يتحدث السياسيون والفلاسفة منذ سنوات عن «النظام العالمي الجديد»، ويضعون الكثير من التصورات له ولمسارات ظهوره.. ومنذ بدأت الحرب الروسية الأوكرانية عاد ذلك الحديث إلى الواجهة، وعندما فشل النظام العالمي «الحالي» في حماية أطفال غزة من الإبادة الجماعية البشعة التي يتعرض لها سمع صوت الحديث عن نظام عالمي جديد على منصات الأمم المتحدة نفسها.
في كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والرجل الأخير»، الذي نشر في أعقاب الحرب الباردة، ذهب للقول إن انتشار الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة كان بمثابة نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية. افترض فوكوياما أنه مع الانتصار الواضح لليبرالية الغربية، فإن الصراعات المستقبلية لن تتعلق بالمعارك الأيديولوجية الكبرى بقدر ما تتعلق بالنزاعات المحلية والثقافية.
لكنّ أحداث السنوات الماضية شكلت تحديًا لأطروحة فوكوياما.. ويشير صعود الأنظمة الاستبدادية، وعودة القومية، والتوترات المتزايدة بين الدول الديمقراطية والاستبدادية، إلى أن التاريخ لم ينته بعد. وفي هذه اللحظة التاريخية المهمة يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تصوره فوكوياما باعتباره الحالة النهائية للحكم البشري يتعرض الآن لضغوط كبيرة، ويواجه تحديات من الداخل والخارج، بل إن البعض قد ذهب إلى حد القول إن نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ قد سقطت تمامًا.
أما السياسي الأمريكي المعروف هينري كيسنجر فيذهب في كتابه «النظام العالمي» إلى التأكيد على أهمية وجود نظام دولي مستقر يقوم على توازن القوى والاحترام المتبادل بين الدول ذات السيادة. ويرى أن العالم تأرجح تاريخيًا بين فترات الاستقرار، التي تم الحفاظ عليها من خلال توازن القوى، وفترات الفوضى، التي فقدت ميزة التوازن. ويشدد على الحاجة إلى إطار دولي تعاوني لمواجهة التحديات المعاصرة، ويدعو إلى الدبلوماسية والمشاركة الاستراتيجية بين القوى الكبرى لمنع الصراعات والحفاظ على الاستقرار العالمي.
وتسلط رؤية كيسنجر الضوء على هشاشة النظام العالمي الحالي، ويرى أن التحولات الكبيرة ـ مثل صعود الصين، وعودة روسيا إلى الظهور، والانحدار النسبي للنفوذ الغربي ـ تشكل مخاطر على التوازن القائم. ووفقًا لكيسنجر في كتابه، فإن سر وجود نظام عالمي مستدام يكمن في قدرة القوى العالمية على التكيف مع هذه التغييرات من خلال الحوار البناء والتعاون.
وفي مقابل الرؤيتين السابقتين يقدم الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين وجهة نظر مختلفة جذريًا في كتاباته حول النظام العالمي الجديد. ودوغين، المعروف أنه من أنصار الأوراسية، يدعو إلى عالم متعدد الأقطاب يرفض الليبرالية الغربية ويدعو إلى تبني القيم التقليدية والتنوع الثقافي، وهو يتصور هيكلًا جيوسياسيًا تلعب فيه القوى الإقليمية، وخاصة روسيا والصين، أدوارًا مهيمنةً في مناطق نفوذها، مما يتحدى الهيمنة الأحادية القطب للولايات المتحدة وحلفائها.
ويرتكز منظور دوجين على نقد العولمة والنظام العالمي المتمركز حول الغرب، والذي يعتبره قمعيًا ومتجانسًا. ويدعو إلى إعادة تأكيد السيادة الوطنية والهوية الثقافية، ويقترح نظامًا عالميًا جديدًا لامركزيًا ويحترم تميز الحضارات المختلفة. وتتوافق هذه الرؤية مع الاتجاهات الجيوسياسية الحالية، حيث تؤكد دول مثل روسيا والصين نفوذها بشكل متزايد، وتدعو إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
إذن هل نشهد نظامًا عالميًا جديدًا؟
يشير المشهد العالمي المعاصر إلى أننا قد نكون بالفعل على أعتاب نظام عالمي جديد، يتسم بالكثير من التطورات التي تأتي في مقدمتها التعددية القطبية. ويشير صعود الصين وإعادة تأكيد النفوذ الجيوسياسي الروسي إلى التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، مما يتحدى الهيمنة الأحادية القطب للولايات المتحدة. وإضافة إلى ذلك يمكن رصد تزايد الاتجاه العالمي نحو القومية وإعادة تأكيد السيادة الوطنية، كما يتضح من سياسات مختلف البلدان الرافضة للعولمة على سبيل المثال.
كما تعمل التطورات التكنولوجية والتحولات الاقتصادية على إعادة تعريف ديناميكيات القوة، حيث أصبحت الاقتصادات الرقمية والبراعة التكنولوجية من العوامل الرئيسية المحددة للنفوذ العالمي. وتتوافق هذه التغييرات مع رؤى دوجين، وإلى حد ما كيسنجر، اللذين توقعا حدوث تحولات كبيرة في هياكل القوة العالمية.
وفي الوقت الذي يواجه النظام الديمقراطي الليبرالي وفق رؤية فوكوياما تحديات كبيرة، فإن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ما زالت تؤثر على الخطاب العالمي، لكنها يقينا لم تعد تقنع الكثير من الدول ومئات الملايين من الناس حول العالم.
وفي المجمل فإن كل هذه التحولات تشير إلى أننا نتحرك نحو نظام عالمي جديد، يبنى على فكرة التعددية القطبية، وإعادة تعريف السيادة، والتطور التكنولوجي. ولا شك أن التفاعل بين هذه العوامل سوف يحدد استقرار وطبيعة النظام العالمي الناشئ، مما يجعل من الأهمية بمكان بالنسبة للساسة في العالم أن يقرؤوا هذه المعطيات ببصيرة ودبلوماسية حقيقية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نظام عالمی جدید النظام العالمی عالمی ا نظام ا
إقرأ أيضاً:
كيف يوقف الشرع إسقاط نظامه؟
يَنْدُرُ أن نسمعَ عن نظامٍ انتصر في زمننا، وتعامل مع أتباعِه والمحسوبين عليه بسموٍّ وتسامح، مثلما شهدنا من أحمد الشرع في سوريا. في العراق، سَحلَ البعثيون الشيوعيين في الشوارع، والشيوعيون قبلَهم شاركوا في إبادةِ الملكيين، كما طاردَ الأمريكيون فلولَ صدام، وسرَّحوا نصفَ مليونٍ محسوبين عليه. وفي سوريا نفسِها علَّقَ صلاح جديد المشانقَ للقوميين، وانقلب عليه حافظُ الأسد، ودفنَ الآلافَ من أهل حماة أحياءً عقاباً جماعياً على تمرد فئة منهم. خلفه ابنُه بشار، وحفرَ المقابر، وملأ السجون، وسَجلت الأممُ المتحدة في أرشيفها عشرات الآلاف من الصور التي هرَّبها طبيبٌ جنائي لتكون أكبرَ ملفٍّ في تاريخ القتل والتعذيب الموثق.
للأسف يطفو في الحروب الغلُّ والثارات، لكن للحق كانت رسالةُ الحاكم السوري الجديد فورَ دخوله دمشقَ طمأنةَ العلويين قبل غيرهم، وبقيةِ الأقليات والذين عملوا مع النظام مستثنياً الذين انخرطوا في عمليات القتل والتعذيب، ورأينا تقبلاً سريعاً للنظام الجديد.
التَّمرد المدفوع في الساحل ليس مفاجئاً، لقد كانَ متوقعاً بعد خلع نظامٍ هيمن نصفَ قرن. الانتقال يتطلَّب المعالجةَ بالحكمة والصبر والاستيعاب والتواصل، وليس كله يُدار بالقوة.
لكن هناك قوى لن تتوقَّف عن زعزعةِ الوضع، وشحن الشارع المتشكك ضد النظامِ الجديد، تلك التي فقدت سلطتها في الحكم، والأنظمة الإقليمية التي خسرت بسقوط الأسد، مثل نظام طهران وميليشيات في العراق و«حزب الله». هناك طوابيرُ متنوعة سُنيَّة ومسيحيَّة وعلويَّة وغيرها ساندت نظامَ الأسد، وفقدت امتيازاتها بسقوطه، وستعمل ضد دمشقَ اليوم. تسويق العداء للعلويين تحديداً يغذيه اتباعُ النظام المخلوع لتحريضِ نحو مليوني علوي للاصطفاف معهم، وحتى رموز في نظام الأسد الهاربِ مثل رامي مخلوف تبحث عن التصالح.
هذه الأزمة تختبر إدارةَ النظام الجديد. عندما كانَ ميليشيا مسلحةً في إدلب كانت مسؤوليته محدودةً حول ما كان يرتكبه مسلحوه. اليوم هو الدولة، وعليه ألا يجعلَ خصومَه يجرّونه إلى الخندق نفسه مع النظام البائد، ليصبح مثلَه طائفيّاً وعنيفاً يعالج بالسّلاح ما يعجز عنه بالسياسة.
سارعت معظمُ الدول العربية للتضامن مع حكومة دمشق، فكانت رسالة واضحة للشعب السوري مع من تقف. وهذا الموقف السياسي غاية في الأهمية ليسمعه المجتمع الدولي. لكنْ أمام دمشقَ طريق صعبة قد تمتدُّ فيها التحديات ضدها سنة وسنوات. لا يستطيع الشرعُ خوضَ حروب متعددة في الوقت نفسه، مثل مواجهة إسرائيل وإيران، ولم يسبق لدولةٍ أنْ فعلتها ونجحت. وبالتالي سيتعيَّن على حكومة الشرع فهمُ نيات، أو على الأقل توقعات إسرائيل، مثلاً في احتضانها الدروز في وجه ما وصفته بالاضطهاد ضدَّهم من قبل دمشق. على مدى نصف قرنٍ هادنت إسرائيل، بل حمت أيضاً نظامَ الأسدين إلى أن مَنحَ بشار الإيرانيين امتيازاتٍ بالوجود العسكري فانقلبت إسرائيل عليه. الشرع منذ بداية توليه السلطة مدركٌ هذه الثوابت الجيوسياسية، وقال إنه لا ينوي الدخول في معارك مع جيرانه، بما فيهم إسرائيل. ولا ننسى أنَّ كلَّ دول الطوق المجاورة لإسرائيل وقَّعت تفاهمات أو اتفاقيات سلام معها. الشرع مضطر إما إلى التفاهم مع إسرائيل وإما مع إيران، وسيستحيل عليه أن يواجه الذئبين معاً.
داخلياً، ندرك كيف تتنازع الرئيسَ الشرع دعواتٌ متضادة. سوريون ذاقوا المُرَّ من النظام البائد، يدعون للإقصاء والثأر الطائفي، وفئات لها مطالب مثل الفيدرالية الكاملة التي يصعب تحقيقها خلال فترة الحروب؛ لأنَّها تصبح مشاريع انفصال. هنا شخصية الرئيس حاسمة لردع رفاقه وخصومِه، ووقف الاشتباكات السياسية والفكرية والعسكرية.
في الأخير، سيكسب نظام الشرع المعركة ضد إسقاط نظامه، وسيتمكن من توحيد سوريا ومواجهة المتمردين عليه، لكن هل بمقدوره اختصار الوقت والخسائر؟