لجريدة عمان:
2024-10-05@10:07:59 GMT

غرب وشرق

تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT

هل تغيّرت النظرة الاستشراقيّة النمطيّة للعرب ولأدبهم؟ هل الاستشراق أو الاستعراب الجديد يعي خصوصيّة التمايز العربيّ؟ هنالك نعوت للمنطقة العربيّة أدخلت الخلل والإرباك في التفاعل مع الحضارة العربيّة، فمن نافل القول اليوم أن نتحدّث عن ثلاث مناطق جغرافيّة، أو ثلاثة أقاليم يُمكن أن تُمثّل المنطقة العربيّة، وهذه الأقاليم هي المغرب العربي والمشرق العربي والخليج العربي، وهي مناطق في حدّ ذاتها غير متماهية، وغير متجانسة، وإنّما تجمعها الجغرافيا أساسا.

لماذا عُدتُ إلى هذا السؤال؟ لأنّي لاحظتُ في السنوات الأخيرة، وأنا أحضر بشكل دائم إلى مؤتمرات علميّة في المنطقة الأوروبية، لاحظتُ تحوّلا في هذه النظرة النمطيّة، صارت الأجيال الجديدة تعرف أنّ عُمان ليست مصر، وليست السعوديّة، وقس على ذلك، من الممكن الخلاف الثقافي والجغرافي المميّز لأجزاء القطر الواحد. فكيف أدركت هذه النظرة الاستشراقيّة ذلك؟ الأدب هو واجهة الشعوب، هو المدخل الأساس للتعريف بالحضارات، الأدبُ هو الصورة التي تبدأ تخييلا وتنتهي واقعا. لقد حمل زهران القاسمي معه عُمان إلى أبعد بقاع الأرض، صار عنوانا في مداخلات حضرتُ عددا منها، صار قِبلةً للمستشرقين، يتّخذون من نصوصه صُوَرا للتعرّف على حضارة «غريبة عنهم» غريبة عن الشرق الذي عرفوه، حمل محمّد اليحيائي في رواية «الحرب» وفي رواية «حوض الشهوات» عُمان بتاريخها وحمولتها القصصيّة، حلّقت جوخة الحارثية إلى حضارات بعيدة، بعيدا عن القُطب الاستشراقي القديم، البريطاني الفرنسي الألماني، الذي حمل صُورًا نَمطيّة عن الحضارة العربيّة، صُورة الناقة والخيمة والمرأة المقهورة والرجل المتعجرف المتعالي، لِتُقْرأ في حضارة المجر، في تفاصيل الهند، في البرتغال، في كوريا، وفي غيرها ممّا يتخطّى العشرين لغة. هذه الصُوَر النمطيّة لحضارة العرب بدأت تتهاوى بوجود استشراق حديثٍ عارف، مطّلع، مُدرك لخصائص الفوارق بين مصر وعُمان، بل بين الكويت والبحرين، بل بين أهل الشمال وأهل الجنوب في كلّ منطقة عربيّة.

لم يُدرك -مع الأسف- لحدّ اليوم القائمون على أمور العباد سياسة وثقافةً في البلاد العربيّة أنّ الآداب والعلوم الإنسانيّة هي واجهة الشعوب، وأنّ العناية بها واجبة، ففصلوا بين كليّات علميّة هي الأفضل والأرغَب وكليّات للآداب في الدرك الأسفل من العناية والاهتمام، وصْلا لها بسوق الشغل. كليّات الآداب والعلوم الإنسانيّة هي الأجدر بالعناية والتطوير؛ لأنّها الرسالة الأصدق والأقوى إلى كلّ العالم، وقديما كان العرب على علمٍ بهذا الدور (رغم غياب المؤسّسات الجامعيّة والتعليميّة) فجعلوا الشاعر إذ نبغ في منزلةٍ رفيعة، ولنا في ذلك أمثلة عديدة، لا فائدة من التوسّع في ذكرها في وجيز هذه المساحة، يقول ابن رشيق القيروان في كتاب «العُمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنِّئون إلاّ بغلام يولَد، أو شاعرٍ ينبغ فيهم، أو فرس تنتج». ولكن مع الأسف نحن الآن لا نعتني بسُفراء حضاراتنا، ولا نُولي هؤلاء رفيع المنازل، في حين أنّ شعوبا تقتاتُ وبلدانا تعيش على حَدَثٍ في التاريخ أو آثارِ كاتب نبغ فيها وتنقّل من المحليّة إلى العالميّة، فهل يُخامرنا شكٌّ في أنّ «ألف ليلة وليلة» وجّهت أقواما إلى حضارة العرب، وصاغت متصوَّرا ذهنيّا ومتخيَّلا لشعوب، وهل ننفي أنّ «قنّاص» زهران له أثرٌ مهمٌّ في فكرٍ ناقدٍ يتتبّع آداب العرب، وأنّ قافره أثار وله قُرّاء لمعرفة هذه البلاد، وأنّ «بنت عامر» جوخة الحارثية في رواية «نارنجة» شكّلت صُورة عن عزمِ وحزم وصبْر تُراثٍ لمرأة عربيّة لم يتمثّلها الغربُ سابقا إلاّ في صُورة الحرملك، وقس على ذلك، شخصيّات لها في رواية «سيّدات القمر» فارقن المكتوب ودخلن في المرغوب، خرجن من النصّ إلى الواقع. الأدب هو السفير الأصدق والأكثر أثرا، بل الفنّ عموما هو الصانع للصورة الحقّة بين الأمم، وقد يقول قائل (بل قد يقول أكثر من قائل) ما الذي يهمّنا من تصوّر الآخر لنا، فلنعش في أرضنا وليتصوّروا ما أرادوا، وهذا القول -إضافة إلى ريائه وتساقطه- خارج عن سياق التاريخ، وبلادنا العربيّة تنتعش من السياحة، وتدفع أحيانا لغربيين ضعاف أموالا طائلة لكتابة مقالٍ في صحيفة معلومة عن البلاد، نحن في حاجة إلى صورة حقّة، إلى صورة فنيّة، يصنعها الكُتّاب والفنّانون، حتّى إن أظهروا الظلم والفقر والعجز، فالجمال ليس في مدح المدن والبلدان، بل في التعبير عنها بقصّة جميلة أو بلوحة فنيّة أو بموسيقى تخطّت محلّيتها لتحقّق عالميّة. لا نصنع أديبا عالميّا كلّ يوم، ولذلك فإن نبغ فينا أديب أو رسّام أو مسرحيّ وجب أن نرفعه على الأعناق لا أن نضع كلّ العراقيل أمامه، وأنا شهدتُ في عدد من مدن العالم كيف تحوّل الروائيّ الليبي إبراهيم الكوني إلى أيقونة يُعجَب بها كبار ناقدي الغرب. لقد عاشت مدنٌ في حضارة الغرب على كُتّابها، صنعت «براغ» من كافكا مزارا ومتحفا وأثرا بعد عين، وسياحةً لا تهدأ ليلا ولا نهارا، مدينة «ستراتفورد أبون» التي تقتات من خُطى شكسبير، وتعيش على أنفاسه، إذ تحوّلت إلى مدينةٍ رمزٍ بسببه، وفي كولومبيا تلقّفت مدينة أراكاتاكا مسقط رأس جابريال جارسيا ماركيز، إمكان التشابه بينها وقرية ماكوندو الخياليّة التي دارت فيها أحداث رواية «مائة عام من العزلة» لتتحوّل إلى مزار ولتعيش من أنفاس كتابته، وليكون لها فضل إنشاء وبعث روائي عالمي. هكذا يبعثُ الكُتّابُ والفنّانون والأدباء قُرى نائية، ويحيون مدنا، يُحوّلونها إلى مزارات لا تهدأ. فما نصيبُ أدبائنا العرب، وهم الذين حملوا معهم همومنا وواجهوا صِعابا لعلّ أقساها وأمرّها كان من ذوي القربى وليس من ذوي الغربة؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی روایة العربی ة

إقرأ أيضاً:

البطولة الهادئة في رواية «اللعب بالجنود » لطارق عسراوي

ما قصة (النوفـيلا) الفلسطينية المنتشرة هذه الأيام ؟ ما سر ميل الفلسطيني إلى كتابة رواية قصيرة ؟ وذهابه إلى مناطق محظورة، وغريبة عن المضمون الروائي الفلسطيني؟.

هل هناك تفسير آخر غير أن الفلسطيني الكاتب يكتب روايته وهو ينظر بين الصفحة والأخرى من النافذة، مستعجلًا خوفًا من موت سريع؟ يلاحق الموت الإنسان الفلسطيني فـي كل مكان فـي منامه وفـي ذاكرته وحتى فـي مستقبله، قالت لي ابنة عمي الخمسينية أمس مذعورة: (هل سمعت الأخبار؟ اليهود يريدون ترحيلنا إلى منطقة الأزرق فـي عمّان، وهي منطقة صحراوية وهناك سوف نموت من الحشرات والعطش) وهكذا يعيش احتمال الموت فـي بيوت الفلسطينيين كأحد الأبناء تمامًا.

بين يديّ رواية قصيرة (نوفـيلا) للقاص طارق عسراوي (اللعب بالجنود) من إصدار دار طباق للنشر والتوزيع برام الله كنسخة فلسطينية وفـي طبعة عربية عن دار تكوين الكويتية، وهي من الروايات التي ستبقى تحفر داخلي حفرياتها الخاصة، الزمان: الانتفاضة الأولى، من 1987 حتى 1993 ويمتد إلى ما بعد أوسلو، حيث يكبر الأولاد، المكان: حارات جنين، المدينة التي عذبت وحيرت الاحتلال وما زالت تفعل، الشخوص: (زياد وتميم وجميل وأيمن وأبو زياد وأبو تميم وابتهال والمفـيد) تبدأ الرواية بشقاوة صبيان، وحياة يحاول الصبيان أن تكون طبيعية، لكن دوريات الاحتلال وحواجزهم، تأبى إلا أن تكسرها، تمتد الشقاوة الطفلية لتصبح طريقةً للانتقام من كسر الاحتلال لحياة الفلسطينيين، وقد رأيت هذه الطريقة السهلة والطريفة فـي المقاومة فـي باب العامود بالقدس، حيث يتصنع الأطفال حين يغادرون الدرجات نسيان أكياس سوداء محشوة بغائط البشر والحيوانات، فـيدب الذعر فـي جنود المكان، يطردون الناس ويبدأون ورشة فحص لهذا الكيس، الذي يفجرونه عبر (روبوت)، فـيتناثر الغائط على الجنود، وتشع من فوق سور القدس ابتسامات الأولاد.

وهذا ما يفعله صبيان جنين، يمدون أسلاكًا، فـي الطرقات، ويهربون، فـيخاف الجنود، يتسلى صبيان حارات جنين باللعب بالجنود، ليس ملئًا لفراغ فقط، ولكن انتقامًا لسنوات طويلة من التعذيب والقتل والهدم. اللغة فـي الرواية ذكية وهادئة، وتعرف كيف تسبب لنا الانفعال الجمالي، وكأنها نهر طبيعي ينبع من نفسه ويصب فـي نفسه، لا أحد يصرخ فـي هذه الرواية، هنا لا بلاغة فلسطينية معهودة ولا شعر مجانيا يدخله الفلسطيني الكاتب كعادته ليلعب باللغة، أو ليستعرض بها، ويستجدي الدهشة اللغوية، فـي هذه الرواية رأيت طارق عسراوي وهو (يقتل أحباءه) وقتل الأحباء مصطلح لغوي أدبي اخترعته ناقدة بريطانية، وهي تقصد به الجمل الشعرية المدهشة التي تحشر نفسها فـي سياق غير سياقها، فـيضطر الكاتب الذكي إلى قتلها – حذفها.

أجمل ما قدمته لنا الرواية هو صورة اختلاط وتداخل حركة الأولاد الطبيعية فـي الحارات بسياق الاحتلال وتداعياته، ربما هذا يحدث فقط فـي فلسطين.

فـي رواية (اللعب بالجنود) يتلصص الأولاد الأشقياء على نافذة امرأة فاتنة سكنت حديثًا فـي الحارة مع ابنتها الصغيرة بمساعدة غامضة من والد أحد هؤلاء الأشقياء، لكنهم يشاهدون هناك ما يخجلهم من أنفسهم ويربك مشاعرهم، ثمة مقاتل مطارد يبدو أنه زوج هذه المرأة يزورها خفـية، يتعرض الأولاد للتعنيف من قبل الآباء الذين هم رفاق هذا المقاتل المطارد من قبل الاحتلال، لكنهم يحفظون السر، فـي عادة بطولية مبكرة يتمتع بها صبيان جنين.

ماذا نتعلم من هذه التجربة ؟ إن الروائي الذكي هو الذي يكتب رواية غير منفعلة لكنها تسبب للقارئ الانفعال، وهذا ما فعله العسراوي الذي بدأ حياته قاصًا، وقد سألناه عن هذه الانتقالة:

(لم أقصد هذه الانعطافة، أو بصورة أدق لم تكن الرواية ناجمة عن قرار مسبق، فـي بادئ الأمر عزمت على كتابة هذا العمل بصورة القصّة القصيرة، وفـي الأثناء سارت بي شخوص الحكاية إلى مسار درامي رئيسي ثان ومن ثم ولدت شخصيات ضرورية أثناء الكتابة، وهذا جعل الأمر يمتد إلى ما لا تحتمله القصّة القصيرة وتتسع له الرواية برحابة حبكتها، وما يمايزها عن القصّة من مساحات أوسع لحركة الشخصيات وتعددها، وهذا العمل لكونه رواية صغيرة «نوفـيلا» لم أتخلص به من القاصّ وأدواته تمامًا، وأستطيع القول إنّ القاص لا يحتاج فـي «النوفـيلا» إلى جهد كبير وأدوات كثيرة؛ كي يضيفها إلى ما يملكه أساسًا بوصفه قاصًّا).

شكرًا طارق لهذه المتعة وهذا الفضاء الروائي الجديد..

الكاتب فـي سطور

كاتب وحقوقي، صدرت مجموعته القصصية الأولى بعنوان (رذاذ خفـيف) ونالت جائزة سميرة عزّام للقصة القصيرة، تم تلحين وغناء عدد من نصوصه الشعرية من قبل عدّة فنانين فلسطينيين، عضو ومؤسس فـي عدد من الجمعيات الثقافـية والاجتماعية الفلسطينية، مؤسس فـي مشروع طباق الثقافـي، يحمل درجة الماجستير فـي القانون الخاص، ويعدّ الدكتوراة فـي قانون الإثبات، يشغل فـي السلطة القضائية الفلسطينية منصب وكيل النيابة العامة منذ عام ٢٠٠٧، عمل قبلها مذيعًا ومقدّم برامج فـي إذاعات محليّة فلسطينية، يعيش فـي رام الله.

مقالات مشابهة

  • حماس ترد على رواية إسرائيل.. وتكشف ما حدث لـ"امرأة إيزيدية"
  • " الأيادي الحالمة " رواية جديدة للدكتور عمر عبدالرحمن
  • ملخص رواية «لوكاندة بير الوطاويط».. محمد رمضان يؤدي بطولتها في عمل فني
  • محمد رمضان يقدم بطولة رواية لوكاندة بير الوطاويط لـ أحمد مراد
  • شهيدين و4 اصابات بغارات الاحتلال في جنوب وشرق لبنان
  • معرض الرياض الدولي للكتاب يناقش إشكالات "الكتاب العربي والحضور العالمي"
  • معرض الرياض الدولي يناقش إشكالات "الكتاب العربي والحضور العالمي"
  • البطولة الهادئة في رواية «اللعب بالجنود » لطارق عسراوي
  • المعارض الأثرية المؤقتة بالخارج تشهد إقبالاً جماهيرياً كبيراً
  • الأمير مولاي رشيد يفتتح معرض جائزة منصور بن زايد الفوتوغرافية للجواد العربي