صدرت الطبعة الثانية من رواية "بعد الحياة بخطوة" (236 صفحة) للروائي الأردني يحيى القيسي، وهي رواية معرفيّة كما يقول كاتبها "تُحاول الإجابة عن سؤال الموت وما بعده بشكل غير تقليدي أو نقلي كما ورد في الموروث الديني، بل مِن التأمل الطويل لهذه القضية المصيرية التي تقلق كلّ بشري، إضافة بالطبع إلى القراءات فيما يُسمى "تجربة الاقتراب من الموت" التي وصل إلى تخومها الملايين من الناس ثم عادوا ليرووا ما جرى لهم أثناء الغيبوبة خصوصا أثناء العمليات الجراحية والتخدير الكامل أو في حالة الحوادث والصدمات التي يفقد فيها المرء وعيه".

ويتابع القيسي في تعريفه لروايته -التي صدرت في طبعتها الأولى عام 2018 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروتِ- قائلا: "حضرتْ القريةُ في هذه الرواية بكلّ تجلياتها وخصوصا في فترة الطفولة على شكل انثيالات لمفردات وعبارات قصيرة مكثفة ومفخخة بالدلالات، كلّ واحدة منها تحيل إلى صور وروائح وأمكنة وتفاصيل اجتماعية وسياسية وغيرها مما يستدعي من النقاد والباحثين تفكيك شيفرتها للأجيال الجديدة من القُرآء الذين لم يختبروا تلك الحياة ولم يسمعوا بتلك المفردات، كما أنّ التجليات الروحية في الرواية عالية، وشديدة التكثيف للمعارف التي فيها، والتي تجمع بين المعلومة والتخييل السردي، وآمل بعد كلّ ذلك أن أكون قد قدمتُ فيها شيئا مغايرا للسائد، ويبعث على الغبطة لقراءة النص والتفاعل معه".

والقيسي روائي وباحث أصدر من قبل مجموعتين قصصيتين هما "الولوج في الزمن الماء" 1990، رغبات مشروخة 1996، إضافة إلى 5 روايات هي: باب الحيرة 2006، أبناء السماء 2010، الفردوس المحرم 2015، بعد الحياة بخطوة 2018، حيوات سحيقة 2020 إضافة إلى كتاب بحثي يراجع تجربة الصوفي الشهير ابن عربي.

من أجواء الرواية نقرأ:

انتبه إلى أنه داخل هالة ضوئية مفعمة باللطف، تغلفه بالكامل، وترفعه بسلاسة نحو الأعالي، فيما تهب عليه أحاسيس ودودة تغمره بالطمأنينة. بدا له أنه ليس وحيدا في هذا العروج، وأن ثمة من يرافقه. أدرك بأن عليه أن يتخلص أولا من توجه خواطره نحو الأرض.

سمع صوتا في داخله يقول:

"تخفف من أحمالك حتى تستطيع الصعود دون صعوبة واجعل همتك نحو الأعالي".

نظر إلى الأرض المتباعدة التي تنداح تحته نظرة مودع، مستسلما للهواجس التي تطلب منه أن يساعد نفسه للصعود دون مقاومة. حينها ظهرت له الأرض منبسطة وشاسعة بلا حدود، تحيطها الجبال الثلجية والبحار من كل جانب. بدت وادعة مثل امرأة مسترخية على ظهرها وفي كامل بهائها، تغطيها الغيوم البيضاء، ويتقوس فوقها الأفق من كل الجهات، تماما مثل خيمة شفافة، ومشدودة بلا عمد..!

عجب لأن هذه الأرض تبدو ممدودة دون نهاية، وساكنة دون أدنى حركة، لم ير كرة ضخمة تدور حول نفسها بسرعة هائلة كما تعلم في كتب الجغرافيا المدرسية، بل جبالا راسخات، وأودية سحيقة، ومحيطات واسعة مغمورة بالمياه، وأحس بأنه هو الذي يدور بسرعة مذهلة مسحوبا إلى الأعالي.

كأن الأمر كذلك منذ الأزل، أو ربما تشوش بصره، وتشتت ذهنه فلا يستقر على شيء..!

وسط كل هذه الأجواء، التي تحيل إلى حلم قصي وغامض، أحس بخيط من الضوء الفضي، يمتد من جسده الأثيري الخفيف هذا إلى جسده الآخر الأرضي المتروك على سرير المستشفى مثل خِرقة بالية، تحت رحمة الأطباء وأجهزة الرقابة، وكلما كان يركز فكره على ذلك الجسد تعود إليه قدرات السمع الحاد، والرؤية الباهرة، والشعور بكل التفاصيل من حوله، كما لو أنه هناك قربه، رغم كل هذه المسافات المذهلة التي قطعها في عروجه.

انتبه إلى أن ضوءا غامرا يشكل دائرة متوهجة قد ظهر له في الأعالي، غير أن المسافات هنا، وهي تتخلص من وطأة الزمن السائل المسفوح بلا حسبان في هذا الفضاء اللامحدود، تجعل من البعد والقرب مسألة نسبية، سرعان ما تتلاشى عند أول خاطر له بمواصلة الصعود كأن إرادته الداخلية هي ما يسيره حسب ما يأتيها من البوارق، أو يوحى إليها من الإشارات، أو ما يملى عليها من الخواطر والعبارات..!

واصل عروجه نحو تلك الدوامة الضوئية التي اتسعت، مشكلةً بوابةً في سقف السماء اللدن. انتبه إلى طفلة ترافقه بجمالها الفطري الهادئ الذي يجلب الحبور إلى النفس، فيما نظراتها التي تشع رقة ولطفا بدت كفيلةً بأن تغمره بفيوضات من الحنان والطمأنينة، وتجعل عبوره من تلك البوابة مسألة عادية، كما لو أنه ظل يعبرها في منامه كل ليلة من قبل، ويعرف تماما ما يختبئ خلفها من الأسرار.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

محطات الانتظار

 

سلطان بن محمد القاسمي

في عُمق الحياة؛ حيث تتقاطع مسارات الزمن، تقف محطات الانتظار كنقاط تفتيش للروح والأحلام. ففي هذه المحطات، يقف كل منَّا، مُحملًا بأمتعته من ذكريات وتوقعات، يتأمل مسارات قد تأخذه إلى وجهات مجهولة. هنا، حيث تلتقي الأقدار بخيوط الزمن المُتشابكة، يتوقف كل شيء للحظة. يتساءل كل مسافر: متى يأتي قطاري؟ وهل أنا حقًا مُستعد لما ستجلبه الرحلة القادمة؟

إنَّ هذه اللحظات تكتسب بُعدًا أكثر عمقًا عندما نفكر في الرحلات السابقة التي قادتنا إلى هنا. كما أن الاختيارات التي قمنا بها، والطرق التي سلكناها والتي تركناها، كلها تلعب دورًا مهما في تشكيل القرارات التي نواجهها اليوم. وفي هذا التأمل، نجد فرصة لا تقدر بثمن لإعادة تقييم خططنا وأحلامنا، لنقرر بحكمة أكبر كيف نود أن نقضي الوقت الثمين الذي يتسرَّب من بين أيدينا. هل نختار الانتظار بصبر، أم نتحرك بحزم نحو القطار القادم، مستعدين للتعامل مع كل ما يحمله من تحديات وفرص؟

توفر محطات الانتظار هذه مساحة ليس فقط للتفكير فيما قد نضحي به أو نكسبه في الرحلات القادمة، ولكن أيضًا لتقدير الطريق الذي سلكناه حتى الآن. كما يمكن أن تكون اللحظات التي نقضيها في التأمل والتقييم في هذه المحطات بمثابة جسور تربط بين ماضينا ومستقبلنا، مما يسمح لنا باتخاذ قرارات أكثر وعيًا وتحضيرًا للمرحلة التالية من رحلاتنا.

الفرص واختياراتها: محطة القرارات

الحياة لا تقدم لنا خريطة محددة أو جدولًا زمنيًا دقيقًا لقدوم قطارات الفرص، بل تعرض أمامنا لوحة معقدة من الخيارات المتشابكة التي تتطلب منَّا القرار والعمل. وبين لحظة الوصول وأخرى للرحيل، نجد أنفسنا في مواجهة مستمرة مع قرارات قد تغير مجرى حياتنا بأكملها، وقد تكون هذه القرارات صعبة ومحملة بعواقب واسعة النطاق؛ فكل قطار يقف أمامنا لا يمثل فقط مجرد وسيلة نقل، بل يحمل قصة ممكنة، مغامرة جديدة، ودرسًا محتملاً في الحياة.

وهنا علينا أن نُقرر: هل نقف جانبًا نتأمل القطار يغادر دون أن نستقله، متجنبين المخاطر المحتملة للمجهول، أو نتخذ خطوة جريئة نحو القفز على متنه، مستعدين لمواجهة كل ما يحمله من مجهول؟ الاختيار الصحيح يتطلب منَّا ليس فقط الشجاعة للمخاطرة، بل أيضًا الحكمة لتقدير الفوائد المحتملة مقابل المخاطر. هذا يعني أننا بحاجة إلى تقييم دقيق للفرص المتاحة، مع الاعتبار للتكاليف والمكاسب المحتملة، وكذلك الاستعداد للتعامل مع النتائج غير المتوقعة التي قد تترتب على قراراتنا.

في هذه المحطة، يصبح كل قرار نتخذه بمثابة رهان على المستقبل، يُظهر إيماننا بقدرتنا على التنقل في مسارات الحياة المتغيرة. ومن خلال هذه القرارات، نشكل مسارنا الفردي، نكتب قصتنا الخاصة، ونحدد الاتجاه الذي سنأخذه في محيط الحياة الواسع.

جودة الرحلة: أكثر من مجرد وجهة

المسار الذي نختاره ليس بالضرورة الأسرع أو الأسهل، بل قد يكون الأكثر إثراءً لروحنا وعقلنا. والاختيارات التي تبدو صعبة في البداية غالبًا ما تكون الأكثر قيمة، إذ تمنحنا الفرصة لاكتساب الخبرات العميقة التي تشكل شخصيتنا وتعزز من نمونا الذاتي؛ ففي قطار العمر، كل محطة تقدم لنا دروسًا تزيد من ثراء تجربتنا الإنسانية، تعلمنا كيف نقدر الجمال في البساطة، والعمق في اللحظات الهادئة.

إنَّ استثمار الوقت في تقدير هذه الجوانب يُمكن أن يعزز من قدرتنا على التواصل مع الآخرين ومع أنفسنا، مما يرفع من جودة حياتنا العامة. فعندما نختار مسارًا يتحدى قدراتنا، نكتشف موارد داخلية لم نكن نعلم بوجودها. هذه الرحلات الأصعب غالبًا ما تقود إلى اكتشافات شخصية ومهنية قيمة، مثل تعلم كيفية التعامل مع الصعوبات، تطوير الصبر، وتعزيز الثقة بالنفس.

علاوة على ذلك، الطرق التي نختارها تكشف عن قيمنا وأولوياتنا. وبالتركيز على جودة الرحلة بدلاً من السعي الحثيث نحو النهايات، نتعلم أن كل خطوة في الطريق هي جزء لا يتجزأ من الوجهة النهائية. كما أن تعلم الاستمتاع بالرحلة وليس فقط الوصول إلى الهدف يمكن أن يؤدي إلى حياة أكثر سعادة وإشباعًا، حيث تصبح كل لحظة ذات قيمة ومعنى.

استثمار الوقت: الركيزة الأساسية للنجاح

ففي عالم يتسم بالسرعة، يُعتبر الوقت العملة الأكثر قيمة، وكيفية استثمار هذه العملة تحدد جودة الحياة التي نعيشها. استثمار الوقت بفاعلية لا يعني فقط الانشغال الدائم، بل يتطلب الانشغال الذكي. يجب أن نتساءل: هل نستثمر وقتنا في تعلم مهارات جديدة وبناء علاقات معنوية، أم أننا نضيعه في القلق على المستقبل والندم على الماضي؟ إن التوازن بين هذه الأمور يُعد مفتاحًا لتحقيق الرضا والنجاح.

كما إن استثمار الوقت بحكمة يتطلب منَّا نظرة استراتيجية للحياة، تشمل تحديد الأولويات بوضوح ووضع أهداف قابلة للتحقيق. على سبيل المثال، يمكن أن تساعد تقنيات تقسيم المهام الكبيرة إلى أجزاء صغيرة، استخدام الأجندة لتنظيم اليوم، وممارسة الانضباط الذاتي لتجنب المماطلة في تحسين إدارة الوقت بشكل كبير.

بالإضافة إلى ذلك، يُعد الوقت الذي نقضيه في تعزيز علاقاتنا الشخصية والمهنية استثمارًا قيمًا، حيث توفر هذه العلاقات الدعم العاطفي والمهني الضروري في أوقات التحدي. كما أن التعلم المستمر وتحديث المهارات يفتح أبوابًا جديدة ويخلق فرصًا للنمو الشخصي والمهني، مما يُعزز من قدرتنا على التعامل مع التحديات المستقبلية بفعالية أكبر.

تحقيق الذات: ما بين الانتظار والفعل

الانتظار بحد ذاته ليس عملاً سلبيًا؛ بل يمكن أن يكون فترة حيوية للتأمل وإعادة تقييم الاختيارات. وفي لحظات الانتظار، نجد الفرصة للتفكير العميق في مساراتنا الحياتية، وتقييم ما إذا كانت الأهداف التي نسعى إليها لا تزال تتماشى مع قيمنا وتطلعاتنا. ومع ذلك، يجب ألا يتحول الانتظار إلى حالة دائمة من التردد تمنعنا من استغلال الفرص المُتاحة. كما أن الفعل الموجه والمخطط له يمكن أن يحول الانتظار إلى جسر يوصلنا إلى ضفة النجاح والإنجاز.

وفي هذا السياق، يصبح الفعل المدروس والاستعداد المسبق عناصر أساسية لتحقيق الذات. كما أن استغلال الفرص في الوقت المناسب يتطلب استعدادًا نفسيًا وعمليًا يتجاوز مجرد الرغبة في النجاح إلى بناء القدرات اللازمة لتحقيقه. هذا يشمل تطوير مهارات جديدة، تعميق الفهم الذاتي، وتوسيع شبكات الدعم التي يمكن أن تساعد في التنقل عبر التحديات.

بالإضافة إلى ذلك، يجب علينا أن نتعلم كيف نوازن بين الصبر والحزم في اتخاذ القرارات. وفي بعض الأحيان، قد يكون الانتظار الاستراتيجي أفضل من الفعل المتسرع، خاصة عندما لا تكون المعلومات كافية لاتخاذ قرار مُستنير. ومع ذلك، فإنَّ التردد المفرط يمكن أن يؤدي إلى فقدان فرص قيمة قد لا تتكرر. ومن هذا المنظور، يجب أن نكون مستعدين للتحرك بثقة عندما تظهر الفرصة المناسبة، مستفيدين من التحليل المعمق والتجارب السابقة لتحقيق النتائج المرجوة.

الرحلة مُستمرة

وفي نهاية المطاف، قطار العمر لا يتوقف عند محطة محددة؛ بل يُواصل سيره، مخترقًا محطات عديدة، كل منها يمثل فرصة للتعلم والنمو، ويُقدم لنا فرصة جديدة لاستكشاف، ولتعزيز مهاراتنا، ولتوسيع أفقنا، ومع كل قطار نستقله، نكتسب خبرات تضاف إلى رصيدنا الحياتي، وتعمق من فهمنا للعالم ولأنفسنا.

وهناك سؤال مهم يطرح: كيف نجعل كل رحلة تعدنا بشكل أفضل للمحطات القادمة؟ هذا السؤال يدفعنا لاستثمار الوقت والجهد في تطوير الذات، ويحفزنا على التفكير بأن كل خطوة نتخذها يمكن أن تكون بمثابة بناء للجسور نحو أهداف أعلى وأسمى.

إنَّ فهم هذه الرحلة المستمرة والمشاركة النشطة في توجيه مسارها، يمكن أن يحول التجربة الإنسانية إلى مغامرة غنية ومُرضية. ومن خلال الاستمرار في التعلم والتكيف، يمكننا أن نجعل كل رحلة أكثر قيمة، وأن نبني حياة مليئة بالرضا والإنجاز. في كل محطة ومع كل قطار، نحن مدعوون لاكتشاف، لتجربة، ولتحقيق الإمكانيات الكاملة لوجودنا.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • محطات الانتظار
  • "انظروا إلينا نرقص".. رواية لـ"هشام النجار" في مواجهة التطرف والإرهاب
  • برلمانية أوكرانية: الجنرالات يرسلون الجنود إلى الموت
  • الوقود الأكثر قذارة.. استقرار سوق الفحم رغم التقلبات الاقتصادية يثير القلق
  • 25 ألف جنيه للمركز الأول.. «الأوقاف» تعلن تفاصيل مسابقة القراءة الحرة المفتوحة
  • في مثل هذا اليوم.. وفاة فارس الرواية الرومانسية محمد عبد الحليم عبد الله
  • الحياة بعد الستين
  • خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية
  • القسام في رسالة جديدة لجيش الاحتلال: “لن تجدوا سوى كمائن الموت”
  • القسام في رسالة جديدة لجيش الاحتلال: لن تجدوا سوى كمائن الموت