هل تغيّرت النظرة الاستشراقيّة النمطيّة للعرب ولأدبهم؟ هل الاستشراق أو الاستعراب الجديد يعي خصوصيّة التمايز العربيّ؟ هنالك نعوت للمنطقة العربيّة أدخلت الخلل والإرباك في التفاعل مع الحضارة العربيّة، فمن نافل القول اليوم أن نتحدّث عن ثلاث مناطق جغرافيّة، أو ثلاثة أقاليم يُمكن أن تُمثّل المنطقة العربيّة، وهذه الأقاليم هي المغرب العربي والمشرق العربي والخليج العربي، وهي مناطق في حدّ ذاتها غير متماهية، وغير متجانسة، وإنّما تجمعها الجغرافيا أساسا.
لم يُدرك -مع الأسف- لحدّ اليوم القائمون على أمور العباد سياسة وثقافةً في البلاد العربيّة أنّ الآداب والعلوم الإنسانيّة هي واجهة الشعوب، وأنّ العناية بها واجبة، ففصلوا بين كليّات علميّة هي الأفضل والأرغَب وكليّات للآداب في الدرك الأسفل من العناية والاهتمام، وصْلا لها بسوق الشغل. كليّات الآداب والعلوم الإنسانيّة هي الأجدر بالعناية والتطوير؛ لأنّها الرسالة الأصدق والأقوى إلى كلّ العالم، وقديما كان العرب على علمٍ بهذا الدور (رغم غياب المؤسّسات الجامعيّة والتعليميّة) فجعلوا الشاعر إذ نبغ في منزلةٍ رفيعة، ولنا في ذلك أمثلة عديدة، لا فائدة من التوسّع في ذكرها في وجيز هذه المساحة، يقول ابن رشيق القيروان في كتاب «العُمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنِّئون إلاّ بغلام يولَد، أو شاعرٍ ينبغ فيهم، أو فرس تنتج». ولكن مع الأسف نحن الآن لا نعتني بسُفراء حضاراتنا، ولا نُولي هؤلاء رفيع المنازل، في حين أنّ شعوبا تقتاتُ وبلدانا تعيش على حَدَثٍ في التاريخ أو آثارِ كاتب نبغ فيها وتنقّل من المحليّة إلى العالميّة، فهل يُخامرنا شكٌّ في أنّ «ألف ليلة وليلة» وجّهت أقواما إلى حضارة العرب، وصاغت متصوَّرا ذهنيّا ومتخيَّلا لشعوب، وهل ننفي أنّ «قنّاص» زهران له أثرٌ مهمٌّ في فكرٍ ناقدٍ يتتبّع آداب العرب، وأنّ قافره أثار وله قُرّاء لمعرفة هذه البلاد، وأنّ «بنت عامر» جوخة الحارثية في رواية «نارنجة» شكّلت صُورة عن عزمِ وحزم وصبْر تُراثٍ لمرأة عربيّة لم يتمثّلها الغربُ سابقا إلاّ في صُورة الحرملك، وقس على ذلك، شخصيّات لها في رواية «سيّدات القمر» فارقن المكتوب ودخلن في المرغوب، خرجن من النصّ إلى الواقع. الأدب هو السفير الأصدق والأكثر أثرا، بل الفنّ عموما هو الصانع للصورة الحقّة بين الأمم، وقد يقول قائل (بل قد يقول أكثر من قائل) ما الذي يهمّنا من تصوّر الآخر لنا، فلنعش في أرضنا وليتصوّروا ما أرادوا، وهذا القول -إضافة إلى ريائه وتساقطه- خارج عن سياق التاريخ، وبلادنا العربيّة تنتعش من السياحة، وتدفع أحيانا لغربيين ضعاف أموالا طائلة لكتابة مقالٍ في صحيفة معلومة عن البلاد، نحن في حاجة إلى صورة حقّة، إلى صورة فنيّة، يصنعها الكُتّاب والفنّانون، حتّى إن أظهروا الظلم والفقر والعجز، فالجمال ليس في مدح المدن والبلدان، بل في التعبير عنها بقصّة جميلة أو بلوحة فنيّة أو بموسيقى تخطّت محلّيتها لتحقّق عالميّة. لا نصنع أديبا عالميّا كلّ يوم، ولذلك فإن نبغ فينا أديب أو رسّام أو مسرحيّ وجب أن نرفعه على الأعناق لا أن نضع كلّ العراقيل أمامه، وأنا شهدتُ في عدد من مدن العالم كيف تحوّل الروائيّ الليبي إبراهيم الكوني إلى أيقونة يُعجَب بها كبار ناقدي الغرب. لقد عاشت مدنٌ في حضارة الغرب على كُتّابها، صنعت «براغ» من كافكا مزارا ومتحفا وأثرا بعد عين، وسياحةً لا تهدأ ليلا ولا نهارا، مدينة «ستراتفورد أبون» التي تقتات من خُطى شكسبير، وتعيش على أنفاسه، إذ تحوّلت إلى مدينةٍ رمزٍ بسببه، وفي كولومبيا تلقّفت مدينة أراكاتاكا مسقط رأس جابريال جارسيا ماركيز، إمكان التشابه بينها وقرية ماكوندو الخياليّة التي دارت فيها أحداث رواية «مائة عام من العزلة» لتتحوّل إلى مزار ولتعيش من أنفاس كتابته، وليكون لها فضل إنشاء وبعث روائي عالمي. هكذا يبعثُ الكُتّابُ والفنّانون والأدباء قُرى نائية، ويحيون مدنا، يُحوّلونها إلى مزارات لا تهدأ. فما نصيبُ أدبائنا العرب، وهم الذين حملوا معهم همومنا وواجهوا صِعابا لعلّ أقساها وأمرّها كان من ذوي القربى وليس من ذوي الغربة؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی روایة العربی ة
إقرأ أيضاً:
نجم الفرقد
لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمين إياها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.
والنجم الذي نتحدث عنه اليوم هو نجم الفرقد، ويسميه العرب أيضًا الفرقدان، وهو نجم يأتي متلازمًا مع نجم آخر، فـيظهران فـي السماء بالقرب من نجم القطب الشمالي، فـي كوكبة الدب الأصغر، وجاء فـي لسان العرب أن معنى كلمة الفرقد هو صغير البقر، كما أن العرب كانوا يشبهون هذين النجمين بالأخوين اللذين لا يفترقان أبدًا، ويقال فـي التراث العربي عنهما «لا ينام الفرقدان»، فـي إشارة إلى أن هذين النجمين يُشاهدان طوال الليل فـي السماء، ويعد نجم الفرقد من ضمن أكثر النجوم ورودًا فـي الشعر العربي، فهو يُضرب به المثل فـي الرفعة والعزة والمنعة والشرف، فأكثروا من ذكره فـي قصائدهم على مر العصور. وقد اعتمد البحارة العرب على نجم الفرقد فـي تحديد الاتجاهات أثناء رحلاتهم البحرية، خاصة فـي الليل، نظرًا لثبات موقعه النسبي فـي السماء الشمالية، كما أنه يُرى طوال العام ولا يغيب تحت الأفق، وقد ذكره البحار العماني الشهير أحمد بن ماجد فـي منظوماته الفلكية مبينًا موقعه وطرق الاستدلال به فـي السماء. وإذا أتينا إلى ما قاله العلم الحديث عن هذا النجم، فنجد أن الدراسات تقول إن هذا النجم العملاق الأبيض يُقدَّر بحوالي 9 أضعاف قطر الشمس، كما أن درجة حرارة سطحه تصل إلى 7100 درجة مئوية، وهذا يعني أنه أكثر حرارة من شمسنا، ولذلك، هو أكثر لمعانًا من شمسنا بحوالي 420 مرة على أقل تقدير، ويبعد عن الأرض بحوالي 97 سنة ضوئية. وأما عن حضوره فـي الثقافة العربية، فقد تحدثت عنه كثيرًا كتب التراث، وتناوله الشعراء بكثرة فـي قصائدهم، ولو أتينا إلى الشعر العماني لوجدنا أن أشهرهم ذكروه فـي قصائدهم، فهذا الشاعر العماني أبو مسلم البهلاني يذكره فـي إحدى قصائده الوعظية، ويقول إن الزوال سيصل حتى نجم الفرقدين، فقال:
سيعلو البلاء إلى الفرقدي
ن ينتهب الصحبة الخالدة
ويصدع فـي قبة الشمس من
غوائله صدعة صاعدة
أما الشاعر سليمان النبهاني فقد ذكر هذا النجم فـي قصيدة غزلية شبه فـيها نجمي الفرقدين بعيني حبيبته، فقال:
تَيَّمت قلبي بعينيْ فرقدٍ
مُفردٍ فاجأه الرعبُ لَهِقْ
وبخّدِ عَندمّيٍ واضح
بمياه الحُسن ريَّانَ شرِقْ
وفـي قصيدة غزل أخرى يقول:
كالفَرقدِ الأحوى الأغرّ إذا
لرْبرَبهِ تبدَّى
تفترُّ عن كالأقْحَوان
سقاهُ نوءُ النجم رَعدا
ونجد الشاعر ابن شيخان السالمي يورد هذا النجم فـي معرض مدحه لممدوحين ويقول إنهما ارتفعا عزًا وشرفًا على نجمي السها والفرقد، فقال:
لكن نجوتم بالهُمَامَيْنِ اللذي
ن انحطَّ دونهما السها والفرقدُ
والنصرُ أقبل فاتحًا أبوابه
لهما وقال لجوا ببابي واصْعدوا
ويقول فـي قصيدة أخرى:
ليلي وليلكم يؤرَّق
ذا وهذا يرقُدُ
لكم التنعم فارقدوا
ولي السها والفرقدُ
مالي وللدهر المُعَ
ادي دائمًا يتهدّدُ
ولو نظرنا إلى أشعار الستالي لوجدنا أنه أيضًا أورد هذا النجم وقرنه بنجم السها كما فعل ابن شيخان، وقد جاء ذكره فـي قصيدة مدح مخمسة، فهو يقول:
له الفخارُ كلُّه من الغمام ظِلّهُ
ووبّلهُ وطَلّهُ وفـي العُلى مَحّلهُ
حيثُ السهُّا والفَرقدُ
وأما الشاعر سعيد بن مسلم المجيزي المشهور بأبي الصوفـي، فنجد أنه ضمن هذا النجم فـي بعض قصائده فـي المدح، فهو يقول:
يومٌ تَضمَّخ بالفَخارِ أَديمُه
فغدا بسطح الفرقدين وراحا
فانْعَمْ نَعِمْت أبا سعيد إنما
بختانِ نجلِك قَدْ نعمتَ صباحا
ومن الشعراء الذين أوردوا ذكر الفرقد فـي قصائدهم الشاعر المشهور «ابن رزيق»، وهو حميد بن حمد بن رزيق، الذي يقول فـي إحدى قصائد المدح:
لا والذى للحُسنِ أودعَ وجْهَهُ
قمرًا وقلَّدَ نَحرَه بالفرقدِ
وجَلا ظلامَ البُؤْسِ عنّا والعَنا
بشباةِ صَمْصامِ الأمير محمدِ
ونجد كذلك فـي ديوان الشاعر هلال بن سعيد بن عرابة ذكرًا لهذا النجم فـي قصيدة مدح، يقول فـيها:
بسيفٍ يباري البرقَ يفري به العِدا
ولم يَبْقَ من أجسادِهم أبدًا جَزْلُ
وناديه فوقَ الفرقديْنِ محلُّه
وأعداؤه طُرًّا يَدُوْسهم النَّعْلُ