في افتتاحية أمام الاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني العربي ألقى الرئيس الصيني كلمة جديرة بالتوقف المطوّل عندها وتناولها بالتحليل العميق واستقراء مؤشراتها المباشرة وغير المباشرة المستقاة من رؤاه ليس فقط للعلاقات الصينية العربية ولكن للعالم برمّته. وسيستفيد منها بشكل كبير هؤلاء الذين يحاولون جاهدين أن يفسّروا أحداث الإبادة الشنيعة في فلسطين والحرب في أوكرانيا.

في هذا الخطاب كما في خطاباته كلّها يقف الرئيس الصيني كرجل دولة وقائد سياسي عالمي يقرأ الماضي ويكشف أسراره ورسائله العميقة من أجل الاسترشاد به لقيادة سفينة الحاضر وسط عالم متلاطم الأمواج واختيار التوجّه السليم لمستقبل واعد للبشرية بأكملها. في هذا الإطار فقد رأى الرئيس الصيني أن الصداقة القائمة بين الصين والدول العربية والروابط القائمة بين الشعب الصيني والشعوب العربية تنبع من التبادلات الودية منذ قرون بعيدة عبر طريق الحرير القديم والنضال المشترك من أجل نيل الاستقلال الوطني، ومن التعاون المبني على الكسب المشترك في عملية البناء الوطني.

 

من هذا المنظور انطلق الرئيس الصيني ليفنّد أفضل السبل لبناء مستقبل مشترك للشعبين الصيني والعربي يحقق طموحاتهما ويجسّد تطلّعاتهما المشتركة ويفتح عهداً جديداً للعلاقات الصينية العربية، ومن أجل خلق مستقبل جميل للعالم أجمع. في هذا الإطار ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، النبيلة والصعبة في آن، فإن الاحترام المتبادل هو الوحيد الذي يمكن أن يحقق العيش المتناغم، وإن الإنصاف والعدالة هما أساس الأمن الدائم. كما أكد أن حلول القضايا الساخنة يجب أن تسهم في الحفاظ على الإنصاف والعدالة وتحقيق الأمن والأمان الدائمين على أساس احترام مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة واحترام الخيارات المستقلة لشعوب العالم واحترام الواقع الموضوعي الذي تشكّل على مرّ التاريخ. وأن الأسس الثابتة لعالم أفضل تكمن في تحقيق المساواة والاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة والعيش المتناغم بين مختلف الحضارات على أسس السلام والتسامح.

 

أمّا الشرق الأوسط فقد قال الرئيس الصيني: إنه “منطقة تتمتع بإمكانيات مهمة للتنمية إلا أن نيران الحرب لا تزال تشتعل فيها”. بهذه العبارة الجزلة والمختصرة لخّص الرئيس الصيني المأساة التي حلّت بالأمة العربية منذ اكتشاف النفط والغاز في أراضيها ووقوعها تحت نير الاستعمار الغربي المعروف بتعطشه للحروب والإرهاب لنهب ثروات العرب، كما لخص أسباب شن الحروب الإرهابية والاحتلال والإبادة والتطهير العرقي التي مازالت مستعرة ضد أبناء هذه الأمة في أكثر من بلد وآخرها حرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين مدعومة بالمال والسلاح والإعلام الغربيّ.

 

وهكذا فإن الرؤية التي وضعها الرئيس الصيني للعلاقات الصينية العربية وللعالم برمّته هي النقيض المباشر لكل ما يؤمن به الغرب وما عمل على تنفيذه في العالم العربي وآسيا وأفريقيا طوال قرون. فالدول الغربية الاستعمارية التي استعمرت دول الشرق الأوسط وآسيا وافريقيا لم ترَ في هذه البلدان سوى ثرواتها القابلة للسرقة والنهب والمفيدة لصناعاتهم  وتقدم بلدانهم  في الشمال. ولكنهم لم يروا شعوب هذه البلدان إلا من نظرة استشراقية اخترعوها هم وأسسوا لها في إعلامهم وكتبهم وتاريخهم وصدّروها لنا كي نؤمن برؤيتهم الدونية لنا وليس برؤيتنا لأنفسنا، ممزوجة بتضخيم قدراتهم وتفوقهم والذي أيضاً أسسوا له في تاريخهم وإعلامهم حتى أصبح وكأنه حقيقة واقعة لا جدال فيها، وقد وصل هذا بهم إلى اختراع أسطورة “أرض بلا شعب” (أرض فلسطين) من أجل “شعب بلا أرض” (الصهاينة) كي تكون الصهيونية هي قاعدتهم المتقدمة في قلب الوطن العربي تفتك به على أكثر من مستوى وتخترع الحروب والفتن كي يبقى الغرب قادراً على نهب ثرواته ومنع أبنائه من التطور والاستقلال الحقيقي.

 

فلا مفردات في قاموسهم لما يتحدث به الرئيس الصيني من الاحترام المتبادل والمنافع المتبادلة والمصالح المشتركة والمستقبل المشترك، لأنهم ومنذ أن استعمروا واستوطنوا بلادنا ومنذ أن كانوا سادة تجار الرقيق عبر المحيط الأطلسي رأوا أنفسهم أسياد العالم وبقية أبناء الكون الذين هم في تعريفهم أقلّ منهم ذكاءً وقدرة على التطور ومجرد خدم لمخططاتهم ومشاريعهم. وقد توارثوا هذه النظرة الاستعلائية العنصرية لشعوب الأرض برمّتها ولجميع الدول؛ فإمّا أن يكون نظام الحكم في هذه الدول مؤمناً بتفوقهم وتابعاً لهم وخادماً لمصالحهم حتى على حساب مصالح شعبه وإمّا أنه سيكون عرضة للقتل والحروب والإبادة.

ولهذا فالغرب وعبر تاريخه، والآن من خلال ربيبته الصهيونية، إمّا يقوم بزرع الفتن واختلاق الحروب الأهلية وتقسيم البلدان ودبّ النزاعات وإمّا أنه يشن حرب إبادة كما يجري اليوم في فلسطين أو حرباً إرهابية كما حدث في سورية والعراق وليبيا والجزائر واليمن لمنع هذه الدول من استخدام ثرواتها وتحقيق التقدم والازدهار الذي تطمح إليه وتستحقه شعوبها.

 

إنّ حرب الإبادة التي شنّتها الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة وعموم فلسطين قد برهنت أن الغرب لا يقيم وزناً لقوانين ومواثيق دولية ولا حتى لآراء شبابهم وشعوبهم . لقد برهنت هذه الإبادة أن الإعلام الغربي متصهين وأن ما يقوم بالترويج له هو مجموعة من الأكاذيب التي تخدم مصالحهم وأن الديمقراطية كلمة جوفاء لا مرتسم حقيقياً لها في الواقع الغربي وأن الأنظمة الغربية مستعدة لدعم أي إجرام ولقمع أي تحرك ضده للإبقاء على سلطة المال والسلاح والهيمنة على مقدّرات وضمير العالم.

 

ولعلّ هذا ليس مفاجئاً أن يفشل المحللون الغربيون في فهم جوهر ما تحدث به الرئيس الصيني وقراءة أبعاده الرؤوية والمهمة لصالح البشرية جمعاء. بحيث أن تعليقاتهم وتفسيراتهم تدفع إلى الضحك والاستهزاء بالفعل وكأنّك بطالب ابتدائي يقيّم سردية سياسية رؤوية عملاقة، فقد قال أحد صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي: “إن الصين ترى في الصراع الدائر فرصة ذهبية لانتقاد المعايير المزدوجة للغرب على الساحة الدولية ولتدعو إلى نظام عالمي بديل”.  مصدر آخر قال: ” لقد نصّبت الصين نفسها في تحالف مع العرب والجنوب الأوسع”.  مع أن الرئيس الصيني لا يهمل أبداً الإشارة للمستقبل المشترك للبشرية، بينما كل ما يدعو له الرئيس جو بايدن والقادة الغربيون هو أمن “إسرائيل” ربيبتهم وأداتهم الإرهابية المتقدمة للفتنة والصراع والاحتلال والإبادة رغم اقترافها أبشع مجازر، بحق أبرياء، شهدها التاريخ الحديث.

 

المطمئن في الأمر هو أن المنطق الغربي يبدو باهتاً وأجوف مقارنة بالمنطق القوي والمتجذّر والرؤوي وذي المصداقية للرئيس شي جينبينغ، والذي أصبح مقنعاً حتى للشعوب الغربية وخاصة لأجيالها الشابة، الأمر الذي بدأ يقلق الحكومات الغربية وإمبراطوريتها الإعلامية.

أ. د. بثينة شعبان الاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني 2024-06-03sanaسابق العدو الإسرائيلي يواصل اعتداءاته على البلدات في جنوب لبنان انظر ايضاً مجازر حضارات- بقلم: أ.د.بثينة شعبان

في زحمة المجازر الصهيونية والإبادة الجماعية التي ترتكبها بدعم من الحكومات الغربية المتصهينة وانتهاك كل …

آخر الأخبار 2024-06-03العدو الإسرائيلي يواصل اعتداءاته على البلدات في جنوب لبنان 2024-06-03هيئة مقاومة الجدار والاستيطان: 1127 اعتداء للاحتلال على الضفة الغربية خلال الشهر الماضي 2024-06-03وزير الموارد المائية يلتقي وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية 2024-06-03المكتب الإعلامي في غزة: حرب التجويع تهدد بموت أكثر من 3500 طفل في القطاع 2024-06-03حرب الإبادة الجماعية تدخل شهرها التاسع… شهداء وجرحى ودمار هائل 2024-06-03زلزال بقوة 6 درجات يضرب منطقة نوتو وسط اليابان 2024-06-03كلوديا شينباوم تفوز بالانتخابات الرئاسية المكسيكية 2024-06-03لتوطين برنامج المهارات الرقمية… إطلاق الشهادة السورية لأساسيات الحاسوب 2024-06-03انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي للطاقات المتجددة بكلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في جامعة دمشق 2024-06-03الخامنئي: عملية طوفان الأقصى شكلت ضربة قاصمة للكيان الصهيوني

مراسيم وقوانين الرئيس الأسد يصدر مرسومين بتنفيذ عقوبة العزل بحق قاضيين 2024-06-02 الرئيس الأسد يصدر مرسومين بتعيين أربعة محافظين جدد 2024-05-12 الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتحديد الـ 15 من تموز القادم موعداً لانتخابات أعضاء مجلس الشعب 2024-05-11الأحداث على حقيقتها ارتقاء عدد من الشهداء جراء عدوان إسرائيلي استهدف نقاطاً بمحيط حلب 2024-06-03 استشهاد طفلة وإصابة 10 مدنيين جراء عدوان إسرائيلي على المنطقة الوسطى وأحد الأبنية السكنية في بانياس 2024-05-29صور من سورية منوعات المسبار الصيني يهبط على سطح القمر بعد شهر على إطلاقه 2024-06-02 علماء روس يبتكرون طرفاً اصطناعياً للوجه والفكين 2024-06-01فرص عمل السورية للاتصالات تعلن عن مسابقة توظيف بفرعها باللاذقية 2024-05-12 السورية للاتصالات تعلن عن مسابقة لشغل عدد من الوظائف في الإدارة المركزية 2024-04-24الصحافة قراءة في خطاب الرئيس شي جينبينغ-بقلم: أ.د.بثينة شعبان 2024-06-03 كاتب بريطاني: “إسرائيل” تتحدى القوانين الدولية بدعم من أمريكا 2024-06-02حدث في مثل هذا اليوم 2024-06-033 حزيران 1965- رائد الفضاء الأميركي إدوارد وايت يقوم بأول خروج إلى الفضاء 2024-06-022 حزيران 1875- ظهور الهاتف لأول مرة على يد المخترع ألكسندر غراهام بيل 2024-06-011 حزيران 1980- شبكة الأخبار بالكابل “سي إن إن” تبدأ بثها لتكون أول قناة إخبارية في العالم 2024-05-3131 أيار-اليوم العالمي للامتناع عن التدخين 2024-05-3030 أيار 2008- إقرار معاهدة حظر الأسلحة الانشطارية 2024-05-2929 أيار- يوم قوى الأمن الداخلي في سورية
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2024, All Rights Reserved

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

كلمات دلالية: الرئیس الصینی من أجل

إقرأ أيضاً:

بين الابتكار والسيطرة.. هيمنة الذكاء الاصطناعي الصيني

ترجمة: نهى مصطفى -

خلال شهرين من إصدار شركة صينية غير معروفة تدعى DeepSeek نموذجًا جديدًا قويًا للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بدأ هذا الاختراق بالفعل في تحويل سوق الذكاء الاصطناعي العالمي.

يتميز DeepSeek-V3، كما يُطلق على نموذج اللغة الكبير المفتوح (LLM) الخاص بالشركة، بأداء ينافس أداء النماذج من أفضل المختبرات الأمريكية، مثل ChatGPT من OpenAI و Claude من Anthropic و Llama من Meta ، ولكن بجزء صغير من التكلفة. وقد أتاح هذا للمطورين والمستخدمين في جميع أنحاء العالم الوصول إلى الذكاء الاصطناعي المتطور بأقل تكلفة.

في يناير، أصدرت الشركة نموذجًا ثانيًا، DeepSeek-R1، يُظهر قدرات مماثلة لنموذج o1 المتقدم من OpenAI مقابل خمسة بالمائة فقط من السعر. ونتيجة لذلك، يشكلDeepSeek تهديدًا لقيادة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يمهد الطريق للصين للحصول على مكانة عالمية مهيمنة على الرغم من جهود واشنطن للحد من وصول بكين إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.

يُبرز الصعود السريع لشركةDeepSeek حجم التحديات والمخاطر في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فإلى جانب الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية الهائلة لهذه التقنية، ستتمتع الدولة التي تطوّر نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية، التي تشكّل العمود الفقري لتطبيقات وخدمات المستقبل، بنفوذ واسع النطاق. ولا يقتصر هذا النفوذ على المعايير والقيم المضمّنة في هذه النماذج فحسب، بل يمتد أيضًا إلى منظومة أشباه الموصلات، التي تعد الركيزة الأساسية والبنية التحتية التقنية والمعالجة الحسابية اللازمة لتشغيل وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وتشمل الأجهزة والبرمجيات التي تمكّن الذكاء الاصطناعي من تنفيذ العمليات المعقدة بكفاءة. وتعكس القناعة الراسخة لدى كل من الصين والولايات المتحدة بأن هذه التقنيات قادرة على تحقيق تفوّق عسكري، الأهمية الاستراتيجية للريادة في هذا المجال وضرورة الحفاظ عليها على المدى الطويل.

ومع ذلك، فإن التركيز على أداء نموذج DeepSeek-V3 وتكاليف تشغيله المنخفضة قد يُغفل نقطة أكثر أهمية. فإحدى العوامل الرئيسة التي ساهمت في سرعة انتشار نماذج DeepSeek هي أنها مفتوحة المصدر، مما يتيح لأي شخص تنزيلها وتشغيلها ودراستها وتعديلها والبناء عليها، مع تحمّل تكلفة الطاقة الحاسوبية فقط. في المقابل، تكاد جميع نماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية المماثلة أن تكون ملكية خاصة، مما يحدّ من استخدامها ويزيد من تكاليف تبنيها من قِبل المستخدمين.

بدأت شخصيات بارزة في مجتمع الذكاء الاصطناعي الأمريكي يدركون بشكل متزايد المشكلات الناجمة عن التركيز على النماذج المغلقة المصدر. ففي أواخر يناير، أقرّ سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، بأن الشركة ربما «أخطأت في قراءة التاريخ» بعدم تبنيها نهج الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر. وفي فبراير، توقّع إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google، مستقبلًا يُهيمن فيه مزيج من النماذج المفتوحة والمغلقة على التطبيقات اليومية. من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاعتماد كليًا على نماذج الذكاء الاصطناعي المغلقة التي تطورها الشركات الكبرى لمنافسة الصين، مما يستدعي من الحكومة الأمريكية تكثيف دعمها للنماذج مفتوحة المصدر، حتى مع استمرار جهودها في تقييد وصول الصين إلى التقنيات المتقدمة، مثل أشباه الموصلات وبيانات التدريب.

للحفاظ على هيمنتها، تحتاج الولايات المتحدة إلى وضع برنامج شامل لتطوير ونشر أفضل النماذج مفتوحة المصدر. لكن في الوقت ذاته، يجب عليها ضمان أن تظل الشركات الأمريكية الرائدة هي التي تبني أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر كفاءة، والتي يُشار إليها أحيانًا باسم «أنظمة الحدود»، والتي غالبًا ما يتم تطويرها ضمن شركات خاصة ذات تمويل ضخم.

إلى جانب ذلك، ينبغي على واشنطن تبنّي أجندة سياسية أوسع تعزز مكانة الذكاء الاصطناعي الأمريكي مفتوح المصدر على الساحة الدولية، وتدعم بناء البنية التحتية الأساسية اللازمة للحفاظ على ريادتها في هذا المجال. ولا يقتصر ذلك على تحفيز تطوير النماذج مفتوحة المصدر داخل الولايات المتحدة، بل يشمل أيضًا تسهيل وصولها إلى المساهمين والمستخدمين في المجال الصناعي والأكاديمي والقطاع العام في الدول المتحالفة معها.

بدون هذه الخطوات الاستراتيجية، يُشير مشروع DeepSeek إلى مستقبل محتمل قد تستخدم فيه الصين نماذج مفتوحة المصدر قوية ومنخفضة التكلفة لتجاوز الولايات المتحدة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية.

لطالما كان الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر عاملًا رئيسيًا في التقدم التقني، رغم قلة الاهتمام السياسي به مقارنة بالأنظمة المغلقة. منذ ظهور ChatGPT عام 2022، بدأ يُنظر إلى نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية على أنها بمثابة «نظام تشغيل» جديد، حيث تعمل كجسر بين اللغة البشرية والبيانات التي تعالجها الآلات. وكما استمر نظام Linux مفتوح المصدر بجانب أنظمة احتكارية مثل Windows، برزت نماذج مفتوحة مثل Llama إلى جانب ChatGPT، مما يمهّد لانتشار أوسع للذكاء الاصطناعي. هذا التطور دفع بعض الباحثين لوصف المرحلة الحالية بأنها «لحظة لينكس» في مجال الذكاء الاصطناعي.

على مرّ العقود، ازدهرت مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر، مثل لينكس، بفضل مساهمات المطورين حول العالم، وهو ما أدى إلى تطويرها بسرعة وتحسين أمنها، حيث يمكن لأفضل المهندسين اختبارها وتحسينها بشكل متواصل. كما أن كونها خاضعة لإدارة أمريكية وأوروبية جعلها أحد عوامل تفوّق الغرب في مجالات عدة، مثل: أنظمة التشغيل، متصفحات الويب، قواعد البيانات، التشفير، وحتى لغات البرمجة.

تُهيمن Nvidia على صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي بفضل وحدات معالجة الرسومات (GPUs) وبرنامجها الحصري CUDA، مما يمنحها موقعًا متقدمًا في هذا المجال. ورغم القيود الأمريكية، استخدمت الصين رقائق Nvidia في تدريب نماذج DeepSeek، لكنها تسعى حاليًا للاعتماد على رقائق Ascend من هواوي، مما قد يُقلص الحاجة إلى الرقائق الأمريكية. إذا حققت النماذج الصينية انتشارًا واسعًا بدعم حكومي، فقد يُجبر المستخدمون عالميًا على التحول إلى شرائح هواوي، مما سيُضعف شركات مثل Nvidia و TSMC ويمنح الصين نفوذًا أكبر في صناعة الرقائق. هذا السيناريو يُشبه استحواذ الصين على سوق بطاريات الليثيوم، حيث قد تؤدي استراتيجيتها إلى إعادة تشكيل سلسلة التوريد العالمية، مُهددة الهيمنة الغربية في هذا القطاع. كيفية مواجهة هذا التهديد

لمواجهة النفوذ الصيني في الذكاء الاصطناعي، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز تطوير ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، مع التركيز على دعم الجامعات والشركات والمختبرات الوطنية. رغم ارتفاع الاستثمارات في هذا المجال، لا تزال متواضعةً مقارنةً بالتمويل الإجمالي للذكاء الاصطناعي. لذا، يجب تقديم حوافز حكومية لدعم المشاريع المتوافقة مع الشرائح الغربية، وتوسيع البرامج البحثية الوطنية، والاستفادة من موارد وزارتي الطاقة والدفاع. كما ينبغي تعزيز التعاون مع مبادرات كبرى مثل Stargate، التي تخطط لاستثمار 500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي الأمريكي خلال السنوات القادمة.

يجب على واشنطن تعزيز النظام البيئي التكنولوجي الأمريكي لدعم الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر عبر تطوير نظام حوسبة متكامل يتيح للمطورين الاستفادة من أفضل الشرائح الغربية، مما يعزز الطلب عليها ويحد من المنافسة الصينية. وينبغي ترسيخ تفوق التقنيات الغربية، إلى جانب قيادة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. ورغم هيمنة بنية Transformer، فإن مناهج جديدة مثل Structured State Space Models ونماذج Inception diffusion تُظهر إمكانات مستقبلية واعدة، مما يستدعي دعمها لضمان الريادة الأمريكية في هذا المجال.

ينبغي على واشنطن تجنب فرض قيود واسعة على تصدير نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، وبدلًا من ذلك، تقديم حوافز لضمان توافقها مع الشرائح الغربية. كما يجب على لجنة التجارة الفيدرالية مراعاة دور شركات التكنولوجيا الكبرى في تعزيز الريادة الأمريكية عند النظر في قضايا مكافحة الاحتكار. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التصدي لمحاولات الشركات الصينية خفض أسعار نماذج الذكاء الاصطناعي لإضعاف المنافسة، عبر دراسة فرض تدابير مكافحة الإغراق إذا تبيّن أن هذه الممارسات تهدف إلى إقصاء الشركات الأمريكية.

يجب على الولايات المتحدة تعزيز تنافسها مع الصين في الأسواق العالمية، حيث قد تستخدم بكين نماذج الذكاء الاصطناعي كأداة للنفوذ الاقتصادي. كما ينبغي لواشنطن التحقيق في إمكانية استخدام DeepSeek بيانات من GPT-4 دون تصريح، ودراسة تطبيق قاعدة «المنتج الأجنبي المباشر» على مخرجات الذكاء الاصطناعي، لمنع الشركات الصينية من الاستفادة من النماذج الأمريكية الرائدة، كما فعلت مع معدات تصنيع أشباه الموصلات.

ستكون هذه الإجراءات أكثر فاعلية إذا تبنتها دول أخرى. لذا، تحتاج واشنطن إلى تنسيق سياساتها مع شركائها في آسيا وأوروبا ومناطق أخرى لإنشاء كتلة دولية قادرة على إبطاء انتشار النماذج الصينية. ورغم ضخامة السوق الصينية، فإنها تظل صغيرة مقارنة بالسوق العالمية، وهو المجال الأكثر أهمية الذي يجب أن تركز عليه الولايات المتحدة لضمان هيمنة النظام البيئي الغربي للحوسبة والذكاء الاصطناعي في المستقبل.

ورغم أن القيود الأمريكية على تصدير الشرائح المتقدمة حدّت من قدرة الصين على الوصول إليها، فإن بكين ترى في الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، المبني على تقنيات أقل تقدمًا، مسارًا استراتيجيًا لاكتساب حصة سوقية أكبر. ومن المرجح أن تستمر النماذج الصينية في التحسن عبر الابتكار الخوارزمي، والتحسينات الهندسية، والتصنيع المحلي للرقائق، بالإضافة إلى أساليب غير مشروعة، مثل التدريب غير المصرح به على مخرجات النماذج الأمريكية، والتحايل على ضوابط التصدير. ومع استمرار الصين في تحسين أداء نماذجها وأسعارها، فإن الحاجة إلى استراتيجية أمريكية متماسكة تصبح أكثر إلحاحًا.

يجب على واشنطن أن تتبنى استراتيجية استباقية تضمن توفير بدائل أمريكية متفوقة فور إصدار الصين لنماذجها الجديدة، ما يعزز الريادة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي. يتطلب ذلك تحسين الإطار التنظيمي، مثل ذلك الذي وضعته إدارة بايدن لضبط انتشار التكنولوجيا، إلى جانب تسخير الموارد الحكومية لدعم النماذج المتقدمة قبل إتاحتها للعامة. تقف إدارة ترامب المقبلة أمام «لحظة لينكس» حاسمة، حيث يمكنها إما ترسيخ الهيمنة الأمريكية على الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر، أو المخاطرة بفقدان النفوذ لصالح الصين، التي قد تعيد توجيه السوق نحو تقنياتها الخاصة.

جاريد دانمون هو المستشار الأول للمبادرات الاستراتيجية في وحدة الابتكار الدفاعي (DIU)

نشر المقال في Foreign Affairs

مقالات مشابهة

  • هل تخضع اليمن؟ قراءة في وهم التحالف الصهيوأمريكي
  • الرئيس السيسي: المجتمع عانى 3 سنوات بعد المشاكل التي واجهت الشرطة في 2011
  • بين الابتكار والسيطرة.. هيمنة الذكاء الاصطناعي الصيني
  • هل يجوز قراءة القرآن من المصحف في صلاة التراويح؟ الإفتاء تجيب
  • الرئيس الصيني يرفض حضور قمة في بروكسل.. ما السببب؟
  • هل ثواب قراءة القرآن من الهاتف أقل من المصحف الورقي؟.. الإفتاء تجيب
  • الحرب ستشتعل في الضعين؛ قراءة في المشهد القادم!
  • الرؤية الروسية للفكر الاجتماعي والاشتراكية في أدب دوستويفسكي.. قراءة في كتاب
  • تقرير: أكثر من 12 مليون منشور إسرائيلي تحريضي ضد الفلسطينيين خلال عام 2024
  • هل يشترط ختم القرآن في رمضان؟.. تعليق الفقهاء