لا يخفى على متابع للسياسة الداخلية الأميركية أن الإحن فيها قد تعافت، والانتقال من الغمز واللمز في إطار المنافسة المحكومة بقواعد متعارف عليها إلى المواجهة السافرة، قد تصاعدت، منذ دخول دونالد ترامب إلى حلبة السياسة مرشحًا للمرّة الأولى، ثم وصوله إلى البيت الأبيض رئيسًا، لتستعر بعد فشله في الاحتفاظ بمنصبه، خلال الانتخابات الأخيرة.

واليوم، وبعد إدانة القضاء الأميركي ترامب في 34 قضية، لاسيما إن تحوّلت إلى حكم بالسجن في يوليو/تموز، المقبل، ستدخل السياسة الداخليّة الأميركية إلى حال من العنت والعناد والعناء لم تعرفها من قبل، على هذه الصورة، ما يجعل الديمقراطية التمثيلية نفسها أمام أخطار تضاف إلى تلك التي تواجهها منذ عقد على الأقل في المجتمع الغربي كله، ما جعل بعض المفكرين السياسيين هناك يتحدثون عن ضرورة تعزيز وجود "ديمقراطية تشاركية"، تحافظ على حيوية السياسة في الغرب، وتغذيها بقدر أعمق وأوسع من الرضا الشعبي، الذي هو أساس للشرعية الحقيقية.

"أموال الصمت"

إن صدور حكم على ترامب، حتى لو لم يكن يمنع ترشحه، فإنه يعرقل استمرار المنافسة السياسية من بابها الطيع المقبول، على غرار ما جرى للرؤساء السابقين الذين حرصوا على الالتزام بالدستور والقانون، ولو من الناحية الشكلية.

فهذا الشكل كان، على الأقل، يعبر عن السير في طريق سلمي آمن، يحظى بالرضا الشعبي، مع التسليم بما أنتجته الديمقراطية من نتائج، تترتب على مقدمات متوافق عليها ويحميها الدستور، تجعل الفائز في الانتخابات الرئاسية، على تركيبها وتعقيدها في ظل صيغة "المجمع الانتخابي" لكل ولاية. فهذا كله قد يكون محل شك مستقبلًا، إن فاز بايدن، ومحل انتقاص من النزاهة والهيبة، إن فاز ترامب.

يُرى هذا الأمر في ظلّ إعلان الحزب الجمهوري أن ترامب هو مرشّحه، مهما كان الحكم النهائي في حقّه، ما يعني أنّ الرجل سيحضر إلى السياسة من باب العنوة، وربما الفوضى، لاسيما إن غضب أنصاره، واعتبروا الحكم محض مؤامرة، مثلما فعلوا حين خسر الانتخابات الفائتة.

لقد اتّهمت المحكمة ترامب بتزوير سجلات الأعمال التي واجهها في محاكمته الجنائية المتعلقة بشراء سكوت ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز عن إقامة علاقة جنسية معها، وهي القضية المعروفة إعلاميًا بـ "أموال الصمت". واتّهم ترامب أيضًا بـ "المشاركة في مؤامرة غير قانونية لتقويض نزاهة انتخابات الرئاسة عام 2016، والاشتراك في خُطة غير قانونية لقمع المعلومات السلبية، والتي تضمّنت إخفاء دفع أموال مقابل صمت الممثلة الإباحية".

وهذا، من دون شك، يمثل نيلًا من سمعة ترامب، حتى لو كان بمقدوره الاستئناف على أي حكم يصدر في 11 يوليو/تموز المقبل حسبما حدد القاضي خوان ميرشان، ودخول سباق الانتخابات، وهو أمر يمكنه أن يفعله أيضًا حتى من داخل سجنه.

فلو سجن ترامب، وهي مسألة لا يرجحها خبراء قانونيون؛ لأنه ليس لديه سجل إجرامي، ونظرًا لأنه متهم بارتكاب جرائم غير عنيفة، فإن هذا لن يمنع ترشحه على غرار ما جرى مع مرشح الحزب الاشتراكي يوجين ديز، الذي خاض انتخابات 1920 من سجن كان ينفذ فيه حكمًا بعشر سنوات، ووظف أنصاره سجنه في الدعاية له، وحصل على مليون صوت، رغم أنه كان مدانًا باتهامات أشد وطأة على الحياة السياسية الأميركية وقتها، وهي التحريض على الفرقة والانشقاق، وحضّ المواطنين على رفض التجنيد الإلزامي.

تدابير استثنائية

سيستفيد ترامب من دستور بلاده الذي لا يشترط خلو سجل المرشح الرئاسي من السوابق الجنائية، ويفرض فقط أن يكون أميركيًا بالميلاد بلغ الأربعين من عمره وقت ترشحه. وهذا أمر لم يكن غائبًا بالطبع عن ذهن القاضي ميرشان، الذي خاطب ترامب قائلًا: "أنت الرئيس السابق للولايات المتحدة، وربما الرئيس المقبل أيضًا". بل إنه، ومنذ اليوم الأول، الذي استدعي فيه ترامب للمحاكمة وهو 4 أبريل/نيسان 2023، وصفه بأنه "مرشّح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية".

لكن ترامب وإن لم يقبع في السجن، إذ يعاقب القانون بالسجن لمدة تتراوح بين 16 شهرًا وأربع سنوات في مثل هذا النوع من القضايا، فقد ينفّذ إقامة جبرية بمنزله في نيويورك أو فلوريدا، ويخضع لمراقبة فترة من الزمن، وللإجراءات الاعتيادية التي تنفّذ على المجرمين المدانين، وكذلك لتدابير استثنائية منها طريقة حماية جهاز الخدمة السرية له، وما إذا سيسمح له بالسفر لحضور فعاليات حملته الانتخابية إذا حكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله.

هذا، سيلقي بظلال كثيفة على الانتخابات الرئاسيّة الأميركية المقبلة، سواء بسبب اتهام القضاء بالتسييس، أو توظيف السجن في جلب تعاطف مع ترامب، وهي مسألة انطلقت بعد دقائق فقط من إدانة المحكمة له، إذ فتح الموقع الرسمي له حملة تبرعات لصالحه بوصفه "سجينًا سياسيًا"، وليس مجرمًا، وهي مسألة يحاول ترامب نفسه ترسيخها، حيث حملها تعليقه الفوري على الحكم بالقول: "لقد تمت إدانتي للتو في محاكمة مطاردة الساحرات السياسية. لم أفعل شيئًا خاطئًا! .. لقد داهموا منزلي، واعتقلوني، وأخذوا صورتي، والآن أدانوني للتو".

إن ترامب راح يشكك في "نظام العدالة الأميركي" ويتهم القاضي بالفساد، والقضاء بالخضوع لأهواء السياسة وانحيازاتها، ما يعني أنه، حال ترشحه، سيوظف كل هذا في الهجوم على النتائج إن جاءت في غير صالحه، مثلما فعل في انتخابات 2020، التي وُجه فيها له اتهام من قبل الديمقراطيين بأنه شارك في مخطط لإلغاء نتائجها، ما عدّه البعض وقتها محاولة "انقلاب"، فضلًا عن اتهامه بتدبير مؤامرة غير قانونية للتأثير على نتائج انتخابات 2016 التي فاز فيها.

ويمهّد ترامب الطريق إلى نواياه هذه إذ طالما استفاد من مسار محاكمته في جمع التبرعات، وكان يغازل أنصاره دومًا برسائل إلكترونية، قال في إحداها: "لقد خرجت من المحكمة بسرعة."، مدركًا في كل الأحوال أن من حقه الاستئناف على أي حكم يصدر ضده، وهي مسألة قد تستغرق شهورًا أو سنوات، ما يعني أن موعد الانتخابات المقبلة سيحل بينما القضية التي لا تزال سارية.

الظاهرة "الترامبية"

إن ترامب لا يمثل شخصًا عاديًا في الحياة السياسية الأميركية، إذ صنع ظاهرة أطلق عليها البعض "الترامبية" وهي مزيج من الشرعية القانونية والجنوح، بل البذاءة السياسية، والتدابير اليمينية المتطرفة التي تنعكس في إجراءات تخص المهاجرين، وتهندس دور الولايات المتحدة في العالم وكيف تواجه منافسيها وخصومها وأعداءها، علاوة على تصورات دينية وأفكار سياسية واجتماعية تغذي نوعًا من "المكارثية الجديدة".

كل هذه الحزمة من التصورات ستنعكس، حتمًا، على الخطاب السياسي للجمهوريين، لاسيما الترامبيين منهم، في الفترة المقبلة، ما يعني وجود مواجهة حادة بين أنصار الحزبين: الجمهوري والديمقراطي، تسبق الانتخابات وتتخللها وتعقبها، ربما بصيغة أكثر ضراوة من الانتخابات السابقة، تضع الديمقراطية الأميركية، التي تقدمها واشنطن للآخرين كنموذج تطالب الآخرين بالامتثال له، في اختبار قاسٍ، بل محنة، ستكون لها آثارها على العالم أجمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ما یعنی

إقرأ أيضاً:

تلاسن ترامب وزلينسكي:-ماهي الرسائل التي اراد ايصالها ترامب وزيلنسكي ؟

بقلم : د. سمير عبيد ..

اولا : قبل الدخول بتحليل ما حدث علينا تثبيت نقطة مهمة وهي ان الفريق الذي أسسه الرئيس الاميركي دونالد ترامب في حقبته الثانية هو فريق حديدي ولائه للرئيس ترامب أولا .ولهذا ان معظم الوزراء في حكومة ترامب إبتداءاً من نائب الرئيس مرورا على وزيري الخارجية والدفاع .. الخ قد ساندوا رئيسهم ترامب وطالبوا الرئيس الاوكراني زيلينسكي بالاعتذار من الرئيس ترامب قبل مغادرته الولايات المتحدة. وهذا يعني انهم فريق عمل حديدي لدعم الرئيس ترامب سواء كان على صواب او خطأ !
ثانيا : الرئيس الاوكراني زلينسكي هو رئيس منتهي الصلاحية لأن فترته الرئاسية قد انتهت منذ زمن ولم يقم بانتخابات جديدة واصبح مغتصب للسلطة . وهذه ورقة بيد الرئيسين الاميركي والروسي ضده وضد الاوربيين الذين يساندون رئيس مغتصب لمنصب الرئيس في أوكرانيا اي ” دكتاتور”. ولهذا نعته ترامب قبل ايام بانه دكتاتور يحكم أوكرانيا !
ثالثا:- لهذا جاء الرئيس الاوكراني زيلينسكي المشحون أوربيا إلى واشنطن وبيده ورقة واحدة وهي ( المقامرة بالعضلات والشعارات ) لكي يكون بطل بنظر شعبه، ويُحسّن من شعبيته المتدنية جدا في أوكرانيا ، ويكون بطل بنظر الاوربيين . ولكن زلينسكي نسى أنه امام رئيس أميركي بارع في المنازلات والمقامرات والتفاوض وقراءة الخصوم . ويبدو جس الرئيس ترامب نوايا واندفاع زلينسكي قبل الخروج للصحفيين فقرر اصطياده و استفزازه اي ترامب وبمساندة نائبه دي فانس ولقد حصل ذلك بالفعل . فدار نقاش حاد وصل لصراع ديّكة وكل رئيس في رأسه اهداف يريد تحقيقها ( وهي اول حادثة تحدث في البيت الأبيض) فعادةً هكذا نقاشات تدور في الغرف المغلقة وليس امام الصحفيين ومليارات المشاهدين . ولكن ترامب ارادها هكذا !
رابعا:- في نهاية اللقاء اعتقد الرئيس زلينسكي انه انتصر واوصل الرساله لشعبه والى حلفائه الاوربيين وذهب ليتناول الغداء ( واذا بالصاعقة ) التي سقطت على رأس زلينسكي وهي وصول نائب الرئيس الاميركي ومعه مستشاري ترامب وابلغوا زلينسكي بما يلي وحسب التقارير الاميركية التي نشرت امس وهي :
١-عليك ترك الطعام ومغادرة القصر الابيض فورا
٢- لا توجد اي نقاشات ولا جلسات للجان المشتركة .
٣- وعليه ان يختار بين الحرب او السلام حسب خطة الرئيس ترامب
وبالفعل غادر زلينسكي وحاول ترطيب الاجواء عندما قال للصحفيين والاعلام ( اشكر أمريكا والشعب الاميركي واشكر الرئيس ترامب ) ولكنها جاءت متأخرة جدا وباهته جدا !
خامسا :
ماذا يعني طرد الرئيس زلينسكي ورفض تفاوض اللجان المشتركة ؟
الجواب :
١-يعني ان الرئيس الاوكراني انتهى ولم يعد رئيسا شرعيا بنظر الرئيس ترامب ولن يلتقيه ثانية
٢- انها رسالة من الرئيس ترامب إلى الشعب الاوكراني ان يجد رئيس جديد بديلا عن زلينسكي
٣- اراد ترامب اسقاط ما اعتقد ان زلينسكي سجّل انتصارا واصبح بطلا قوميا بنظر شعبه فحرمه ترامب من ذلك
٤-انها رسالة من الرئيس ترامب إلى القادة الاوربيين بمعنى ( اختاروا بين اثنين اما امريكا او أوكرانيا الخاسرة للحرب ) واختاروا ( السلام او الحرب ) واذا اخترتم السلام فسيكون على خطة ترامب وان اختاروا دعم زلينسكي والاستمرار في الحرب فواشنطن لن تكون مع الاوربيين ( وهنا سيحشر ترامب الاوربيين في زاوية خطيرة للغاية )
٥- وفي نفس الوقت هي رسالة من ترامب إلى الرئيس بوتين ان واشنطن وترامب لن يتراجعا عن خطة السلام وايقاف الحرب وعلى روسيا العمل من الآن بترك إيران والابتعاد عن الصين !
الخلاصة :
الرئيس الاوكراني زلينسكي انتهى اميركيا .وبنسبة عالية جدا انتهت صلاحيته كرئيس لدولة أوكرانيا وعلى الشعب الاوكراني اختيار الانقلاب على زلينسكي بدعم واشنطن .او الذهاب لانتخاب رئيس جديد وسيكون المنافس هو الفائز بدعم واشنطن ( بالمختصر انتهى عصر وحقبة زلينسكي ) !
سمير عبيد
١ اذار ٢٠٢٥

سمير عبيد

مقالات مشابهة

  • صحيفة صينية: بكين تدرس سبل الرد على التعرفات الأميركية
  • الاحتلال يصيب طفلا ويعتقل شابا خلال اقتحام بلدة بديا بسلفيت
  • الاستخبارات الأميركية تعلق على لقاء ترامب وزيلينسكي "العاصف"
  • طالبان ترد على ترامب بشأن الأسلحة الأميركية والوجود الصيني
  • الوطنية للانتخابات تستعرض اختصاصاتها في ندوة الأحزاب السياسية
  • بعد طرده من البيت الأبيض.. هل اقتربت نهاية زيلينسكي السياسية؟
  • ترامب يدفع روسيا للخروج من منطقة البحر الأسود.. كيف يجري ذلك؟
  • مستشار ترامب يشبه زيلينسكي بـالصديقة السابقة التي تريد الجدال بدلا من تحسين العلاقة
  • تلاسن ترامب وزلينسكي:-ماهي الرسائل التي اراد ايصالها ترامب وزيلنسكي ؟
  • مسؤول إغاثي: تعليق المساعدات الأميركية يؤثر على إغاثة النازحين