العنوة السياسية.. مرض يصيب الديمقراطية الأميركية
تاريخ النشر: 4th, June 2024 GMT
لا يخفى على متابع للسياسة الداخلية الأميركية أن الإحن فيها قد تعافت، والانتقال من الغمز واللمز في إطار المنافسة المحكومة بقواعد متعارف عليها إلى المواجهة السافرة، قد تصاعدت، منذ دخول دونالد ترامب إلى حلبة السياسة مرشحًا للمرّة الأولى، ثم وصوله إلى البيت الأبيض رئيسًا، لتستعر بعد فشله في الاحتفاظ بمنصبه، خلال الانتخابات الأخيرة.
واليوم، وبعد إدانة القضاء الأميركي ترامب في 34 قضية، لاسيما إن تحوّلت إلى حكم بالسجن في يوليو/تموز، المقبل، ستدخل السياسة الداخليّة الأميركية إلى حال من العنت والعناد والعناء لم تعرفها من قبل، على هذه الصورة، ما يجعل الديمقراطية التمثيلية نفسها أمام أخطار تضاف إلى تلك التي تواجهها منذ عقد على الأقل في المجتمع الغربي كله، ما جعل بعض المفكرين السياسيين هناك يتحدثون عن ضرورة تعزيز وجود "ديمقراطية تشاركية"، تحافظ على حيوية السياسة في الغرب، وتغذيها بقدر أعمق وأوسع من الرضا الشعبي، الذي هو أساس للشرعية الحقيقية.
"أموال الصمت"إن صدور حكم على ترامب، حتى لو لم يكن يمنع ترشحه، فإنه يعرقل استمرار المنافسة السياسية من بابها الطيع المقبول، على غرار ما جرى للرؤساء السابقين الذين حرصوا على الالتزام بالدستور والقانون، ولو من الناحية الشكلية.
فهذا الشكل كان، على الأقل، يعبر عن السير في طريق سلمي آمن، يحظى بالرضا الشعبي، مع التسليم بما أنتجته الديمقراطية من نتائج، تترتب على مقدمات متوافق عليها ويحميها الدستور، تجعل الفائز في الانتخابات الرئاسية، على تركيبها وتعقيدها في ظل صيغة "المجمع الانتخابي" لكل ولاية. فهذا كله قد يكون محل شك مستقبلًا، إن فاز بايدن، ومحل انتقاص من النزاهة والهيبة، إن فاز ترامب.
يُرى هذا الأمر في ظلّ إعلان الحزب الجمهوري أن ترامب هو مرشّحه، مهما كان الحكم النهائي في حقّه، ما يعني أنّ الرجل سيحضر إلى السياسة من باب العنوة، وربما الفوضى، لاسيما إن غضب أنصاره، واعتبروا الحكم محض مؤامرة، مثلما فعلوا حين خسر الانتخابات الفائتة.
لقد اتّهمت المحكمة ترامب بتزوير سجلات الأعمال التي واجهها في محاكمته الجنائية المتعلقة بشراء سكوت ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز عن إقامة علاقة جنسية معها، وهي القضية المعروفة إعلاميًا بـ "أموال الصمت". واتّهم ترامب أيضًا بـ "المشاركة في مؤامرة غير قانونية لتقويض نزاهة انتخابات الرئاسة عام 2016، والاشتراك في خُطة غير قانونية لقمع المعلومات السلبية، والتي تضمّنت إخفاء دفع أموال مقابل صمت الممثلة الإباحية".
وهذا، من دون شك، يمثل نيلًا من سمعة ترامب، حتى لو كان بمقدوره الاستئناف على أي حكم يصدر في 11 يوليو/تموز المقبل حسبما حدد القاضي خوان ميرشان، ودخول سباق الانتخابات، وهو أمر يمكنه أن يفعله أيضًا حتى من داخل سجنه.
فلو سجن ترامب، وهي مسألة لا يرجحها خبراء قانونيون؛ لأنه ليس لديه سجل إجرامي، ونظرًا لأنه متهم بارتكاب جرائم غير عنيفة، فإن هذا لن يمنع ترشحه على غرار ما جرى مع مرشح الحزب الاشتراكي يوجين ديز، الذي خاض انتخابات 1920 من سجن كان ينفذ فيه حكمًا بعشر سنوات، ووظف أنصاره سجنه في الدعاية له، وحصل على مليون صوت، رغم أنه كان مدانًا باتهامات أشد وطأة على الحياة السياسية الأميركية وقتها، وهي التحريض على الفرقة والانشقاق، وحضّ المواطنين على رفض التجنيد الإلزامي.
تدابير استثنائيةسيستفيد ترامب من دستور بلاده الذي لا يشترط خلو سجل المرشح الرئاسي من السوابق الجنائية، ويفرض فقط أن يكون أميركيًا بالميلاد بلغ الأربعين من عمره وقت ترشحه. وهذا أمر لم يكن غائبًا بالطبع عن ذهن القاضي ميرشان، الذي خاطب ترامب قائلًا: "أنت الرئيس السابق للولايات المتحدة، وربما الرئيس المقبل أيضًا". بل إنه، ومنذ اليوم الأول، الذي استدعي فيه ترامب للمحاكمة وهو 4 أبريل/نيسان 2023، وصفه بأنه "مرشّح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية".
لكن ترامب وإن لم يقبع في السجن، إذ يعاقب القانون بالسجن لمدة تتراوح بين 16 شهرًا وأربع سنوات في مثل هذا النوع من القضايا، فقد ينفّذ إقامة جبرية بمنزله في نيويورك أو فلوريدا، ويخضع لمراقبة فترة من الزمن، وللإجراءات الاعتيادية التي تنفّذ على المجرمين المدانين، وكذلك لتدابير استثنائية منها طريقة حماية جهاز الخدمة السرية له، وما إذا سيسمح له بالسفر لحضور فعاليات حملته الانتخابية إذا حكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله.
هذا، سيلقي بظلال كثيفة على الانتخابات الرئاسيّة الأميركية المقبلة، سواء بسبب اتهام القضاء بالتسييس، أو توظيف السجن في جلب تعاطف مع ترامب، وهي مسألة انطلقت بعد دقائق فقط من إدانة المحكمة له، إذ فتح الموقع الرسمي له حملة تبرعات لصالحه بوصفه "سجينًا سياسيًا"، وليس مجرمًا، وهي مسألة يحاول ترامب نفسه ترسيخها، حيث حملها تعليقه الفوري على الحكم بالقول: "لقد تمت إدانتي للتو في محاكمة مطاردة الساحرات السياسية. لم أفعل شيئًا خاطئًا! .. لقد داهموا منزلي، واعتقلوني، وأخذوا صورتي، والآن أدانوني للتو".
إن ترامب راح يشكك في "نظام العدالة الأميركي" ويتهم القاضي بالفساد، والقضاء بالخضوع لأهواء السياسة وانحيازاتها، ما يعني أنه، حال ترشحه، سيوظف كل هذا في الهجوم على النتائج إن جاءت في غير صالحه، مثلما فعل في انتخابات 2020، التي وُجه فيها له اتهام من قبل الديمقراطيين بأنه شارك في مخطط لإلغاء نتائجها، ما عدّه البعض وقتها محاولة "انقلاب"، فضلًا عن اتهامه بتدبير مؤامرة غير قانونية للتأثير على نتائج انتخابات 2016 التي فاز فيها.
ويمهّد ترامب الطريق إلى نواياه هذه إذ طالما استفاد من مسار محاكمته في جمع التبرعات، وكان يغازل أنصاره دومًا برسائل إلكترونية، قال في إحداها: "لقد خرجت من المحكمة بسرعة."، مدركًا في كل الأحوال أن من حقه الاستئناف على أي حكم يصدر ضده، وهي مسألة قد تستغرق شهورًا أو سنوات، ما يعني أن موعد الانتخابات المقبلة سيحل بينما القضية التي لا تزال سارية.
الظاهرة "الترامبية"إن ترامب لا يمثل شخصًا عاديًا في الحياة السياسية الأميركية، إذ صنع ظاهرة أطلق عليها البعض "الترامبية" وهي مزيج من الشرعية القانونية والجنوح، بل البذاءة السياسية، والتدابير اليمينية المتطرفة التي تنعكس في إجراءات تخص المهاجرين، وتهندس دور الولايات المتحدة في العالم وكيف تواجه منافسيها وخصومها وأعداءها، علاوة على تصورات دينية وأفكار سياسية واجتماعية تغذي نوعًا من "المكارثية الجديدة".
كل هذه الحزمة من التصورات ستنعكس، حتمًا، على الخطاب السياسي للجمهوريين، لاسيما الترامبيين منهم، في الفترة المقبلة، ما يعني وجود مواجهة حادة بين أنصار الحزبين: الجمهوري والديمقراطي، تسبق الانتخابات وتتخللها وتعقبها، ربما بصيغة أكثر ضراوة من الانتخابات السابقة، تضع الديمقراطية الأميركية، التي تقدمها واشنطن للآخرين كنموذج تطالب الآخرين بالامتثال له، في اختبار قاسٍ، بل محنة، ستكون لها آثارها على العالم أجمع.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ما تداعيات توقف المساعدات الأميركية على الأردن اقتصاديا وسياسيا؟
عمّان- في تطور لافت لمستقبل وشكل العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأميركية والأردن، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية أمرا بوقف المساعدات الخارجية القائمة والجديدة لجميع الدول لمدة 90 يوما.
لكنها استثنت مصر وإسرائيل، مما يعني ضمنا أن الأردن الذي يعد حليفا إستراتيجيا لأميركا لم يشمله قرار الاستثناء، وطاله قرار تجميد ما يتلقاه من مساعدات أميركية سنوية.
ويعتبر الأردن من الدول التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، بما في ذلك المساعدات الأميركية التي تلعب دورا حيويا في دعم الاقتصاد الأردني، وتمويل البرامج التنموية، وتعزيز استقرار البلاد.
ووفق مراقبين، فقد شهدت السنوات الأخيرة نقاشات واسعة حول توقيف أو تقليص المساعدات الأميركية للأردن، مما أثار تساؤلات حول التأثيرات المحتملة لهذا التوقف على مختلف القطاعات في الأردن، لا سيما الاقتصادية منها، في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها المملكة.
الشوبكي: كان يتوجب على الأردن الإعلان مبكرا عن موازنة طوارئ تقشفية (الجزيرة) قرارات مثيرةيأتي قرار الإدارة الأميركية الجديدة بتجميد المساعدات المالية عن الأردن، بالرغم من توقيع عمّان وواشنطن في سبتمبر/أيلول 2022، مذكرة تفاهم متطورة ومتعددة السنوات (2023-2029)، والتي بموجبها تقدم الولايات المتحدة الأميركية مساعدات اقتصادية وعسكرية أساسية بما لا يقل عن 1.45 مليار دولار سنويا، أي بزيادة قدرها 13.7% مقارنة بالمذكرة السابقة.
إعلانكما كان من المتوقع أن تصل المساعدات السنوية التي أقرها الكونغرس للأردن بحلول العام الجاري 2025 إلى 2.1 مليار دولار.
وسبق القرار الأخير قرار آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب فوري للسفيرة الأميركية في العاصمة الأردنية عمّان، ولم تعرف بعد الأسباب المباشرة التي دعت لوقف اعتماد وتعيين السفيرة الشابة يائيل لامبرت في الأردن، مع أنها موجودة في منصبها منذ فترة قصيرة.
وأثارت تصريحات ترامب الأخيرة حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن ردود فعل واسعة ومنددة؛ ما بين اعتراضات شعبية ورسمية حادة، حيث تضمنت تصريحاته الصحفية مقترحات تطالب البلدين باستقبال مزيد من الفلسطينيين جراء الأوضاع الإنسانية المتدهورة في القطاع نتيجة العدوان الإسرائيلي.
ويشير الخبير الاقتصادي الدكتور عامر الشوبكي إلى أن على الأردن رفض أي مشاريع تمس بحقوق الفلسطينيين أو تهدد استقرار الأردن، وعدم الرضوخ لأي ضغوط أميركية في هذا الشأن، ودعا الشوبكي في حديثه للجزيرة نت إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وتوحيد الصف الداخلي لمواجهة المخاطر المشتركة، وحماية النسيج الاجتماعي.
ووفق الشوبكي فإنه كان يتوجب على الدولة الأردنية الإعلان مبكرا عن "موازنة طوارئ تقشفية"، بحكم معرفتها المسبقة بقرب وصول ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وبالتالي الوصول إلى نقطة التهديد والتنفيذ بوقف المساعدات الأميركية عن الأردن.
وطالب الخبير الاقتصادي الحكومة بالقيام الفوري بمعالجة المشاكل الاقتصادية الملحة، من خلال وقف أي نفقات غير ضرورية، ودمج الهيئات المستقلة لتقليل الإنفاق، وتقليص العجز، وتجنب الحاجة لمزيد من الديون، لتقوية الاقتصاد الوطني، وتقليل الضغوط الخارجية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية أو وقف المساعدات الأميركية بصورة كاملة.
لا قلقفي مقابل ذلك، تحدث مصدر رفيع المستوى في الأردن للجزيرة نت، وقلل من خطورة القرار الأميركي بتجميد المساعدات عن الأردن، مشيرا إلى أن "المساعدات المالية الأميركية للأردن تخضع حاليا لتقييم الإدارة الجديدة، ولمدة 3 أشهر، وأن هذا الأمر يشمل دولا عديدة، ولا يخص المساعدات المقدمة للأردن فحسب".
إعلانولفت المصدر -الذي طلب عدم نشر اسمه- إلى أن "موضوع مراجعة المساعدات لا يشكل قلقا للمسؤولين الأردنيين، ولا ينطوي على أي أزمة بين عمّان وواشنطن".
وتوقع المصدر الرسمي أن تعود المساعدات الأميركية كسابق عهدها في شهر أبريل/نيسان المقبل بعد انقضاء فترة المراجعة، وبالسؤال عن استثناء مصر من القرار الأميركي، كشف المصدر الأردني أن غالبية المساعدات إلى مصر عسكرية وليست اقتصادية، بينما المساعدات إلى الأردن على العكس من ذلك.
الحوارات: من يستمع للرئيس الأميركي الجديد يصل إلى قناعة أن هذا الرجل يمكن أن يفعل ما يحلو له (الجزيرة) عقيدة الجنونوردا على قرار ترامب بتجميد المساعدات، وحديثه عن استقبال اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، رأى الكاتب والمحلل السياسي الدكتور منذر الحوارات أن "من يستمع للرئيس الأميركي الجديد وهو يطلق الوعود ويهدد، يصل إلى قناعة أن هذا الرجل يمكن أن يفعل ما يحلو له".
ولفت الحوارات، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن ما يفعله ترامب يعد جزءا من إستراتيجية يطلق عليها عقيدة الجنون، وهذه واحدة من أكثر أدوات السياسة تعقيدا، واستخدمها أول الأمر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، وبعده الرئيس رونالد ريغان، ومع عودة ترامب يتم إحياؤها بأسلوب جريء وغير تقليدي.
ويوضح المحلل أن هذه الإستراتيجية تقوم على إثارة الشك لدى الخصوم والشركاء على حد سواء، وتجعلهم يعتقدون أن تصرفات الرئيس غير متوقعة، وأنه مستعد لاتخاذ خطوات مدمرة إذا لزم الأمر، مما يدفعهم لتقديم التنازلات، بالتالي فهي تجبر خصومه على التعامل معه بحذر وتمنحه موقفا تفاوضيا أقوى.
الأردن شهد العديد من الفعاليات الشعبية المنددة بموقف واشنطن تجاه الحرب على غزة (الجزيرة)وعلمت الجزيرة نت، أن منظمات المجتمع المدني العاملة في الأردن، قد أبلغت مؤخرا كوادرها العاملة بإيقاف كل أنشطة المشاريع الممولة من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، وذلك بعد وقتٍ قصير من قرار واشنطن بوقف المساعدات الأميركية لمدة 90 يوما، حيث تقدم الوكالة الأميركية العاملة في الأردن مساعدات غذائية، ومياها، ومأوى، ورعاية صحية وبيئية وغيرها.
إعلانكما أعادت التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي حول ضرورة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن الحديث مجددا عن الموقف الأردني في مجابهة "صفقة القرن" خلال فترة حكم ترامب السابقة عام 2019، حينها طلب من العاهل الأردني أيضا استقبال المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، لتصدر العديد من القوى السياسية والبرلمانية والحزبية بيانات رافضة لأي مشاريع تهدف لتهجير وتصفية القضية الفلسطينية.