المصحّحون أشخاص يتمتّعون بصفات لا تتوافر عند الجميع، مثل: الذكاء والدقة والفاعليّة مع درجة عالية من الانتباه.. تجدهم يحملون أقلامهم الحمراء، ويتفحّصون أوراق الامتحان بتركيز، ثم يمنحونها تقييمًا موضوعيًا وَفق معايير محددة.

يكمن جوهر عمل المصحّحين في البحث عن الأخطاء مهما كانت صغيرة أو مخفية ببراعة بين التفاصيل، وعن الأشياء غير المكتملة التي قد تبدو جيدة لأوّل وهلة.

. يستعملون اللون الأحمر لجعلها بارزة للناظرين، ثم يصدرون تقديرَهم النهائي بكل ثقة.

لذا فإنّهم يمتلكون موهبة عجيبة في اكتشاف أصغر الأخطاء، ولا تلهيهم في المقابل الكثير من الأشياء الثانوية وغير المهمة:

فهم لا يميّزون مثلًا بين متعلم يحب المادة ويعشق تعلمها، وآخر هدفه الأساس هو اجتياز الامتحان. ولا يكترثون لمتعلم بذل جهدًا كبيرًا وطوّر قدراته ليستطيع اجتياز الامتحان بكفاءة، أو ثانٍ يصارع الفقر والمشاكل الأسرية ليستطيع فقط حضور الامتحان، أو ثالثٍ أهدته الحياة كل الفرص التي يحتاجها ومع ذلك تجده أكثر هؤلاء تذمرًا!

المصححون، لا يكترثون للجهد المبذول، ولا للنيات الحسنة ولا للتضحيات المقدمة بسخاء.. لأنّ مهمتهم المقدسة هي البحث عن الأخطاء، وإبرازها مستعينين باللون الأحمر المثير الذي ينبه الجميع إلى وجود خطب يشين الإنجاز، ثم إصدار تقييمهم النهائي بناء على ذلك..

المصحّحون كثر، يحملون أقلامهم الحمراء ويتجوّلون في كل مكان:

في كل مقهى يجلس هؤلاء بأقلامهم الحمراء ويصححون كل شيء، من ملابس المارة، إلى أحوال زملائهم وجيرانهم، مرورًا بشؤون المدينة ووصولًا إلى تقلبات السياسة الوطنية وحتى الدولية.. ولا أحد منهم انتبه إلى أن حياته أصلًا مليئة بالأخطاء الكبيرة، بل ليس لبعضهم أصلًا إنجازات تصحح على صفحة حياته، وقد تجد بينهم من يمكن اعتبار حياته بأكملها "خارج الموضوع"! في كل جلسة عائلية، تخرج الأقلام الحمراء وتبدأ جلسة تصحيح جماعية (حرصًا على الدقة طبعًا) وتتنوّع القائمة الطويلة التي لا تترك أحدًا في حاله: فكل من أتى دوره من أفراد العائلة والأقارب الغائبين عن الجلسة؛ تتولى اللجنة الموقرة كشف أخطائه الفادحة في تدبير شؤون حياته، وتقترح ما كان يفترض به فعله لكنه، لجهله أو للشر الكامن فيه، لم ينتبه إليه ولم يقم به. ويظهر أن اللجنة الموقرة هي الوحيدة في العائلة التي تعرف كل شيء ولا تخطئ أبدًا! في الجامعة، كثيرًا ما أصادف بضعة مصححين يلتقون من حين إلى آخر، يستخرجون أقلامهم الحمراء، ويبدؤون بتصحيح ندوات الزملاء، ومؤتمراتهم، وجميع أنشطتهم العلمية.. وهم بارعون في استخدام معايير تصحيح دقيقة، مثل التوقيت المناسب، ومصلحة الطلبة، وحسن تدبير موارد الجامعة، والتنسيق بين بنيات البحث، واحترام التخصص. وتستمر جلسة التصحيح التي قد يُخصَّص لها أحيانًا وقت إضافي في المقهى.. ومع ذلك فإن هؤلاء، لانشغالهم بضمان الدقة العالية في التصحيح، لا يملكون – مع الأسف – وقتًا لتنظيم مؤتمرات وملتقيات نموذجية يسترشد بها الآخرون ويستلهمون منها. وفي مواقع التواصل الاجتماعي، يجتمع فيها خبراء التصحيح من الفئة العليا، وسأخبركم كيف استحقوا هذا التصنيف بعد أن جمعوا المهارات الثلاث: فهم، أولًا، يمارسون التصحيح الآمن والمريح من خلف الشاشات، وهو تصحيح لا تبعات له، ولا يتطلب منهم جهدًا لإصلاح الواقع. بعضهم بأسماء مستعارة، وآخرون بأسمائهم الحقيقية، ولا يتركون أحدًا في حاله؛ ولكثرتهم وتنوّعهم، تجد منهم المصححين للشيء والمصححين لنقيضه، فتتحيّر بينهم وتتوه! وهم، ثانيًا، يتجولون بين التدوينات، فإن وجدوا تدوينة بليغة راقية لم يهدأ لهم بال حتى يعلقوا مصححين؛ ولا يبالوا إن أنقص تعليقهم من جمالها وبلاغتها، أو ناقض روحها وما ترمي إليه؛ أو حتى إن جرح ضيوف المدون وأصدقاءه من المعلقين الداعمين والمهنئين. وهم، ثالثًا، إن لم يجدوا تدوينة تمتلك من السحر والجمال ما يستحق التصحيح، بحثوا عن تصحيحات المصححين الآخرين فصححوها أيضًا!

وراء كل مسار ناجح، في التجارة أو السياسة أو العلم أو الفن أو في أي مجال آخر.. جيش من المصححين المتطوعين، يتفحصون أوراق الناجحين بدقة وبراعة، لكنهم مع الناجحين لا يكترثون للبحث عن الأخطاء، لأنهم يعرفون أصلًا أنها ستكون نادرة أو منعدمة، هم يبحثون هذه المرّة عن مؤشرات "الغش" و"عدم الاعتماد على النفس"، ولا يهدؤون، إلا بعد اكتشاف من ساعد أولئك الناجحين ودعمهم، ليثبتوا أن النجاح ليس ثمرة مجهود وتميز، بل هو ببساطة بفضل دعم الآخرين!

ويستمرّ المصححون بالتجول في المجتمع، حاملين أقلامهم الحمراء، بحثًا عن الأخطاء، يكتشفونها، ويحيطونها بدوائر حمراء لتصيرَ واضحة جلية للجميع، ويوقنوا أن أي عمل مهما كان رائعًا، هو غير مكتمل ولا يستحق الاحتفاء، ولا ينبغي لصاحبه أن يفرح به!

أعترف لكم أنني تخلصت من قلمي الأحمر منذ فترة طويلة، وأحتفظ فقط بقلم أزرق للإنجاز. لكنني مع ذلك، ودون أن أشعر، لا أدري كيف يتسلل قلم أحمر أحيانًا إلى جيبي، فأنساق مع الآخرين وأستخرجه من حين إلى آخر لأبدأ في التصحيح.

لذلك، فإنّ صراعي الحقيقي ليس مع المصححين المنتشرين في كل مكان، بل مع نفسي، لأنني أحاول بجهد كسر قلمي الأحمر، والتركيز على صفحة حياتي لتجويدها قدر ما أستطيع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات عن الأخطاء

إقرأ أيضاً:

إزاي تتجنب ارتفاع فاتورة الكهرباء في شهر رمضان.. احذر الأخطاء الشائعة

مع قدوم شهر رمضان المبارك يزداد استخدام الأجهزة المنزلية في هذا الشهر الكريم، مثل الميكرويف والثلاجة والمكنسة الكهربائية والسخان وغيرها من الأجهزة، نظرا لتحضير الأطعمة المختلفة والحلويات والمقبلات وغيرها، ما يؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع استهلاك الكهرباء في الشهر الكريم، ولذلك نوضح في هذا التقرير عدة نصائح لتجنب ارتفاع الفاتورة وأيضا نوضح الأخطاء الشائعة التي قد تسبب في حدوث هذا الأمر.

خطوات لتجنب ارتفاع فاتورة الكهرباء في شهر رمضان المبارك 

هناك العديد من النصائح التي يجب على الأشخاص اتباعها عند استخدم الأجهزة المنزلية بكثرة في شهر رمضان المبارك، ومنها عدم إنارة المصابيح  في فترة النهار، ويفضل الاعتماد على ضوء الشمس كما يجب عدم ترك المصابيح مضاءة في الغرف الخالية ويفضل شراء اللمبات الموفرة للطاقة، وفقا لما ذكره جهاز تنظيم مرفق الكهرباء عبر حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

استخدام المياه الساخنة أثناء غسل الملابس

من ضمن الخطوات التي يجب على الأشخاص اتباعها لتجنب ارتفاع فاتورة الكهرباء في شهر رمضان المبارك، هى تجنب استخدام المياه الساخنة أثناء غسل الملابس التي تكون متسخة للغاية، لأنها تستهلك من الكهرباء، لذلك يفضل استخدام المياه الباردة، ومن الضروري أيضا فصل الكهرباء عن الغسالة وغيرها من الأجهزة المنزلية حال عدم استخدام.

لم تقتصر الخطوات التي تساعد على التقليل من استهلاك الكهرباء في شهر رمضان المبارك عند هذا الحد، ولكن جاءت من ضمنها هى عدم ترك باب الثلاجة مفتوحا، لذلك من الضروري التأكد من غلق الباب جيدا لتنجب  تسرب الهواء البارد من داخلها وأيضا دخول هواء ساخن إليها.

يفضل أن يتم ترتيب الأطعمة جيدا في الفريزر وذلك من أجل تقليل خروج الهواء البارد ودخول الهواء الساخن إلى داخل الثلاجة، كما أنها يفضل أن تكون ممتلئة تمامًا مع ملء الفراغات بأكياس مكعبات الثلج.

مقالات مشابهة

  • إزاي تتجنب ارتفاع فاتورة الكهرباء في شهر رمضان.. احذر الأخطاء الشائعة
  • الأحوال المدنية: تصحيح الأخطاء الإملائية في الهويات الوطنية
  • “التهجير ليس مزحة”.. نواب أمريكيون يرفعون بطاقة حمراء في وجه ترامب انتصارا لغزة / فيديو
  • “المارشميلو المشوي”.. كوكب يمطر معادن يتحدى النظريات التقليدية حول العمالقة الغازية الحارة
  • أستاذ علوم سياسية: مصر وضعت خطوطا حمراء أمام مخطط التهجير.. ودورها غير قابل للمزايدة
  • اكتشاف يقلب المفاهيم التقليدية حول الكوليسترول الجيد
  • أصحاب المقاهي في سلا يهددون بالإغلاق احتجاجًا على الضرائب المفرطة
  • الاتحاد العراقي لكرة السرعة يوقع بروتوكول تعاون مشترك مع الاتحاد اللبناني للرياضات التقليدية
  • مجمعات للصناعة التقليدية مغلقة ومهجورة بعد تشييدها بالمال العام.. وكاتب دولة يعلن اللجوء إلى القضاء
  • الدعم السريع انتهى ومات، الاحزاب التقليدية انتهت وشبعت موت