رغم أنني أتمنى أن تطوى اليوم قبل الغد صفحة تلك الملحمة الفلسطينية التي أبهرت واستحقّت احترام وتعاطف الكثيرين. ذلك أن بعض سيناريوهات ما بعد الحرب تحاول بطرق شتى أن تحقق من خلال السياسة ما فشلت الحرب في بلوغه من أهداف.
صحيح أن الاحتيال والخديعة من خصائص الحركة الصهيونية منذ برزت في نهاية القرن التاسع عشر، التي بشّر بها تيودور هرتزل آنذاك في كتابه الشهير: «الدولة اليهودية».
لكني أزعم أن التاريخ الذي مرّ منذ تأسيس إسرائيل في كفة، والتاريخ الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023 في كفة أخرى مختلفة تمامًا، شكلًا وموضوعًا.
يسوغ لنا ذلك أن نقول إن ثمة فرقًا جوهريًا بين تجربة الاحتلال طوال 76 عامًا وبين ما حدث بعد «طوفان الأقصى»، وبعد نحو ثمانية أشهر من القتال، إذ أدركت إسرائيل أن المشروع الصهيوني يواجه خطرًا حقيقيًا يهدّد وجوده. وذلك ليس كلامي وحدي، لأنّ الإشارة إلى هذه الخلاصة وردت في كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تعليقه على قرار محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح، إذ نقلت عنه وكالات الأنباء قوله: «من يطالب دولة إسرائيل بوقف الحرب فإنه يطالبها بإنهاء وجودها نفسها، وهو ما لن نوافق عليه».
وتلك رسالة ردّدها بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وعضو الكنيست عن البيت اليهودي اليميني المتطرف، إذ تخلى الرجل عن الغرور والانتفاخ الكاذب وصرح بأنّ الاستجابة لقرار المحكمة الدولية تعد إيذانًا بنهاية المشروع الصهيوني. وليس ذلك فقط تعبيرًا عن فزعه من القرار، وإنما هو تعبير عن إدراكه لأصداء الزلزال الذي لاحظه في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، وأصدائها القوية التي ما زالت تتردد في أرجاء العالم حتى الآن.
لا غرابة في التشاؤم الذي عبّر عنه الوزير الإسرائيلي وهو ما لامسته من مقالة سابقة بعنوان: «أن تصبح إسرائيل تاريخًا»، أشرت فيها إلى علامات أفول المشروع الصهيوني بعدما انفضح أمرُه أمام العالم خلال حرب الإبادة على غزة، حين توالت شهادات الخبراء الإسرائيليين وغيرهم التي اعترفت بهزيمة الجيش الذي لا يقهر عسكريًا وأمنيًا واستخباراتيًا، إضافة إلى تدهور سمعتها الاقتصادية والأخلاقية وضلوعها في جرائم الإبادة، وغيرها من انتهاكات القانون الدوليّ، والقانون الدولي الإنساني.
وهي ذات التفاعلات التي دفعت ثلاث دول أوروبية: (إسبانيا، وأيرلندا والنرويج) إلى اعترافها بدولة فلسطين، الأمر الذي يساهم في عزلة إسرائيل دوليًا ويعزز تراجع الرأي العالمي إزاءها. في الوقت ذاته ارتفعت أسهم فلسطين: القضية والمقاومة والشعب الصامد والصابر. وكان للإدارة الأمريكية نصيبها من الفضيحة بعدما انكشف أمام العالم حجم التواطؤ والتأييد الذي تقدمه إلى إسرائيل، لتتجاوز الشراكة بينهما إلى التبنّي والسعي المستمرّ لتمكين إسرائيل من مواصلة القتل والتهجير، والتستّر على جرائم الإبادة.
حين دخلت الحرب شهرها الثامن ظهرت عوامل جديدة في المشهد. إذ ثبت أن إسرائيل لم تحقق شيئًا من أهدافها الاستراتيجية.
وظهرت الشقوق داخل مجتمعها، وتطوّرت مظاهرات أهالي الأسرى الذين ظلوا يطالبون بعقد هدنة مع حماس تطلق سراح أسراهم لديها، ثم أضافوا مؤخرًا مطالبات باستقالة الحكومة وانتخاب رئيس جديد لها. وفي هذه الأجواء ظهرت سيناريوهات ما بعد الحرب، خصوصًا ما رشح منها في الولايات المتحدة التي تقف في مربع الانحياز الصريح لإسرائيل.
التطوّر الآخر الهام؛ أن الدور الأمريكي تراجع بصورة نسبية، فرغم أنها لا تزال القوة الكبرى والأعظم عسكريًا، فإن وزنها الاستراتيجي ضعف بدوره بصورة ملحوظة. آية ذلك أنها لم تستطعْ أن تكبح جماح المحاكم الدولية التي تمرّدت وأصدرت أحكامًا كشفت عن عدم رغبة المحافل القانونية الدولية للأمم المتحدة بالاستمرار في منح إسرائيل حصانة مفتوحة الأجل، ولم تستطعْ واشنطن بكل ما تملكه من نفوذ أن تمنعها من ذلك.
كما أنها عجزت عن ممارسة ضغوطها لمنع جنوب أفريقيا من اتهام إسرائيل بممارسة الإبادة بحق الفلسطينيين في غزة، فضلًا عن فشلها في أن تحول دون تمرّد بعض دول أمريكا اللاتينية والتنديد بالعدوان الإسرائيلي، أحدثها إعلان المكسيك طلب الانضمام رسميًا إلى جنوب أفريقيا في الدعوى التي تنظر أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بانتهاك المعاهدة الدولية لمنع الإبادة.
ومن مصادفات الأقدار أن الجسر العائم الذي قامت واشنطن ببنائه بتكلفة 320 مليون دولار بدعوى إدخال المساعدات إلى القطاع انهارت أجزاء منه بعد مضي أسبوع من تشغيله، مما كان تعبيرًا عن هشاشة الدور الأمريكي، وركاكة التعامل مع معطيات الواقع الفلسطينيّ على الأرض.
من نماذج السيناريوهات التي أعنيها ما نشرته مجلة «بوليتيكو» الأمريكية ذات السمعة الرصينة التي نسبت معلوماتها إلى أربعة مسؤولين في إدارة الرئيس بايدن. وهناك أفكار أخرى قريبة تحدّث عنها تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيد للسياسات الإسرائيلية، ومقترحات ثالثة أعدّتها جماعة بحثية تسمى تحالف فاندنبرج الذي يتكوّن بدوره من عدد من مؤيدي إسرائيل.
ربما كان كافيًا لاستبعاد أمثال تلك الأطروحات بسرعة أن ندرك أنها خارجة من المطبخ الأمريكي الذي هو بمثابة الشريك والكفيل للدولة الإسرائيلية، وذلك لا يمنع من إبداء عدة الملاحظات الأخرى التي تنبّه إلى بعض العوامل المثيرة للقلق.
ذلك أن أغلب الأفكار المطروحة تحرص على التمكين الإسرائيلي وضمان سيطرتها على الأوضاع الأمنية بدعوى الحيلولة دون تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولتحقيق ذلك يسمح بعودة أعداد من الفلسطينيين بشروط معينة. ويتوازى ذلك مع تنشيط عملية الإعمار واستمرار التمويل. ويشرف على الإدارة المدنية مستشار أمريكي له مقر خارج غزة. إذ يقترح له أن يقيم في منطقة قريبة في سيناء أو عمّان، فريقه فقط هو الذي سيبقى داخل القطاع. أما الأمن والاستقرار فتتولاه قوة أممية تشترك فيها قوات تمثل ثلاث دول عربية «حليفة»، هي: مصر والمغرب والإمارات. وتضم إلى هذه القوة بعض عناصر سلطة التنسيق الأمني في رام الله.
وهذه النقطة الأخيرة لها خطورتها؛ لأنها بمثابة توريط غير مسبوق للدول العربية الحليفة في مهمة التنسيق الأمني سيئ السمعة، وهو ما يفتح الباب لاشتباك هذه القوة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، على نحو يفتح الباب لاحتمال نشوب حرب عربية – عربية.
إزاء ذلك خطر لي شبح اتفاق أوسلو الذي أخذت فيه الدولة العبرية الكثير من المنظمة، وخرج الفلسطينيون بالسلطة الوطنية وبوعد الحكم الذاتي الذي يمهد للدولة المستقلة والذي لم يتحقق منه شيء طوال أكثر من 30 عامًا. وبذلك حقّقت إسرائيل مرادها وأكل الفلسطينيون الهواء. وهو ما ينبهنا إلى تحديات اللحظة الراهنة التي تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن “طوفان الأقصى” كان ولا يزال هو الحلّ. ليس اليوم فقط، ولكن غدًا أيضًا.
مفكر إسلامي
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
تقرير تركي يوثق الإبادة بغزة ويدعو لإستراتيجية جديدة لملاحقة إسرائيل
أنقرة- أطلقت مؤسسة حقوق الإنسان والمساواة التركية تقريرا يعدّ أول وثيقة رسمية بهذا الحجم تصدر عن تركيا لتوثيق الجرائم الإسرائيلية في فلسطين، بما في ذلك الإبادة الجماعية في غزة.
وأشرف على إعداد التقرير فريق أكاديمي متخصص، مستندا إلى وثائق تاريخية وقانونية وصور أرشيفية ومعلومات مستقاة من مصادر موثوقة، ومن ذلك أرشيف البرلمان التركي ووكالة الأناضول.
وأُصدر التقرير الذي حمل عنوان "انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين والإبادة الجماعية في غزة" اليوم الثلاثاء، في قاعة الاحتفالات الكبرى بمقر البرلمان التركي في أنقرة، بحضور عدد من المسؤولين البارزين، من بينهم وزير العدل التركي يلماز تونتش، ورئيس البرلمان نعمان قورتولموش، إلى جانب شخصيات حقوقية وأكاديمية وإعلامية.
قورتولمش: اليوم نشهد نهاية الوهم القائل إن إسرائيل لا يمكن محاسبتها (مواقع التواصل) إستراتيجية جديدةقدم التقرير المؤلف من 4 أقسام رئيسية تحليلا شاملا للجذور التاريخية للصراع، وركز على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة ومناطق فلسطينية أخرى.
وتناول القسم الأول "نشأة المشروع الصهيوني"، محللا الأسس الدينية والتاريخية التي استُخدمت لتبرير قيام إسرائيل، وسلط الضوء على التحول التدريجي لسياساتها نحو العدوان المنهجي ضد الفلسطينيين.
أما القسم الثاني، فاستعرض انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها إسرائيل قبل تاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي شهد تصعيدا عسكريا واسع النطاق في غزة.
وفي القسم الثالث، ركز التقرير على الجرائم التي عمّت المدنيين الفلسطينيين بشكل منهجي، ومن ذلك استهداف المنازل والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، وهي جرائم عدّها التقرير انتهاكا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.
وأخيرا، في قسمه الرابع، أكد التقرير ضرورة صياغة إستراتيجية جديدة لمواجهة إسرائيل وسياساتها، مشددا على أهمية تبنّي لغة جديدة أكثر شمولا وفعالية لمحاسبة إسرائيل، بعيدا عن الحلول التقليدية التي أثبتت فشلها في كبح العدوان الإسرائيلي.
وأكد التقرير أن إسرائيل أظهرت مرارا وتكرارا عدم استعدادها للتوصل إلى حلول سلمية عبر المفاوضات، وذلك يستدعي تبنّي أدوات متعددة الأبعاد لمواجهتها، تشمل:
فرض عقوبات صارمة على إسرائيل لردعها عن الاستمرار في انتهاكاتها. إطلاق حملات دبلوماسية وقانونية لتجريم قادة الاحتلال دوليا. دعم الحقوق الفلسطينية عبر المؤسسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.وشدد التقرير على أن هذه الخطوات ليست خيارا، بل ضرورة ملحّة لوقف الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، مشيرا إلى أن استمرار التخاذل الدولي يعزز إفلات إسرائيل من العقاب.
دعم رسميوخلال فعالية الإعلان عن التقرير، ألقى وزير العدل التركي يلماز تونتش خطابا وصف فيه التقرير بأنه خطوة تاريخية نحو فضح جرائم إسرائيل التي "لا يمكن أن تمر دون محاسبة"، مشيرا إلى أهمية التعاون الدولي لتحقيق العدالة.
وقال إن "التقرير يقدم توثيقا دقيقا للانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، ليس فقط من خلال الهجمات العسكرية، بل باستخدام أدوات اقتصادية تهدف إلى تدمير المجتمع الفلسطيني".
وأضاف الوزير أن إسرائيل لا تزال تتحدى القوانين الدولية والإنسانية مدعومة بصمت المجتمع الدولي، مشيرا إلى أن الهجمات الإسرائيلية على غزة تسببت في خسائر بشرية فادحة. وذكر أن 41 ألف فلسطيني فقدوا حياتهم، بينما تجاوز عدد الجرحى 97 ألف شخص، وفقا للإحصائيات التي استند إليها التقرير.
من جهته، أكد رئيس البرلمان التركي نعمان قورتولموش في كلمته أن إسرائيل لم تعد دولة فوق القانون، وقال "اليوم نشهد نهاية الوهم القائل إن إسرائيل لا يمكن محاسبتها، وإن قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت يعد دليلا على ذلك". وأضاف "إسرائيل تعيش الآن أسوأ أيامها، والمجتمع الدولي مطالب بالوقوف بحزم ضد جرائمها".
تونتش: التقرير يمثل خطوة تاريخية نحو فضح جرائم إسرائيل (مواقع التواصل) وسيلة للمساءلة الدوليةبدوره، وضح رئيس مؤسسة حقوق الإنسان والمساواة التركية محمد كليتش أن التقرير يتضمن شهادات حية لضحايا فلسطينيين تعرضوا للجرائم الإسرائيلية، وأكد أن هذه الشهادات جمعت وفقا للمعايير القانونية الدولية، بهدف استخدامها كأدلة في المحاكم الدولية.
وأضاف كليتش "التقرير لا يقتصر على توثيق الجرائم، بل يقدم رؤية واضحة للمجتمع الدولي عن كيفية التعامل مع هذه الانتهاكات"، مشيرا إلى أن التقرير تم إعداده بالتعاون مع خبراء قانونيين وأكاديميين، واستند إلى وثائق أرشيفية وشهادات من فلسطينيين يعالجون في تركيا.
وأوضح أن المؤسسة قدمت نسخا من التقرير إلى عدد من الهيئات الدولية، منها المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بهدف دعم الجهود الرامية إلى محاسبة المسؤولين الإسرائيليين.
ورأى الباحث في القانون الدولي يوغال أجير أن التقرير يمثل خطوة نوعية في دعم القضية الفلسطينية على المستويين القانوني والدولي، إذ إنه يسلط الضوء بالتفصيل على الإبادة الجماعية والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، خاصة في غزة.
وأشار أجير -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن قيمة التقرير تكمن في كونه أداة قانونية قابلة للاستخدام في المحافل الدولية، مما يتيح إمكانية تفعيل المساءلة الدولية ضد المسؤولين الإسرائيليين عن هذه الجرائم.
وأضاف أن هذه الوثيقة تسدّ فجوة طالما استغلها الاحتلال الإسرائيلي، وهي غياب التوثيق الممنهج الذي يربط الجرائم المرتكبة بمقتضيات القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان. وأوضح أن التقرير يعزز شرعية المطالب الفلسطينية في العدالة الدولية ويمنح القضية الفلسطينية زخما جديدا في مواجهة محاولات تغييبها عن الأجندة العالمية.
وأكد الباحث أن هذه الخطوة تأتي ضمن جهود تركيا المستمرة لدعم القضية الفلسطينية، ليس فقط على الصعيد الإنساني، بل من خلال استخدام أدوات دبلوماسية وقانونية تضغط على المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته.