لجريدة عمان:
2025-01-01@14:34:10 GMT

الإنسانية والتعوّد والفولاذ

تاريخ النشر: 3rd, June 2024 GMT

عاش نيكولاي أوستروفسكي (1904 -1936) حياة قصيرة حين أقعده المرض في السرير وهو شاب في العشرين من عمره بعد الجراح الممضة وفقدان البصر التي أصيب بها في جبهات الحرب الأهلية، وكانت صحته تتردى يومًا بعد يوم، في تلك الفترة بدأ يكتب رواية «كيف سقينا الفولاذ» الصادرة عام 1934 التي تعد من عيون الأدب السوفييتي، الرواية التي تحدث بها عن الشباب والحب والكفاح في سبيل الحياة وفيها يقول: «الحياة أعز شيء للإنسان إنها توهب له مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها ولا يلسعه العار على ماض رذل تافه، وليستطع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية».

كثيرا ما يحدث أن تفقدنا الألفة الدهشة، ويفقدنا التكرار لذة الانفعال الشعوري المصاحب للمرة الأولى، يحدث أن يقلّ تأثرنا ثم يختفي تدريجيا بتعودنا على أحداث كثيرة تمر علينا لتتحول من الندرة إلى الألفة، ومن الاستهجان إلى التعوّد، ومن التأثير إلى انتزاع الأثر؛ من هذه الفكرة تحديدا وعبرها تتم برمجتنا عصبيا ونفسيا بمعايشتنا لسنوات قائمةً من الأحداث والأخبار والمشاهد المرئية والمسموعة التي تتلقاها أجهزتنا العصبية وأرواحنا المتعبة لنختزنها في أعماقنا ما قد يحرك ردود أفعالنا ذات مرة أولى، وسلوكنا ذات صدمة للتلقي لا نلبث أن نتجاوزها بعد التكرار العاشر (أو ربما قبل ذلك؛ حسب قدرة كل منا على الخزن والتجاوز)، وقد يكون ذلك من الخير حين نتحدث عن مساحات السلام الداخلي وضرورة تخلص الإنسان من المخزون السلبي وطاقات الحزن والخوف والفزع، لكن لذلك مآلات نفسية سلوكية خطيرة قد تتجاوز فكرة التشرب والتأقلم والتجاوز إلى فكرة أخطر في استمراء الألم وتعود القهر وألفة غير المألوف.

لا يمكن إخفاء تأثرنا العظيم قبل سنوات من خبر صادم يتضمن مشهد إنسان يعاني ويلات الحروب أو المجاعة، طفل يتألم من طلقة طائشة، أو عجوز يصرخ بعد تهجير أو تجويع، كما لا يمكننا إخفاء أن أحداث العالم في العقد الأخير الذي نعايشه أمطرتنا بكثير من مشاهد أكثر وجعا، وصرخات أعلى دويا دون أن تترك الأثر ذاته، وليس ذلك أننا صرنا بلا شعور، بل هو اليقين بأن ثمة برمجة (سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة) قد حدثت لشعورنا لحظة التلقي، وسلوكنا أوان استيعاب الحدث، كما لا يمكن إنكار قدرة التكرار على تخدير الوجع وتعوّد الموجع كما لو أننا فعليا نسير إلى مرحلة فقدان التأثر وتجميد الانفعال.

ما يحدث اليوم من أحداث عالمية تهاجم أجهزتنا العصبية تحيل بعضنا إلى العزلة بغية الاستشفاء واستعادة ما بقي من قدرة على الشعور والتفاعل، هروبا من نمط التكرار وحال التعود ولو إلى حين، كما أنها أحالت بعضنا إلى آلية الاستقبال وبلاهة التلقي إذ يصل الإنسان في هذه المرحلة إلى تحييد مشاعره وتجميد انفعالاته ليمر على المآسي مرورًا وظيفيًا عابرًا دون أن يشعر بأنه في الحقيقة وقع ضحية لعصابة خفيّة إجرامية تسعى لسرقة محفزات جهازه العصبي وقدرته الإنسانية على التأثر المرتبطة كذلك بقدرته على التأثير، فيمضي لا شعوريا إلى مرحلة لاحقة من تحول إنسان هذا العصر إلى آلة يستنزفها الواقع، ويستهلكها نمط الحياة المادية البالية.

إن ما نمر به من أحداث يومية شخصية أو محلية أو عالمية يغبّش -مع كثرته- على قدرة عقولنا على الاستيعاب والتحليل، وقدرة أرواحنا على التأقلم والتعود، فهل تصدمنا بعد كل ذلك حقيقة أننا نسير إلى تشييء أرواحنا وقولبة ردود أفعالنا لنكرر ما كنا نستنكر من تحول بعضنا أفرادا أو مؤسسات إلى مجرد قوالب ناطقة مكررة كلمات مثل تنديد، استنكار، قلق، حذر، وغيرها من كلمات نحاول بها استنطاق الميت من مشاعرنا والمحنّط من ردود أفعالنا؟!إن خطورة ما يعايش شباب اليوم هو التركيز على المادة، واستنزاف طاقات كل من العقل والروح في سبيل الوصول إلى المادة التي سنكتشف جميعا بعد أمد طويل أنها ليست ما كنا نبغي، ولا هي غاية الساعي في استنزاف أيامه واستهلاك عمره كاملا دون تبني رأي، أو اعتناق عقيدة.

لعلّ بعض الأحداث السياسية الكبرى اليوم أسلمتنا إلى يقين عودة الحياة إلى آلة الجسد، وعودة التأثر إلى قالب الحياة الاستهلاكية البائسة، تلك الأحداث أحدثت ضجّةً هائلةً، وردات فعل جماهيرية مدهشة ليس لتضمنها وجعًا إنسانيًا عظيمًا وحسب، بل لقدرتها العميقة على بعث الميت من روحانيات الناس، والكامن المقولب من ردود أفعالهم ليمضوا في نصرتهم للموجوعين دون تلفت إلى خسارات كانوا يكبرونها بالأمس، أو تفكّر في ماديات استصغروها اليوم بعد احتفائهم الجماعي بإدراكهم أن إنسان هذا الكون المستنزف المتعب ما زال قادرًا على التوجع لأجل إنسانيته بعيدا عن كل ماديات العالم، وأن هذه القدرة وحدها هي من تضمن له ولغيره من البشر النجاة أوان تكامل الناس وتحلقهم حول أهداف إنسانية عليا تنتصر للحياة وتدرك مغبّة وقوع البشر ضحايا قسوة عجلات الوقت المادي الاستهلاكي.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

تفاقم المأساة الإنسانية في قطاع غزة جراء الأمطار والبرد الشديد (شاهد)

تتصاعد حدة المأساة الإنسانية في قطاع غزة مع تواصل هطول الأمطار الغزيرة في ظل معاناة النازحين تحت ظروف معيشية متردية جراء العدوان الإسرائيلي، ما أسفر عن استشهاد 7 أطفال بسبب البرد القارس فضلا عن تعرض عشرات الخيام لأضرار جسيمة.

وكشفت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" عن تعرض أكثر من 100 خيمة في منطقة خانيونس في قطاع غزة لأضرار جسيمة بعدما غمرتها مياه الأمطار الغزيرة.

#Gaza: heavy rain continues, tripling the misery.

•⁠ ⁠Khan Younis: extensive damage with over 100 tents flooded.
•⁠ ⁠Around 500 families still live along the Gaza shoreline.

Displaced people, already living through the unlivable due to the war, are now battling heavy… pic.twitter.com/f2nnMrQZsZ — UNRWA (@UNRWA) December 31, 2024 هنا غزة
هنا الخيام،
هنا الموت الزؤام..! pic.twitter.com/L4WID7whBD — أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) December 31, 2024
وأشارت الوكالة في بيان عبر حسابها الرسمي على منصة "إكس"، إلى أن أكثر من 500 أسرة فلسطينية لا تزال تعيش على طول ساحل قطاع غزة.

وشددت الوكالة الأممية على أن "النازحين الذين يعيشون بالفعل في ظروف غير صالحة للعيش بسبب الحرب، يكافحون الآن العواصف المطرية الغزيرة"، مؤكدة أهمية أن "تصل المزيد من المساعدات الإنسانية المنتظمة إلى غزة لمساعدة الناس على البقاء دافئين هذا الشتاء".


في السياق ذاته كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" عن استشهاد 7 أطفال خلال الأيام الأخيرة بسبب البرد القارس في قطاع غزة، موضحة أن احتياجات الأسر في ظل هذه الظروف "هائلة".

وكان التوأم علي وجمعة من عائلة البطران وسط غزة توفيا خلال الأيام الماضية بسبب شدة البرد وغياب مقومات الحياة في القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة إسرائيلية متواصلة للعام الثاني على التوالي.

ويعيش النازحون في قطاع غزة في ظل ظروف معيشية متردية، بالإضافة إلى شح في مستلزمات الحياة الأساسية والملابس والفراش والأغطية في فصل الشتاء.


ولليوم الـ452 على التوالي، يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب المجازر المروعة، ضمن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مستهدفا المنازل المأهولة والطواقم الطبية والصحفية ومراكز الإيواء.

وارتفعت حصيلة ضحايا العدوان الوحشي المتواصل على قطاع غزة إلى ما يزيد على الـ45 ألف شهيد، وأكثر من 108 آلاف مصاب بجروح مختلفة، إضافة إلى آلاف المفقودين تحت الأنقاض، وفقا لوزارة الصحة في غزة.

مقالات مشابهة

  • اليوم .. فريق ترانيم "الحياة الأفضل" يقود احتفال الشكر بالكنيسة الإنجيلية في مصر الجديدة
  • تفاقم المأساة الإنسانية في قطاع غزة جراء الأمطار والبرد الشديد (شاهد)
  • غزة في عيون العالم.. مأساة إنسانية وصراع المواقف الدولية
  • عاجل وزارة الدفاع الأميركية تعلن عن الأهداف الحساسة للمليشيات الحوثية في صنعاء التي استهدفتها الغارات الجوية اليوم
  • المفتي العام للسلطنة يدعو إلى مضاعفة المساعدات الإنسانية لغزة
  • المفتي العام للسلطنة يدعو إلى مضاعفة المساعدات الإنسانية لغزة.. عاجل
  • في اليوم الـ 452 للعدوان على غزة .. تصاعد العمليات العسكرية والكارثة الإنسانية
  • حماس: ارتقاء 5 أسرى في سجون الاحتلال دليل على انسلاخه من الإنسانية
  • «الحرة الأمريكية»: «نتنياهو» ليس مصابًا «بأورام سرطانية»
  • أعداءُ الإنسانية