تركيا: تحديات العدالة والتنمية ومساراته المستقبلية
تاريخ النشر: 3rd, June 2024 GMT
رغم أن الانتخابات التي أجريت في تركيا نهاية آذار/ مارس الفائت هي انتخابات محلية بلدية الطابع والاختصاص، وبالتالي ليس لها تأثير مباشر على النظام السياسي المستقر في البلاد، فقد كانت لها تداعيات على الأحزاب المشاركة بها، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تراجع في هذه الانتخابات لأول مرة منذ تأسيسه.
لقد دخلت الأحزاب التركية الانتخابات المحلية الأخيرة بحسابات وأهداف متباينة، فكان لنتائج الأخيرة تداعيات مباشرة وغير مباشرة على معظمها. فحزب مثل "الرفاه من جديد" الذي كان دخل مجلس الأمة الكبير (البرلمان) بالتحالف مع العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية قبل عام؛ وجد نفسه ثالثا في الانتخابات الأخيرة، وبات يتصرف ويتحدث كلاعب أساسي في المشهد السياسي الداخلي. في المقابل، أُعلِنَ عن مغادرة رئيس حزب السعادة تمل كاموللا أوغلو رئاسة الحزب "لأسباب صحية"، فيما تحملت رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنار مسؤولية الخسارة فلم تترشح في مؤتمر حزبها العام مجددا.
الأثر الأكبر للانتخابات المحلية بتعلق بحزب العدالة والتنمية الذي يقود البلاد منفردا منذ 2002، وفاز بكل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ ذلك الحين، قبل أن يحل في المركز الثاني في الانتخابات المحلية الأخيرة خلف منافسه التقليدي وخصمه اللدود الشعب الجمهوري
بيد أنه من البديهي أن الأثر الأكبر للانتخابات المحلية بتعلق بحزب العدالة والتنمية الذي يقود البلاد منفردا منذ 2002، وفاز بكل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ ذلك الحين، قبل أن يحل في المركز الثاني في الانتخابات المحلية الأخيرة خلف منافسه التقليدي وخصمه اللدود الشعب الجمهوري.
حملت نتائج الانتخابات مؤشرا واضحا على استمرار منحى التراجع في شعبية الحزب وتأييد الشارع له؛ والملحوظ منذ 2017 على أقل تقدير، وعدَّها الكثيرون "بطاقة صفراء" رفعت في وجه الحزب الحاكم، ما يعني دق ناقوس الخطر بخصوص الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة والمقررة في 2028، رغم الاختلاف البارز في حيثيات وديناميات الانتخابات المحلية عن الأخيرة.
في تقييمه للنتائج، تحدث أردوغان بشكل مباشر عن وجود رسائل مباشرة من الناخبين في صندوق الاقتراع لحزبه، وإلى جانب تعهده بالتفاعل إيجابا مع هذه الرسائل فقد حذّر قيادات حزبه من تجاهلها و/أو إلقاء اللوم على الشعب وليس أنفسهم وإلا "ذبنا مثل الثلج تحت الشمس"، مذكّرا باندثار أحزاب سياسية كانت سابقا ملء السمع والبصر.
جمع الرئيس التركي أسباب تراجع التصويت لحزبه في فكرة البعد عن الشارع والهوة بين الأخير والحزب، معددا أسبابا كثيرة بعضها يرتبط بالأشخاص مثل حياة الرفاهية أو التعامل مع الناس بفوقية فضلا عن أسماء المرشحين، وبعضها الآخر سياسي واقتصادي يتعلق بالأوضاع الاقتصادية في البلاد وبعض الملفات السياسية، مثل الموقف من العدوان على غزة.
بيد أنه بنظرة أعمق يمكن القول إن ما ينتقده الكثير من الأنصار السابقين لحزب العدالة والتنمية عليه هو التغيرات الجذرية التي تعرض لها على مدى أكثر من عقدين من الحكم المتواصل، بدءا من الأفكار والرؤى، مرورا بالخطاب وليس انتهاء بالممارسة السياسية ومنظومة التحالفات، وهو ما يعني أن المطلوب من الحزب لاستعادة ثقة بعض الشرائح ليس سهلا ولا سريع الحدوث.
ما ينتقده الكثير من الأنصار السابقين لحزب العدالة والتنمية عليه هو التغيرات الجذرية التي تعرض لها على مدى أكثر من عقدين من الحكم المتواصل، بدءا من الأفكار والرؤى، مرورا بالخطاب وليس انتهاء بالممارسة السياسية ومنظومة التحالفات، وهو ما يعني أن المطلوب من الحزب لاستعادة ثقة بعض الشرائح ليس سهلا ولا سريع الحدوث
خطوات ومسارات
في حزيران/ يونيو 2015، حين تراجع العدالة والتنمية لأول مرة في الانتخابات وفشل في الحصول على أغلبية البرلمان، تعهد الرئيس التركي ومعه رئيس الحزب آنذاك، أحمد داود أوغلو، بدراسة رسائل الصندوق والتعامل معها بجدية، وهي الرسالة ذاتها التي تتكرر مع كل محطة انتخابية منذ 2017.
وفي كل الحالات السابقة تقريبا، كانت الخطوة الرئيسة تغيير بعض الوجوه في الحزب والحكومة، عبر تعديلات وزارية ومؤتمرات عامة تشمل تغيير جزء غير يسير (زهاء 40 في المئة) من أعضاء الهيئات القيادية في الحزب، وهو توجه نابع من التقدير بأن السبب الرئيس للتراجع هو تقاعس الماكينة التنظيمية للحزب و/أو فشلها.
لكن الحزب يدرك اليوم أن خطوات من هذا القبيل لن تكون كافية ولا مفيدة لاستعادة ثقة الشارع بتعبير أردوغان، ما يعني أنه مُطالَبٌ بما هو أعمق وأكثر جوهرية في الفكر والخطاب والممارسة السياسية، وقد بدأت تتضح بعض ملامح التغيير الذي يسعى له أردوغان داخل الحزب.
أولى إشارات التفاعل مع رسائل الصندوق أتت في سياق القرارات ضد دولة الاحتلال وردا على عدوانها المستمر على قطاع غزة، أولا تقييد تصدير 54 منتجا لها، ثم الإعلان عن وقف التجارة معها تماما، والتوجه للمشاركة في دعوى الإبادة التي رفعتها ضدَّها جنوبُ أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. ذلك أن التقييمات العديدة بخصوص هذه القرارات لم تستطع تجاوز سؤال التوقيت والسياق، والذي ارتبط بشكل أو بآخر بأسباب التراجع في الانتخابات المحلية.
ومن التوجهات الرئيسة المختلفة بعد الانتخابات الانفتاح على حزب الشعب الجمهوري المعارض، وتتويج ذلك بزيارة رئيسه أوزغور أوزال لأردوغان في مقر العدالة والتنمية، وهو اللقاء الأول لرئيسَيْ الحزبين منذ 2016؛ حين التقى رئيس الأخير حينها بن علي يلدرم بزعيم المعارضة في حينه كمال كليتشدار أوغلو، ويخطط أردوغان لزيارة مقابلة لمقر الحزب المعارض ستكون الأولى من نوعها منذ عام 2006.
ثمة إجماع في الأوساط السياسية بأن اللقاء سيساهم بشكل مباشر في تخفيف حدة الاستقطاب والتراشقات السياسية في البلاد، وهو أمر مفيد للحياة السياسية من جهة، وكذلك وبشكل أكثر أهمية للأوضاع الاقتصادية ويمكن أن ينسحب على آخرين.
كما نفذ رئيس البرلمان -القيادي السابق في العدالة والتنمية- نعمان كورتولموش جولة أولى على الأحزاب الممثلة في البرلمان للحصول على دعمها لمسعى صياغة دستور مدني جديد للبلاد يحل مكان دستور عام 1982 المطبق حتى اللحظة (مع تعديلات عديدة لم تغير جوهره)، والذي أتى بعد انقلاب 1980 مباشرة.
من المهم الإشارة هنا إلى توافق جميع الأحزاب السياسية في البلاد، وتحديدا الكبيرة والمتواجدة تحت قبة البرلمان منها، على ضرورة كتابة دستور جديد للبلاد، إلا أنها تختلف في تفاصيل بعض المواد. وقد خاضت الأحزاب الكبيرة عدة نقاشات سابقا بمبادرة من العدالة والتنمية، وشكلت لجنة لصياغة الدستور قبل سنوات لم تصل لشيء. ولعل الحزب الحاكم يراهن على أن تخفيف حدة الاستقطاب السياسي في البلاد قد يساهم في كسب دعم أكبر هذه المرة لمشروع الدستور الذي يراه الحزب ضرورة، ويعدُّه أردوغان أحد أكبر مشاريعه التي يرغب في تتويجه حياته السياسية بها.
وأخيرا، هناك المؤتمر العام الذي ينظمه حزب العدالة والتنمية عادة بعد الاستحقاقات الانتخابية بحيث يكون ضمن عملية المراجعات والمحاسبة. وقد أعلن أردوغان في الاجتماع الموسع لرؤساء فروع الحزب في الرابع عشر من الشهر الجاري عن إطلاق "مسار المؤتمر"، والذي يبدأ عادة بمؤتمرات فرعية في الأحياء ثم المدن والمحافظات ليصل لمحطة المؤتمر العام على مستوى تركيا كلها. وسيسبق كل ذلك لقاءان استشاريان موسعان نهاية الشهر الجاري وبداية الشهر المقبل، مع نواب الحزب أولا ثم مع رؤساء البلديات من أعضائه.
وفيما يشبه الشعار، أكد الرئيس التركي على أن "الإصرار على الخطأ وليس الخطأ نفسه هو الذي يتسبب بالخسارة"، مركزا على فكرة التغيير والتجاوب مع مطالب الناس.
أدوات أردوغان في التغيير والتجديد قد تكون غير كافية هذه المرة، وأنه قد يُواجَه بمقاومة داخلية من أوساط وتيارات وشخصيات مستفيدة من الوضع القائم، لا سيما إذا ما أصر على تغيير جذري وحقيقي يمكنه إرضاء الشارع وإقناعه. وعليه، ستكون نتائج المؤتمر المقبل أولى وأهم الإشارات على حجم التغيير المتوقع وبالتالي مصير الحزب مستقبلا إلى حد بعيد
ومع تذكيره في كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية قبل أيام بأن ميزة حزبه كانت دائما قدرته على التجدد والتقدم والتوسع، فقد أشار أردوغان إلى أن المؤتمر يهدف لضم "أسماء جديدة، وقيم جديدة، وجنود خدمة جُدد" للحزب، مؤكدا حاجة الأخير لأشخاص يضيفون له "قوة وأفقا ورؤية ودينامية وحماسا". وقد حرص الرئيس على فكرة تقديم مصلحة الحزب وتركيا على "المصالح الشخصية"، بما في ذلك "استراحة من تعب أو أخطأ" ليحل مكانهم من هم أكثر حماسا ودينامية، دون أن يعني ذلك إظهار عدم الوفاء للسابقين.
وفي الخلاصة، يدرك العدالة والتنمية أن نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة ليست كأي نتائج سابقة، وأن رسالة التغيير الواضحة فيها جدية هذه المرة وتنذر بما هو أكبر في حال لم يجد أنصار الحزب التغيير المنشود الذي يقنعهم. ورغم أن أردوغان أشار في أكثر من حديث له إلى أن أربع سنوات (حتى الانتخابات المقبلة في 2028) مدة طويلة وكافية للعمل والتغيير والإقناع، إلا أن مهمته لن تكون سهلة.
فأكثر من عقدين متواصلين من الحكم المتواصل قد تخللها الكثير من الترهل وضعف الأداء وتغير الأفكار والسياسات، وكذلك الشخصيات القيادية التي أصبح بعضها خارج الحزب بل وفي صفوف المعارضة. يعني ذلك أن أدوات أردوغان في التغيير والتجديد قد تكون غير كافية هذه المرة، وأنه قد يُواجَه بمقاومة داخلية من أوساط وتيارات وشخصيات مستفيدة من الوضع القائم، لا سيما إذا ما أصر على تغيير جذري وحقيقي يمكنه إرضاء الشارع وإقناعه. وعليه، ستكون نتائج المؤتمر المقبل أولى وأهم الإشارات على حجم التغيير المتوقع وبالتالي مصير الحزب مستقبلا إلى حد بعيد.
x.com/saidelhaj
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات تركيا العدالة والتنمية أردوغان التغيير تركيا أردوغان العدالة والتنمية انتخابات التغيير مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة صحافة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتخابات المحلیة الأخیرة حزب العدالة والتنمیة فی الانتخابات أردوغان فی هذه المرة فی البلاد أکثر من ما یعنی
إقرأ أيضاً:
الرئيس أردوغان: الشعب السوري الذي ألهم المنطقة بعزيمته على المقاومة قادر على إعادة إحياء بلده
أنقرة-سانا
أكد رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان أنه ليس هناك أدنى شك بقدرة الشعب السوري الشقيق الذي ألهم المنطقة والمظلومين بعزيمته على المقاومة، على إعادة إحياء بلده مرة أخرى.
وقال الرئيس التركي في عدة تغريدات على حسابه في منصة “إكس”: “أقدم التهنئة مرة أخرى إلى أخي العزيز الرئيس أحمد الشرع، وإلى الشعب السوري بأكمله على كفاحه وتحقيقه الانتصار، لقد تم فتح صفحة جديدة ليس في سوريا فحسب، بل في منطقتنا بأكملها، بعد 13 عاماً من الدماء والدموع، ونحن في تركيا، سنقدم الدعم اللازم إلى أشقائنا السوريين في المرحلة الجديدة أيضاً، مثلما لم نتركهم وحدهم في أيامهم البائسة والصعبة”.
وأضاف الرئيس أردوغان: “إن تركيا في هذه المرحلة الحرجة، تولي أهمية كبيرة لبناء نظام للبلاد بنهج شامل يحتضن الجميع، ويعكس إرادة السوريين”، لافتاً إلى أنه إضافة للمساعدات الإنسانية، فإن بلاده مستعدة أيضاً لتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار المدن المدمرة والبنية التحتية الحيوية في سوريا، باعتبار أنه كلما تسارعت التنمية الاقتصادية، اكتسبت العودة الطوعية للسوريين زخماً.
وشدد الرئيس أردوغان على أن سلسلة العقوبات الدولية المفروضة على سوريا تشكّل عقبة أمام تعافي البلاد من الناحية الاقتصادية والبنية التحتية، مبيناً أن الجهود التركية الرامية إلى رفع العقوبات أثمرت بتخفيف جزئي للعقوبات التي كانت مفروضة على النظام المخلوع، وأن تلك الجهود ستتواصل حتى تحقيق النتائج بشكل كامل.
وقال الرئيس أردوغان: “أثبتنا منذ اليوم الأول بخطوات ملموسة ودون تردد أننا نقف إلى جانب الشعب السوري، فبعد أن أعدنا فتح سفارتنا في دمشق، قمنا بفتح قنصليتنا العامة في حلب، كما بدأت الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى دمشق، إضافة إلى أننا بذلنا قصارى جهدنا على الصعيد الدبلوماسي خلال الشهرين الأولين للإدارة الجديدة، من أجل جعل صوتها ونواياها الصادقة مسموعة في المنطقة وعلى الصعيد الدولي.”
وأشار الرئيس أردوغان إلى قيام مسؤولين في الإدارة الجديدة في سوريا بزيارات إلى تركيا، وإجراء العديد من الوزراء والبيروقراطيين الأتراك زيارات إلى دمشق، ومواصلتهم القيام بذلك، مؤكداً العمل على تطوير العلاقات بين البلدين بشكل متعدد الأبعاد وفي جميع المجالات، بدءاً من التجارة إلى الطيران المدني، ومن الطاقة إلى الصحة والتعليم.
ولفت الرئيس أردوغان إلى أن أساس السياسة التركية تجاه الجارة سوريا منذ فترة طويلة، هو الحفاظ على سلامة ووحدة أراضيها، موضحاً أن اللقاء الذي جمعه مع السيد أحمد الشرع رئيس الجمهورية العربية السورية كان مبنياً على هذا المبدأ.
وقال الرئيس أردوغان: “أسعدني أن أرى أننا متفقون تماماً بشأن جميع القضايا تقريبا، ولقد قمت وأخي العزيز بتقييم الخطوات المشتركة التي يمكن اتخاذها من أجل إرساء الأمن والاستقرار الاقتصادي في سوريا، وبحثنا على وجه الخصوص الخطوات التي يجب اتخاذها ضد المنظمة الإرهابية الانفصالية التي تحتل شمال شرق سوريا وداعميها”.
وأضاف الرئيس أردوغان: “أكدت له أننا مستعدون لتقديم الدعم اللازم إلى سوريا في مكافحة تنظيمي “داعش” و”بي كي كي”، وكل أشكال الإرهاب”، مجدداً تأكيد وقوف بلاده إلى جانب السوريين في إطار السيطرة على المعسكرات في شمال شرق سوريا.
وتابع الرئيس أردوغان: “أود أن أعرب مرة أخرى عن ترحيبنا بالإرادة القوية التي أبداها أخي أحمد الشرع فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وأنا على ثقة أنه من خلال التحرك في نطاق التضامن بيننا، فإننا سنتمكن من ضمان أن يسود جو من السلام والأمن، خالٍ من الإرهاب في مناطقنا الجغرافية المشتركة”.