نحو ترشيد المحبة والكراهية فى بلادنا
تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT
المحبة شعور إنسانى فريد، أن نرضى عن أحد، أن نسعد بذكره، أن نتتبع محاسنه، أن نستبشر بوجوده. ليس أقرب وصال بين البشر من الحب، فبه تتآلف القلوب، وتتواءم النفوس وتتحد الرؤى والأفكار النيرة.
لكن لأن الإفراط فى كل فضيلة يقلبها حتما إلى رذيلة، فإن المحبة الزائدة، تماماً مثل السكر الزائد يُفسد استمتاعنا بمذاق الأشياء، ويصيبنا بالأمراض.
ولأن العرب كانوا، وما زالوا، أساتذة البلاغة، وملوك الأدب، فقد ابتكروا صنوفاً من البلاغة القولية تحمل درجات غير مسبوقة من المبالغات تجاه مَن يُحبونهم، فولدت نصوصاً أدبية غاية فى الروعة، لكنها كانت بعيدة عن الموضوعية، بل أشبه بالانتحار الفكرى نتيجة الاصطدام بين ما هو مُتخيل وما هو واقع. وهكذا، فلم يكن غريباً أن نسمع أشعاراً تسمو بالممدوحين إلى درجات لا منطقية تنزع عنهم لباس الإنسانية وتُصنفهم فى خانات الخارقين للطبيعة، من عينة قول الشاعر النابغة الذبيانى فى مدح النعمان بن المنذر: "فإنك شمس والنجوم كواكب/ إذا طلعت لم يبد منهم كوكب".
كذا ما قاله الشاعر ابن هانئ الأندلسى فى مدح الخليفة الفاطمى المعز "ما شئت.. لا ما شاءت الأقدار/ فاحكم فأنت الواحد القهار/ وكأنما أنت النبي مُحمد/ وكأنما أنصارك الأنصار"، أو كقول الشاعر أبى نواس مادحاً الخليفة هارون الرشيد: "بك أستجير من الردى وأعوذ من سطوات باسك/ وحياة راسك لا أعود لمثلها وحياة راسك"، وهى أقوال خارج نتاج الوصف والمدح الطبيعى المنطقي، إذ تسمو بالممدوحين إلى سماوات الآلهة والأنبياء والمُعجزين.
وربما يفترض البعض أن ذلك هو حب حقيقى وصل إلى درجة الإفراط، لكن فى حقيقة الأمر، فإن جمال التعبيرات وجذالتها وتخليدها شعراً يؤدى إلى تقديس حاد يُصيب ثقافة المجتمع ككل من خلال تمجيد أفعال وأقوال وأداء الأعلى سُلطة فى كل زمان ومكان بعيدا عن الموضوعية، وربما تعد هذه السمة واحدة من أسباب الجمود السائدة فى مجتمعات العالم العربى اليوم وكل يوم.
فالحال جيد لأن أصحاب السلطة خارقون، ومَن ثم لا تغيير فى سبيل الإصلاح ولا تجاوز لحالات الجمود.
***
لا تقتصر نظرة المغالاة فى الحب لدى الناس فى بعض أصحاب السلطة، وإنما تمتد إلى مبدعين وفلاسفة وأصحاب رأى وعلماء دين.
لا ينسى أحد التلاميذ النجباء للشيخ الشعراوى– رحمه الله- هذا المشهد، عندما زار يوماً جامعة القاهرة فى ندوة دينية فى الثمانينيات، وهاله الاحتفاء الكبير للناس به، الذين وصل بهم الأمر إلى أنهم حملوا سيارته وهو داخلها كنوع من التكريم والتعبير عن المحبة. آلمت الواقعة الشعراوى نفسه ـ كما ذكر لاحقا نجله، وحاول ترويض ذاته على الانخلاع والإفلات من التقديس، فذهب فجراً إلى حمام المسجد الذى يُصلى فيه، ليقوم بتنظيفه بنفسه، وهو ما جعل ابنه ينزعج، ويسأله عما دفعه لذلك، فأخبره بأن احتفاء الناس المتزايد به أقلقه ودفعه إلى إكراه نفسه على التواضع والزهد فى الحياة.
نُغادر رجل دين، أحبه الناس، لنتذكر مطرباً أحبته الجماهير مثل عبدالحليم حافظ. ففى يوم وفاته فى ألقت ثلاث فتيات فى القاهرة أنفسهن من طوابق مرتفعة حزنا على أمير الرومانسية ونموذج فتى الأحلام فى مخيلتهن. لم يفكر كثيرون فى مغزى الحدث، وإن اعتبروه دليل محبة طاغية وشعبية لها ما يبررها وقتها، لكن التعمق فى استقراء فكرة الفداء لدرجة إنهاء الحياة بسبب غياب بشر لم تستوقف الباحثين والمحللين النفسيين.
لاعبو الكرة لهم نصيب كبير من التقديس لدرجة تجعل اعتبار أفكارهم وأعمالهم خارج الملعب صواباً مُطلقاً. محمد أبوتريكة لاعب محبوب لمهاراته وأدائه، وبالقطع فقد أسعد جمهور النادى الأهلى ومصر كثيراً فى عدة مناسبات، لكن فكره وأداءه السياسى وتعاطفه الحسى وأحكامه فى القضايا العامة ليست مُفرحة، ولا تصب فى خانة المصلحة العامة للمجتمع.
غيره كثيرون نغفر لهم ما تقدم وما تأخر لأنهم محسنون فى جانب وحيد، وهو داء تغلغل فينا لأننا لم نتعلم ونُجرب التفكير العقلاني، والمحبة الراشدة، والتأييد المشروط، وكلها من خصائص المجتمعات والأمم الناهضة.
***
فى الناحية الأخرى نكره البعض لأسباب بعضها موضوعى، فنبالغ فى الكراهية وصولاً إلى حد الشيطنة، وتحويل النموذج المكروه إلى شخص معجز وخارق فى شروره.
تتعدد النماذج وتختلف درجاتها، لكن السمة الظاهرة والغالبة هى الحدية، رغم أن هناك فى التراث مقولات عديدة تحض على الاعتدال منها قول منسوب لعلى بن أبى طالب يقول "أحب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
أمير الشعراء يختتم المرحلة الثانية من موسمه الـ 11
اختتم برنامج أمير الشعراء الذي تنتجه هيئة أبوظبي للتراث، المرحلة الثانية من موسمه الحادي عشر، بمنافسات الحلقة الثامنة المباشرة التي بُثت مساء أمس من مسرح شاطئ الراحة بأبوظبي، وتنافس فيها الشعراء أسماء الحمادي من دولة الإِمارات، وسرى علوش من جمهورية مصر العربية، وعبدالسلام سعيد أبوحجر من ليبيا، وعثمان الهيشو قرابشي من المملكة المغربية، وعماد أبو أحمد من ألمانيا.
حضر الحلقة الدكتور سلطان العميمي المدير التنفيذي لقطاع الشعر والموروث بالإنابة في هيئة أبوظبي للتراث، وأعضاء اللجنة الاستشارية للبرنامج الدكتور محمد أبو الفضل بدران، والدكتور عماد خلف، والشاعر رعد بندر، وجمهور من الشعراء والإعلاميين والأدباء والمثقفين ومحبي الشعر.
وجاء قرار لجنة التحكيم المكونة من الدكتور علي بن تميم، والدكتور وهب رومية، والدكتور محمد حجو، بتأهل الشاعر عثمان الهيشو قرابشي من المغرب بحصوله على 47 درجة من 50، بينما أحرز عماد أبو أحمد 46 درجة، وأسماء الحمادي 40 درجة، وعبدالسلام أبوحجر 40 درجة، وسرى علوش 38 درجة، في انتظار أن يكمل واحد منهم عقد المتأهلين إلى المرحلة الثالثة بتصويت الجمهور.
وكانت نتيجة تصويت الجمهور خلال الأسبوع الماضي أسفرت عن تأهل الشاعر عبدالواحد عمران من اليمن بعد حصوله على 95 درجة من 100، لينتقل إلى المرحلة التالية رفقة الشاعر عبدالرحمن الحميري من الإمارات الذي تأهل بقرار لجنة التحكيم في الحلقة الماضية.
أخبار ذات صلة الإمارات تختتم مشاركتها الناجحة في دافوس بيان مشترك بين الإمارات ونيوزيلنداوسيتنافس الشعراء الستة المتأهلون في المرحلة قبل النهائية التي تتكون من حلقة واحدة تمنح فيها لجنة التحكيم الدرجات بنسبة 30 %، ويجري التصويت مع نهاية الأمسية ولمدة أسبوع من قبل المشاهدين الذين لهم التصويت بنسبة 40 % من الدرجات.
وفي المرحلة النهائية المكونة من حلقة واحدة يواصل الشعراء الستة التنافس للظفر باللقب، وتمنح اللجنة الشعراء نسبة الـ 30 % المتبقية من الدرجات، ويتم في نهاية الحلقة جمع درجات اللجنة مع درجات التصويت، لتعلن النتائج النهائية.
واستضافت الحلقة أمس في مجاراة شعرية كلاً من الشاعر محمد آل مداوي الوادعي من السعودية الحاصل على لقب "شاعر المليون" في الـموسم الحادي عشر، والشاعرة شيخة الـمطيري من الإمارات أوّل شاعرة عربية تصل إلى وصافة "أمير الشعراء" وذلك في الموسم الثامن من البرنامج.