#نور_على_نور
د. #هاشم_غرايبة
هنالك قول منسوب للإمام ابن حنبل: “لا تأخذ عني ولا عن مالك، ولكن خذ عمن أخذنا منه”.
بديلا لخطب الجمعة التي تسعى وزارات أوقاف أنظمتنا لتسطيحها وتفريغها من أهدافها التي أرادها الله محاضرة أسبوعية تعالج متطلبات الواقع، أنشر كل يوم خميس مقالة بعنوان تأملات قرآنية، اورد فيها استنباطات معاصرة مستوحاة من آية، وليس تفسيرا لمعناها، حيث ان التفسير قد أفاض به كثيرون قبلا، لكن لأن القرآن أنزله الله للعالمين، عالم القرون الأولى، ولكل العوالم القادمة، لذا يجب على طالبي العلم منه أن يبحثوا فيه عن مفاتيح العلم المتقدم أبدا، وعن معالجات لمشكلات كل عصر.
وكثيرا ما أتعرض لسؤال استنكاري من بعض السلفيين الاستنساخيين: هل ما قلت به من تأمل لآيات القرآن الكريم أو استنباط منها أخذته عن كتب المفسرين، أم جئت به من عندك.
بالطبع لا أرد على هؤلاء، لأن سؤالهم ليس استفهاميا، رغم أنه لدي الجواب المقنع الذي يقول أنه لا أحد من طالبي العلم سواء كان من القدامى أو المتأخرين جاءه العلم وحيا من عند الله، فجميعهم تعلموه من القرآن الكريم، ومن تطبيقات ذلك في السنة المطهرة.
في كل العصور، ظل هنالك من بعض من يعتبرون أنفسهم سلفيين ، ومن باب الخوف على الدين من الإبتداع أو التحريف، يبالغون في التحوط، ليذهبوا الى أن القرآن أنزل على أهل زمن التنزيل من قريش فقط، تتعلمه وتعلمه لباقي البشر، لذلك يعتبرون أن تفسيره مقصور على السلف الصالح، ومن جاء بغير ما قالوا به من بعدهم رفضوه، وقد يصل بالغلاة المتطرفين منهم الى تكفير من زاد على أقوال أهل القرن الأول.
لا أحد ينكر أن الجيل الأول هم أفضل القرون، فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه مباشرة، وكلما كان المرء أقرب الى مصدر النور كان أهدى.
لكن ذلك الأمر في أسس العقيدة والعبادات، فهي لا تتعدل ولا تتغير، وليس في تفسير القرآن، فالمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعقد حلقات العلم لتفسير الآيات، بل كان يترك ذلك لفهمهم، فإن أُشكل عليهم أمر فسّره، ولم ينكر على أحد فهمه، لذلك كان علي رضي الله عنه يقول: “القرآن حمال أوجه”.
من ذلك نفهم الحكمة من تفسير المفسرين الأوائل للآيات على ظاهر المعنى، لأن معارف البشر آنذاك لا تتحمل التفسيرات الأعمق، ولم يقر النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراتهم تلك ولم يرفضها، لأن إقراره أو رفضه لها سيكون سنة متبعة تحظر أي تفسير أعمق مستقبلاً.
ليس من سند لقول القائل بأن السلف الصالح لم يتركوا زيادة لمستزيد، فقد صدر تفسير الثوري ومجاهد في القرن الثاني الهجري، والأخفش في القرن الثالت، والطبري في الرابع، والجرجاني في الخامس، والزمخشري في السادس، والرازي في السابع، وابن كثير في الثامن …وابن عاشور في الرابع عشر، وكلٌّ زاد عمن سبقه.
على الطرف المقابل للسلفيين الإستنساخيين، هنالك التفريطيون، الذين رغم أنهم يوقنون أن القرآن كلام الله، لكنهم يعتبرونه مجرد كتاب هداية، ومصدرا لأحكام الدين، وينكرون اعتبار القرآن مصدرا للعلم والمعرفة، لذلك يرفضون مذهب التأمل في آياته الكونية، بقصد استنباط إشارات معرفية للعلوم الطبيعية، قائلين إن القرآن كتاب هداية، ولم ينزل بقصد أن يكون مرجعا علميا.
الحقيقة أن القرآن مصدر العلم المطلق والمعرفة الصحيحة، لأنه صادر عن خالق كل شيء، العليم بدقائق تركيب كل شيء وخصائصه، وصحيح أن القرآن لم ينزل ليكون مرجعا في العلوم التطبيقية التجريبية، فقد ترك ذلك للبشر يجتهدون في البحث فيه بما ينفعهم ويسهل معيشتهم الدنيوية، لكننا إن أحسنّا التأمل في الإشارات الكونية الواردة فيه، يمكن أن نجد فيها مفاتيح وإشارات لمعارف ما زالت مجهولة لنا، أو على الأقل تأكيدا أو تصحيحاً لمعارف توصلنا لها بالإكتشاف أو التجريب.
مشكلة البشر أن العلماء المؤهلين للبحث العلمي أغلبهم لا يعرفون القرآن، والمؤمنون به قاعدون لا يبحثون، بل ينتظرون اكتشاف فتح علمي جديد للفريق الأول ليقولوا: انظروا!…هذا موجود في القرآن.
لذلك قال تعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” [الفرقان:30].
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: نور على نور أن القرآن
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم رسول الله
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، إن مدخل حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقود إلى تعظيمه والارتباط به، مشيرًا إلى أن المسلم إذا أحب النبي حقًّا فإنه يعظّمه ويقف عند حدّه ويتصل به اتصالًا روحيًا عميقًا، مؤكدًا أن هناك ثلاث وسائل رئيسية لغرس هذا التعظيم والمحبة في القلوب: قراءة السيرة، والإكثار من الصلاة عليه، وتتبع ما ورد عنه في القرآن الكريم.
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، خلال بودكاست "مع نور الدين"، اليوم الخميس: "من مدخل الحب، إذا أحب المسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يعظمه ويقف عند حدوده أمامه، ويكون متصلاً به اتصالاً تامًا. هذا الحب يتولد من أمور عدة، أولها قراءة السيرة النبوية."
وأضاف: لو أن المسلمين قرأوا السيرة النبوية وأكثروا منها، لرأوا حال النبي صلى الله عليه وسلم واشتاقوا إلى أن يفعلوا مثله، ولرأوا ذلك الإنسان الكامل الذي تحول إلى إنسان رباني، ثم بعد رحلة الإسراء والمعراج، تحول إلى نور، كما ورد في القرآن الكريم: 'يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ'، وهذا النور هو حضرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم."
وتساءل قائلاً: "كيف تعلقت قلوب الأمم بقراءة السيرة؟ كانت السيرة تُقرأ في الأزهر الشريف يوميًا بعد صلاة الفجر، حيث يكون الذهن متفتحًا والناس في نشاطها، وأول ما يستقبلونه هو السيرة النبوية."
وأشار إلى أن مؤلفات السيرة النبوية المطبوعة بلغت حوالي 450 كتابًا حتى الآن، وقد يكون العدد وصل إلى 500، أما المخطوطات، فهي أكثر من ذلك بكثير، على سبيل المثال، قام المرحوم صلاح المنجد بعمل معجم جامع لكل ما كُتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحواله ومواقفه وأشيائه وخدامه وأزواجه وأبنائه، وكلما قرأت عنها، زاد حبك له ولم تمل.
وأردف: "هذا هو الطريق الأول لعلاج المسلم المعاصر، حتى إذا ما ذهب في هذا البحر اللجي من الحمق والتحامق والاستهانة بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد قلبه يصده ويطمئن إلى تعظيمه."
وأضاف: "الأمر الثاني الذي أمرنا الله به، وجربه المسلمون، هو الصلاة على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)".
وذكر: "المسلمون تفننوا في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا حوالي 43 صيغة واردة في الحديث، على سبيل المثال، الشيخ الجزولي رحمه الله في القرن الثامن الميلادي، ألف مجموعة سماها 'دلائل الخيرات'، ما رأيكم أن عدد مخطوطات 'دلائل الخيرات' فاق عدد المصاحف؟، الأمة لم تجتمع وتقرر أن تعمل نسخًا أكثر، ولكن سبحان الله، أراد الله ذلك، فوجدنا حوالي 20 مليون مخطوطة إسلامية على وجه الأرض، منهم حوالي 2 مليون نسخة فقط لـ'دلائل الخيرات، وهذا غير كتب الصلوات الأخرى، مثل 'كنوز الأسرار' للهروش، و'سعادة الدارين' للنبهان، و'الكنز الثمين'، وغيرها من المجاميع التي جمعت الصلوات وتتبعت فضلها، وعرف المسلمون فضلها كثيرًا، إما بالتجربة أو بالرؤى."
وشدّد قائلاً: "الالتزام بالنصوص عندنا شكله إيه؟ نحن ملتزمون بالنصوص ولكن بالفهم العميق، ملتزمون بالنصوص ولكن بالفهم الذي لا يضرب بعض الشريعة فيه بعض، إنما كله متفق على نمط واحد، فإذا كان الأمر الأول هو السيرة، والأمر الثاني هو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر الثالث هو تتبع ما ورد عن سيدنا في القرآن الكريم."
وتابع: "ربنا في القرآن الكريم أكثر من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، هو لم يُذكر باسمه محمد إلا أربع مرات، وأحمد مرة واحدة، لكن المقصود ليس ذلك، المقصود أنه وصفه وذكر عينه وذكر يده وذكر كل أعضاء جسمه، فقراءة السيرة مع الصلاة على النبي، مع تتبع القرآن، تجعل الإنسان يرسم هذه الصورة لسيدنا".