أمضيت أسبوعا في باكستان وأنا أرقب تفاعلات الحدث الغزي في كثير من الجوانب الحياتية والسياسية والإعلامية والطبية والإغاثية الباكستانية، أرقبه في الاعتصام الذي أعلنه مئات من المعتصمين قرب مقر البرلمان الباكستاني شرقي العاصمة الباكستانية إسلام آباد، وهم يطالبون بوقف الحرب الهمجية العبثية الإجرامية على شعب غزة، ويعترضون على الموقف الباكستاني الرسمي الهزيل إزاء المجازر والمذابح اليومية الواقعة هناك، حيث شعب يراد اقتلاعه من أرضه وتاريخه.
والعجيب أن يتعرض مقر اعتصام سلمي هادئ، لحادث دهس غامض، حين اقتحم أحد سائقي السيارات مقر الاعتصام، فدهس ثلاثة من المعتصمين، وهو ما قاد إلى قتلهم جميعا رحمهم الله وتقبلهم في فردوسه، فقد خرجوا انتصارا لفلسطين، وانتصارا لأمة الجسد الواحد الذي لم يفرق بينها عِرق ولا جغرافيا.
وفي كراتشي العاصمة الاقتصادية لباكستان كان زعيم الجماعة الإسلامية الجديد حافظ نعيم الرحمن؛ يحشد عشرات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين نصرة لغزة، حيث احتشدوا وسط المدينة مطالبين بفك الحصار عن غزة، ووقف حملات الإبادة بحق المحاصرين فيها، كما ناشدوا الحكومة الباكستانية القيام بواجباتها من أجل مساعدة المحاصرين هناك.
في لاهور، حيث كانت خلية العمل الطبية والإغاثية على أشدها، التقيت في مكتب مؤسسة الخدمة التابع للجماعة الإسلامية، مسؤولي المؤسسة، والذين بدوا لي كخلية نحل حقيقية، حيث التنسيق مع مصر ومع معبر رفح، ومع داخل غزة لنقل مساعدات طبية وغذائية، وكل ما يحتاجه الأطفال وأمهاتهم في غزة الصمود. ويقول لي القائمون على الحملة إن آلافا من الأطنان من هذه المواد، تم شحنها إلى داخل غزة بفضل الله، ثم بجهود الباكستانيين المتبرعين، بالإضافة إلى جهود سلاح الجو والبحرية الباكستانيين، في دعم ومساندة جهود الإغاثة هذه، مما كان له أثر كبير وسريع وسهل في إيصال المواد الغذائية والطبية للمحاصرين في غزة، وقد وصل الأمر إلى تسجيل أكثر من 3200 طبيب واستشاري باكستاني وفي معظم التخصصات لدى مؤسسة الخدمة من أجل التوجه إلى غزة، ودعمها ومساندتها، واللافت أن 60 في المائة من هؤلاء من العنصر النسائي. ولعل القصة الأبرز في هذا الإقبال الباكستاني المنقطع النظير، حرص طبيبة باكستانية مع ابنها على التوجه إلى غزة لمعالجة الجرحى هناك.
الكل في باكستان يتحدث عن غزة، إن كان في المحافل السياسية أو الإعلامية والصحافية وحتى في الأحاديث العامة، فضلا عن خطب الجمعة، وهو ما جعل من غزة عامل توحيد باكستاني، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، للساحة الباكستانية بكافة شرائحها.
ولا أنسى حين كنت برفقة الصديق الصحافي الفلسطيني بكر يونس مطر، وقد دُعي من قبل قناة إكسبرس الفضائية الباكستانية، للمشاركة في حوار تلفزيوني وعلى الهواء عن غزة وباللغة الأوردية المحلية، قطعنا مشوارنا وتوجهنا إلى القناة، وسعدت جدا وأنا أسمعه وهو يتحدث بلسان كل غزيّ، بل وكل عربي ومسلم بلغة أوردية إلى نحو مليار مسلم في جنوب آسيا، منتشرين في كل من باكستان وبنغلاديش والهند، وحتى أن كثيرا من الأفغان يتقنون الأوردية، بحكم عيشهم الطويل في باكستان خلال أيام الجهاد الأفغاني؛ إن كان ضد السوفييت أو ضد التحالف الغربي بقيادة أمريكا لاحقا.
الأمة كلها في حالة استنفار حقيقي، وليس باكستان لوحدها، ومن الأمثل والأجدى استثمار هذا الاستنفار لشيء عظيم لا حصره في قضية غزة والأحداث الراهنة، استثماره من أجل فلسطين وغير فلسطين، فهبّة الشعوب وانتفاضة الشعوب وقيامها ليس بالسهل أن يحصل كل مرة، وليس من السهل التعبئة والحشد في كل حدث، إن كان على صعيد التضامن والدعاء والدعم، أو المقاطعة التي رأينا نجاعتها ونجاحها اليوم في غزة، أما وقد وحدث ذلك اليوم فمن الواجب دفع ذلك إلى الأمام، وتعظيمه خدمة لقضايا الأمة كلها، بالتوجيه والنصح والإرشاد، وتبيان المخاطر التي تتهدد الأمة بشكل عام في عالم العرب والمسلمين.
في جلسة مع أطباء باكستانيين معنيين بالدعم والمساندة لغزة وغير غزة، قال لنا الراعي لكلية الطب في بيشاور، الدكتور نجيب الحق في بيشاور: "إن الأمة كلها باستطاعتها أن تفعل أربعة أمور لغزة، وهي أولا الدعاء، وهو أمر سهل على كل مسلم لكن بالتأكيد فوائده كبيرة بإذن الله تعالى، والأمر الثاني التبرع ولو بروبية واحدة أو مليون روبية، فما على المرء إلا أن يجود بما يستطيعه ويقدره، والأمر الثالث المقاطعة الاقتصادية التي أثبتت قوتها وأهميتها في الحدث الغزي، أما الأمر الرابع وهو الاستطاعة الجسدية الممثلة بالمشاركة في التظاهر والاعتصام للتعبير عن تضامن الأمة مع أهلنا في غزة".
هذه هي أمة الجسد الواحد إذا اشتكى منها عضو من جسدها تداعى الجسد كله بالسهر والحمى، التي تقض مضجع كل مسلم، وبالتالي يبقى الجميع يسهر معانيا مع إخوانه المسلمين في غزة وغيرها...
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه باكستان غزة دعم التضامن المسلمين غزة باكستان دعم تضامن المسلمين مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة صحافة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی باکستان فی غزة
إقرأ أيضاً:
هل المسلمون في العالم متحدون؟
اسمحوا لي أن أكون صريحًا جدًا – أنا متعب من سماع المسلمين يشتكون من الانقسام. يؤلمني كثيرًا رؤية العديد من أفراد مجتمعي ينضحون بإحساس من اليأس والإحباط؛ بسبب اعتقاد خاطئ بأن الأمة منقسمة، وبالتالي نحن جميعًا "خاسرون".
أعلم أن هذا التشاؤم ينشأ بشكل أساسي من مشاهدة العنف والظلم الذي يتعرض له إخواننا وأخواتنا في الدين في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، مع إفلات واضح من العقاب، في سياق صراعات جيوسياسية مختلفة.
ومع ذلك، كمسلمين، لدينا مسؤولية بعدم اليأس. يشجعنا ديننا على التأمل الذاتي، والالتزام بـ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وهذا يتطلب تحليلًا دقيقًا وإذا لزم الأمر، نقدًا للوضع الراهن، ولكن دون الوقوع في الإحباط.
بعد فقدان الخلافة بسقوط الإمبراطورية العثمانية في عام 1922، ركزت غالبية المسلمين جهودهم وطاقتهم على إيجاد وسيلة لـ "إعادة توحيد" الأمة. افترضوا أنه بدون خلافة، سيجد المسلمون في العالم صعوبة في الاتفاق على القضايا المهمة، وسيتكبدون العواقب. أدى هذا إلى اقتتال لا نهاية له – خصوصًا بين من يسعون للحفاظ على الممارسات الدينية القديمة وبين من يريدون إجراء إصلاحات أساسية في الدين باسم إعادة توحيد الأمة. لكن ماذا حقق كل هذا النزاع والصراخ؟ لقد مر قرن كامل منذ أن فقدنا الخلافة، وما زال الكثير منا يبكون بسبب ما يعتقدون أنه انقسام بين المسلمين.
إعلان الوحدة الحقيقية ليست في الهيكل السياسيالذين أصبحوا مهووسين بفقدان الأمة لـ"وحدتها" في غياب هيكل سياسي مشترك فقدوا رؤية الأمور التي تبقينا متوحدين، وهي أمور يمكنها فعليًا مساعدة مجتمعنا على تحقيق العدالة والسلام والازدهار.
الوحدة الحقيقية لا يمكن أن توجد في فرض التجانس السياسي أو الثقافي تحت إمبراطورية مثالية تمتد من المغرب إلى ماليزيا. إنها موجودة بالفعل في التزامنا الجماعي بمبادئ الإسلام الأساسية، التي هي بطبيعتها عالمية.
الرسالة القرآنية، التي نقلها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، تؤكد هذه العالمية. جعلت أصول الإسلام كتراث شفهي ومعاش منهجًا فريدًا يسهل الوصول إليه من قبل مجتمعات متنوعة، من القبائل البدوية إلى الحضارات المتقدمة. هذا الوصول السهل خلق وحدة يصعب كسرها.
اليوم، ورغم غياب الخلافة أو هيكل سياسي مشترك، فإن المسلمين في العالم أكثر اتحادًا مما نعترف به. نحن متحدون في مبادئنا وممارساتنا وقيمنا. الاعتراف بهذه الوحدة واستغلال قوتها واجب ديني. وبالمثل، فإن احتضان هذه الوحدة وتقديرها، وعدم الانسياق خلف روايات الانقسام المضللة، هو فعل سياسي مقاوم للإرث المستمر للطغيان الاستعماري والإمبريالي.
الروايات الزائفة عن الانقسامرواية "الانقسام" المفروضة علينا تأتي من قوى خارجية تسعى منذ قرون لإخضاعنا. هذه القوى تريدنا أن نصدق أنه بما أنه لا توجد وحدة سياسية شاملة، فنحن غير موحدين في أي شيء. يريدوننا أن نغرق في اليأس ونصبح فعلًا منقسمين، ليتمكنوا من الحفاظ على هيمنتهم.
بالفعل، لا يمكن فصل رواية الانقسام السائدة في المجتمع المسلم اليوم عن جراح الاستعمار والإمبريالية الغربية. لأكثر من قرنين، خضع العالم الإسلامي للهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت القوى الإمبريالية الغربية. الحدود المصطنعة التي رسمها الإداريون الاستعماريون صُممت لتمزيق المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وإثارة الانقسام بين شعوبنا للسماح لهم بالاستمرار في السيطرة علينا.
إعلانومع ذلك، فإن وحدة الأمة مستمرة بطرق لم يتمكن هؤلاء "الغزاة" من محوها. استمرارية الممارسات الإسلامية – من الصلاة إلى الحج – على مدى 1400 عام، تشهد على رابطة ميتافيزيقية لا تنكسر. التعرف عليها لا يعني تجاهل التحديات السياسية الحقيقية، بل إعادة صياغة الرواية لتسليط الضوء على الصمود.
التنوع مصدر قوةيكمن فهم هذا في احتضان تنوع المجتمع الإسلامي العالمي. كان المجتمع الإسلامي المبكر متعدد الثقافات واللغات والأعراق. لم تقوض الخلافات في الحكم والمقاربات السياسية بين الخلفاء الراشدين، الوحدة؛ بل أظهرت مرونة وشمولية المبادئ الإسلامية. وبالمثل، فإن تطور السياسات الإسلامية عبر القارات- من العباسيين إلى العثمانيين – يثبت أن الخلافات السياسية لا تعادل الانقسام.
إن القدرة على استيعاب الآراء المختلفة والمدارس الفكرية والتعبيرات الثقافية هي قوة أثرت الأمة تاريخيًا. على سبيل المثال، الاختلافات في ممارسات الصلاة بين المدارس الفكرية الإسلامية ليست علامات انقسام، بل تعكس تقليدًا قويًا يقدّر التنوع ضمن إطار مشترك.
الصمود بدلًا من الشكوىعندما يواجه شعبنا الظلم والعنف والهزيمة من قوى استبدادية خارجية- كما رأينا للأسف في العديد من الأمثلة في السنوات الأخيرة – يجب أن تكون استجابتنا هي الصمود والتركيز على كل ما يوحدنا، بدلًا من الشكوى من "الانقسام" والوقوع في اليأس.
على سبيل المثال، بعد فشل ثورة الهند عام 1857 ضد الاستعمار البريطاني، التي أسفرت عن مقتل آلاف العلماء المسلمين، لم يستسلم علماء ديوبند لليأس. رغم الأثر النفسي المدمر للخسائر، قبلوا بفشلهم، وتحملوا المسؤولية، وبدؤُوا فورًا العمل للنهوض من رماد الهزيمة.
لم ينهاروا، ولم يشتكوا من ضعف الأمة أو انقسامها. بدلًا من ذلك، قرروا المضي قدمًا بحماية المعرفة الإسلامية في الهند البريطانية، مدركين أن الظالمين يمكنهم هزيمة الأفراد، لكنهم لا يستطيعون هزيمة المعرفة المقدسة التي توحدنا.
إعلان الطريق إلى الأمامفي هذا الوقت المليء بالصراعات وعدم المساواة والظلم المنتشر، يجب أن يركز المسلمون على الإنجازات والروابط الدائمة التي تربط الأمة عبر الزمان والمكان بدلًا من التركيز على روايات الفشل. وحدة العالم الإسلامي ليست مثالية غير قابلة للتحقيق، بل هي حقيقة حية تتطلب الاعتراف والاحتفاء بها.
مع ذلك، يجب ألا يؤدي الاعتراف بوحدة الأمة الدينية إلى الرضا الزائف. تتطلب تحديات العالم الحديث حلولًا مبتكرة. لكن هذه الحلول يجب أن تُبنى على أساس الوحدة القائمة، لا أن تقوضها بروايات تشاؤمية.
بإعادة صياغة الرواية والاحتفاء بما يوحدنا، يمكن للمسلمين المضي قدمًا بثقة، وتحويل الوحدة إلى قوة للتجديد والمقاومة في عالم لا يزال يعاني من آثار الاستعمار.
هذا ليس وقتًا لليأس، بل هو وقت لاستخدام إيماننا بقوة الله الأبدية والانخراط في جهود استباقية لإصلاح وتحسين مساعينا الإسلامية!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية