لجريدة عمان:
2025-01-05@05:58:37 GMT

غرب وشرق

تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT

هل تغيّرت النظرة الاستشراقيّة النمطيّة للعرب ولأدبهم؟ هل الاستشراق أو الاستعراب الجديد يعي خصوصيّة التمايز العربيّ؟ هنالك نعوت للمنطقة العربيّة أدخلت الخلل والإرباك في التفاعل مع الحضارة العربيّة، فمن نافل القول اليوم أن نتحدّث عن ثلاث مناطق جغرافيّة، أو ثلاثة أقاليم يُمكن أن تُمثّل المنطقة العربيّة، وهذه الأقاليم هي المغرب العربي والمشرق العربي والخليج العربي، وهي مناطق في حدّ ذاتها غير متماهية، وغير متجانسة، وإنّما تجمعها الجغرافيا أساسا.

لماذا عُدتُ إلى هذا السؤال؟ لأنّي لاحظتُ في السنوات الأخيرة، وأنا أحضر بشكل دائم إلى مؤتمرات علميّة في المنطقة الأوروبية، لاحظتُ تحوّلا في هذه النظرة النمطيّة، صارت الأجيال الجديدة تعرف أنّ عُمان ليست مصر، وليست السعوديّة، وقس على ذلك، من الممكن الخلاف الثقافي والجغرافي المميّز لأجزاء القطر الواحد. فكيف أدركت هذه النظرة الاستشراقيّة ذلك؟ الأدب هو واجهة الشعوب، هو المدخل الأساس للتعريف بالحضارات، الأدبُ هو الصورة التي تبدأ تخييلا وتنتهي واقعا. لقد حمل زهران القاسمي معه عُمان إلى أبعد بقاع الأرض، صار عنوانا في مداخلات حضرتُ عددا منها، صار قِبلةً للمستشرقين، يتّخذون من نصوصه صُوَرا للتعرّف على حضارة «غريبة عنهم» غريبة عن الشرق الذي عرفوه، حمل محمّد اليحيائي في رواية «الحرب» وفي رواية «حوض الشهوات» عُمان بتاريخها وحمولتها القصصيّة، حلّقت جوخة الحارثية إلى حضارات بعيدة، بعيدا عن القُطب الاستشراقي القديم، البريطاني الفرنسي الألماني، الذي حمل صُورًا نَمطيّة عن الحضارة العربيّة، صُورة الناقة والخيمة والمرأة المقهورة والرجل المتعجرف المتعالي، لِتُقْرأ في حضارة المجر، في تفاصيل الهند، في البرتغال، في كوريا، وفي غيرها ممّا يتخطّى العشرين لغة. هذه الصُوَر النمطيّة لحضارة العرب بدأت تتهاوى بوجود استشراق حديثٍ عارف، مطّلع، مُدرك لخصائص الفوارق بين مصر وعُمان، بل بين الكويت والبحرين، بل بين أهل الشمال وأهل الجنوب في كلّ منطقة عربيّة.

لم يُدرك -مع الأسف- لحدّ اليوم القائمون على أمور العباد سياسة وثقافةً في البلاد العربيّة أنّ الآداب والعلوم الإنسانيّة هي واجهة الشعوب، وأنّ العناية بها واجبة، ففصلوا بين كليّات علميّة هي الأفضل والأرغَب وكليّات للآداب في الدرك الأسفل من العناية والاهتمام، وصْلا لها بسوق الشغل. كليّات الآداب والعلوم الإنسانيّة هي الأجدر بالعناية والتطوير؛ لأنّها الرسالة الأصدق والأقوى إلى كلّ العالم، وقديما كان العرب على علمٍ بهذا الدور (رغم غياب المؤسّسات الجامعيّة والتعليميّة) فجعلوا الشاعر إذ نبغ في منزلةٍ رفيعة، ولنا في ذلك أمثلة عديدة، لا فائدة من التوسّع في ذكرها في وجيز هذه المساحة، يقول ابن رشيق القيروان في كتاب «العُمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنِّئون إلاّ بغلام يولَد، أو شاعرٍ ينبغ فيهم، أو فرس تنتج». ولكن مع الأسف نحن الآن لا نعتني بسُفراء حضاراتنا، ولا نُولي هؤلاء رفيع المنازل، في حين أنّ شعوبا تقتاتُ وبلدانا تعيش على حَدَثٍ في التاريخ أو آثارِ كاتب نبغ فيها وتنقّل من المحليّة إلى العالميّة، فهل يُخامرنا شكٌّ في أنّ «ألف ليلة وليلة» وجّهت أقواما إلى حضارة العرب، وصاغت متصوَّرا ذهنيّا ومتخيَّلا لشعوب، وهل ننفي أنّ «قنّاص» زهران له أثرٌ مهمٌّ في فكرٍ ناقدٍ يتتبّع آداب العرب، وأنّ قافره أثار وله قُرّاء لمعرفة هذه البلاد، وأنّ «بنت عامر» جوخة الحارثية في رواية «نارنجة» شكّلت صُورة عن عزمِ وحزم وصبْر تُراثٍ لمرأة عربيّة لم يتمثّلها الغربُ سابقا إلاّ في صُورة الحرملك، وقس على ذلك، شخصيّات لها في رواية «سيّدات القمر» فارقن المكتوب ودخلن في المرغوب، خرجن من النصّ إلى الواقع. الأدب هو السفير الأصدق والأكثر أثرا، بل الفنّ عموما هو الصانع للصورة الحقّة بين الأمم، وقد يقول قائل (بل قد يقول أكثر من قائل) ما الذي يهمّنا من تصوّر الآخر لنا، فلنعش في أرضنا وليتصوّروا ما أرادوا، وهذا القول -إضافة إلى ريائه وتساقطه- خارج عن سياق التاريخ، وبلادنا العربيّة تنتعش من السياحة، وتدفع أحيانا لغربيين ضعاف أموالا طائلة لكتابة مقالٍ في صحيفة معلومة عن البلاد، نحن في حاجة إلى صورة حقّة، إلى صورة فنيّة، يصنعها الكُتّاب والفنّانون، حتّى إن أظهروا الظلم والفقر والعجز، فالجمال ليس في مدح المدن والبلدان، بل في التعبير عنها بقصّة جميلة أو بلوحة فنيّة أو بموسيقى تخطّت محلّيتها لتحقّق عالميّة. لا نصنع أديبا عالميّا كلّ يوم، ولذلك فإن نبغ فينا أديب أو رسّام أو مسرحيّ وجب أن نرفعه على الأعناق لا أن نضع كلّ العراقيل أمامه، وأنا شهدتُ في عدد من مدن العالم كيف تحوّل الروائيّ الليبي إبراهيم الكوني إلى أيقونة يُعجَب بها كبار ناقدي الغرب. لقد عاشت مدنٌ في حضارة الغرب على كُتّابها، صنعت «براغ» من كافكا مزارا ومتحفا وأثرا بعد عين، وسياحةً لا تهدأ ليلا ولا نهارا، مدينة «ستراتفورد أبون» التي تقتات من خُطى شكسبير، وتعيش على أنفاسه، إذ تحوّلت إلى مدينةٍ رمزٍ بسببه، وفي كولومبيا تلقّفت مدينة أراكاتاكا مسقط رأس جابريال جارسيا ماركيز، إمكان التشابه بينها وقرية ماكوندو الخياليّة التي دارت فيها أحداث رواية «مائة عام من العزلة» لتتحوّل إلى مزار ولتعيش من أنفاس كتابته، وليكون لها فضل إنشاء وبعث روائي عالمي. هكذا يبعثُ الكُتّابُ والفنّانون والأدباء قُرى نائية، ويحيون مدنا، يُحوّلونها إلى مزارات لا تهدأ. فما نصيبُ أدبائنا العرب، وهم الذين حملوا معهم همومنا وواجهوا صِعابا لعلّ أقساها وأمرّها كان من ذوي القربى وليس من ذوي الغربة؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی روایة العربی ة

إقرأ أيضاً:

طريق الإصلاح في العالم العربي

يشهد العالم العربي نقطة تحول حاسمة في مسيرته نحو التنمية المستدامة، في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم نتيجة التقدم التكنولوجي، والتغيرات الديموغرافية، والضغوط البيئية المتزايدة. ويعد الإصلاح الداخلي والإصلاح التحديثي من المفاهيم الحديثة لتحديث الأنظمة والهياكل المؤسسية لتلبية المتطلبات الحديثة، كمسارين مترابطين ومتكاملين لتحقيق هذه الغاية. 
تُعد الإصلاحات الداخلية ذات أهمية جوهرية، إذ تهدف إلى إعادة الهياكل التنظيمية القائمة لتحسين الكفاءة والمساءلة والشمولية. وقد شهدت المنطقة العربية في السنوات القليلة الماضية جهود لافتة لتعزيز معايير الشفافية ومكافحة الفساد في المؤسسات العامة والخاصة. وعلى الرغم من أن برامج الإصلاحات أظهرت بعض التقدم وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، إلا أن التقارير تنوه إلى أن دول المنطقة لا زالت بحاجة لتغييرات هيكلية لتحقيق التقدم المنشود. 
الإصلاحات المطلوبة وفق هذه التقارير يجب أن تتعامل مع الأوضاع الراهنة لسوق العمل والمتطلبات المهارية للقوى العاملة في العالم العربي. وبحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنه وبالرغم من أن70%  من سكان المنطقة متصلين بالإنترنت منذ عام 2022، إلا أن 1.7% فقط يمتلكون المهارات التقنية المتقدمة اللازمة للتعامل مع الوظائف الرقمية الحديثة، مثل البرمجة، وتحليل البيانات، وتطوير التطبيقات، والأمن السيبراني. جدير بالإشارة إلى أنه في عام 2023، بلغت نسبة البطالة بين الشباب في العالم العربي حوالي 25%، والذي يعد من أعلى المعدلات العالمية. ويتوقع دخول أكثر من 100 مليون من الشباب إلى سوق العمل خلال العقد المقبل، ليشكل بدوره ضغطًا إضافيًا على الحكومات العربية لتوفير فرص العمل، وتطوير اقتصاداتها بما يواكب الاحتياجات المتزايدة.
من الناحية الأخرى، يهدف الإصلاح التحديثي إلى تمكين الاقتصادات والمجتمعات العربية من الاندماج في السياق العالمي عبر الابتكار والتكنولوجيا. الاستثمار في الطاقة المتجددة هو من أحد الأمثلة البارزة على الإصلاح التحديثي. عربياً، أحرزت دول مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال كمشاريع "مصدر"، و"بنبان" ومجمع "نور ورزازات"، كأبرز المشاريع العالمية.
وعلى الرغم من هذه الجهود، إلا أن المنطقة العربية لا تزال متأخرة في تحقيق إمكاناتها في الطاقة المتجددة. وفقًا لتقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أيرينا)، بلغت القدرة الإنتاجية للطاقة الشمسية في منطقة الشرق الأوسط حوالي 12.9 جيجاواط في عام 2022، وهو رقم يعادل تقريبًا قدرة فرنسا.
إلى جانب الطاقة المتجددة، يشكل تنويع الاقتصاد عنصرًا أساسيًا في الإصلاح التحديثي. تاريخيًا، اعتمدت العديد من الدول العربية بشكل كبير على النفط، ما جعل اقتصاداتها عرضة لتقلبات الأسعار والانتقال العالمي إلى الاقتصاد منخفض الكربون. وأصبح من الأهمية على الدول العربية تطوير قطاعاتها الحيوية مثل التكنولوجيا، والسياحة، والزراعة كخطوة ضرورية لتقليل الاعتماد على العائدات النفطية وبناء نماذج اقتصادية أكثر توازنًا واستدامة. المنطقة الاقتصادية لقناة السويس هو نموذج لمثل هذه المشاريع والتي تركزت على تطوير البنية التحتية، وتحسين الخدمات اللوجستية، وجذب الاستثمارات، وتوطين الصناعات. 
إجمالاً، تتطلب كل من الإصلاحات الداخلية والتحديثية أطر تشريعية قوية لدعم الابتكار وتحقيق العدالة وتطوير الشفافية والحد من الفساد. تحتاج الاقتصادات الحديثة إلى أنظمة قانونية مرنة تحمي حقوق الملكية الفكرية، وتضمن أعلى مستويات أمن البيانات، وتحسين جاذبيتها للاستثمارات الأجنبية. شمولية الإصلاحات مسألة مهمة للغاية لتلبية احتياجات الفئات المهمشة وإشراك كافة مكونات المجتمع وضمان تكافؤ الفرص.
التحول الرقمي بطبيعته يشكل محورًا مهماً للتكامل بين الإصلاح الداخلي والتحديثي. الوتيرة السريعة لتبني التكنولوجيا الرقمية في التعليم، والصحة، والتجارة ساهمت بتحولات نوعية في هذه القطاعات. وقد برزت مبادرات مثل الاستراتيجية الرقمية في مصر وبرنامج الحكومة الذكية في الإمارات كنماذج لافتة ارتكزت على بناء القدرات الداخلية وتعزيز التنافسية العالمية، إلا أن التوسع في مشاريع التحول الرقمي أصبح يتطلب مزيد من الإصلاحات الداخلية والتحديثية لمجاراة قضايا الأمن السيبراني، والخصوصية الرقمية، ورفع مستوى الوعي التكنولوجي لضمان شمولية فوائده.
في المجمل العام، لا تزال التحديات كبيرة. تعاني العديد من الدول العربية من ارتفاع مستويات الديون، والضغوط التضخمية، والتغيرات الديموغرافية التي أصبحت الثقل الذي ينهك كاهل الخدمات العامة ويضعف ثقة جمهور المجتمع. أضف إلى ذلك، أن المنطقة تعاني من عدم استقرار جيوسياسي ومخاطر مرتبطة بالتغير المناخي، وهو ما يزيد من تعقيد الأوضاع ويُضعف قدرة الدول على تحقيق الاستقرار والتنمية.
بالرغم من ذلك، توفر هذه التحديات فرص كبيرة، وكما وصفه الفيلسوف الصيني "سون تزو" في كتابه "فن الحرب": "من قلب الفوضى، تولد الفرصة."
فالتحولات الديموغرافية في العالم العربي تمثل فرص وآفاق واسعة. توقعات النمو السكاني تشير إلى أن عدد سكان المنطقة سيتجاوز 500 مليون نسمة بحلول عام 2050. إذا استطاعت الدول العربية من التخطيط السليم لمجتمعاتها وإشراكهم في دفع عجلة التنمية، فإن ذلك سيمثل قوة دفع هائلة. برامج الإصلاح والتحديث يجب أن تركز على الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية وريادة الأعمال لتحويل الشباب إلى محرك للابتكار والتنمية.
من جانب آخر، تقدم المتغيرات الحالية في سلاسل التوريد العالمية فرصة إضافية للعالم العربي. ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول إلى تنويع شركائها التجاريين وتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية، يمكن أن تتصدر المنطقة كمركز رئيسي للتجارة العالمية بفضل موقعها الاستراتيجي والبنية التحتية الناشئة. كما يمكن لتوسيع التجارة البينية العربية أن يعزز من التكامل الاقتصادي العربي والإقليمي.
في نهاية المطاف، يرتبط نجاح الإصلاحات في العالم العربي بمدى قدرة الدول على استيعاب أهمية التكامل بين المفهومين الأساسيين للإصلاح؛ الإصلاحات الداخلية معنية بتوفير الأساس الضروري للاستقرار والشمولية في المؤسسات والهياكل الوطنية، بينما الإصلاحات التحديثية تركز على تحفيز التنافسية ودعم الابتكار لتلبية متطلبات العصر الرقمي. الجمع بين هذين المسارين، سيمكن للدول العربية من صياغة خارطة طريق فعّالة لتحقيق التنمية المستدامة وضمان مستقبل مستقر للمنطقة.

مقالات مشابهة

  • الأحد .. أحوال جوية غير مستقرة
  • جابر الأنصاري.. منظر التوفيقية ومؤرخ الفكر العربي
  • زحزحة المعتقدات وسؤال الهُوية في رواية عائدٌ إلى حيفا
  • العراق يشارك بعملين في مهرجان المسرح العربي بدورته الـ15 في مسقط
  • مجلس وزراء الداخليَّة العرب يحتفل بالأسبوع العربي للتوعية بمخاطر الإرهاب
  • طريق الإصلاح في العالم العربي
  • دار الأوبرا تحتضن حفل إطلاق رواية لعنة الخواجة.. 9 يناير
  • اقرأ غدًا في «البوابة».. فصائل مدعومة من تركيا تهاجم قوات سوريا الديمقراطية جنوب وشرق منبج
  • حب مسموم.. رواية تناقش قضية النرجسية في ضوء التطور التكنولوجي
  • «المزاحمية» رواية للشاعر سمير الأمير الأولى بمعرض القاهرة للكتاب