لجريدة عمان:
2024-09-29@06:36:55 GMT

المُسَلَّمَات.. تثير الأسئلة ولا تحجر الفكر

تاريخ النشر: 3rd, June 2024 GMT

ينبئ الفهم الواعي لحقيقة الـ«مسلمات» أنها تثير الأسئلة ولا تلغيها، وتفعل الفكر ولا تتجاوزه، ولكن في كل ذلك لما يذهب إلى تعظيم اليقين وتأصيله بالعلاقة القائمة بين العبد وربه، ومن ذلك التسليم المطلق بكل ما أمر الله به أن يكون، ويبقى العبد في هذا التسليم متفكرًا، مؤمنًا، مقرًا بأن في كل ذلك هو منجاة له من المهالك، وعليه أن يقترب أكثر في فهمه من طرح أسئلته، لا أن يبتعد، أو يحدث انفصامًا في علاقته مع ربه، فيؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله فالإنسان مهما بلغ مرتقى من الوعي، يظل وعيه قاصرًا عن كثير من الإدراكات الحسية والمادية، وبالتالي وبما أنه بهذا القصور عليه أن يسلم أمره لله، ولا يختلق جدلا ليس له قدرة على إدراكه؛ لأنه في النهاية هو مخلوق مسير لما خلق له، مع الأخذ في الاعتبار أن المساحة الممنوحة له في الاختيار متضاعفة بعشرات المرات عن ما هو مسير فيه، وهذه مسألة موضوعية في هذه العلاقة، وجوهرية بميدان الاشتغال في جوانب الحياة ، فوفق كثير من الاستخلاصات، يمكن القول إن الـ(90%) من الاشتغالات اليومية لدى الفرد على أنه مخير فيها، وأن الـ(10%) فقط هي المسير فيها، وأقرب دليل على ذلك هو الترقي المرحلي لحياة الإنسان بدءًا من مرحلة الطفولة حيث الاتكال التام على المعين، وكأن هذا المعين في تلك اللحظات الزمنية الفارقة بفعل الاعتماد، هو مُسَلَّمَةٌ لا يمكن الاستغناء عنها من قبل هذا الإنسان «الطفل» فإذا به وعبر مراحل الزمن يجد نفسه خارج هذا السياق المكبل فيتنكر لكل ما كان «عقوق» حيث تتزاحم عليه الأسئلة مستنكرة الكثير مما كان عليه من الطاعة والامتثال مثلا فلا يرى في ذلك ضرورة، والسبب أنه أصبح رجلا معتبرا، وخبيرا يشار إليه بالبنان، فالفترة الزمنية الفاصلة بين المرحلتين -كما يفترض- من شأنها أن ترسخ الكثير من القناعات، وتعيد تصويب الكثير من الأخطاء، وتلغي الكثير من الأسئلة الملحة في مرحلة زمنية معينة، وذلك لأثر الخبرة التراكمية التي يتحصل عليها الإنسان طوال سنوات عمره، وأن ما كان صورته غير واضحة المعالم تكون أكثر وضوحا، وأن العلاقات بين الأشياء تظهر أكثر قبولا، وبالتالي فكل ذلك يعفي الإنسان من مغبة الوقوع في مزالق الأسئلة الحائرة، أو المستنفرة.

المناقشة هنا لا تذهب إلى طرح أسئلة جدلية التي تتصادم مع المسلمات، والتي يثيرها غالبا بعض - ما يشار إليهم بالمفكرين - وهم منظرون في جانب واحد من جوانب التخصص، وهي جدليات لا تحتاج إلى كثير من التشنج، فالميدان الفكري ليس ميدانًا سفسطائيًا لا يصل إلى نتائج، أو يتجاوز الحقائق باللف والدوران، أو هي قواعد اشتباك، وإنما قواعده تقوم على حسابات دقيقة، مع أن أغلب الذين يناقشون فيما يعرف بـ«المسلمات» يذهبون إلى العلاقة القائمة بين الخالق والمخلوق، ويختلقون جدليات هي في إطار المسلمات التي يقتضي الإيمان الحقيقي التسليم لها لأنها من عند الله عز وجل، ويتنكرون للخالق على أنه يحجب عنهم بعض المغاليق المعرفية، فلا يدركون كنهها، وعندما يخونهم التفكير، وتتضاءل معرفتهم مع معرفة كنه هذه المسلمات، يأتون لينظروا فيما لا شأن لهم به، وليسوا مطالبين به أصلا، فالصلاة التي كتبت ركعاتها مختلفة، والطواف حول الكعبة المشرفة بسبعة أشواط، وتعاقب الليل، وتباينات الأحكام التي تحملها آيات النص الكريم، أو السنة المطهرة الصحيحة، والحج، والصيام، ومآلات القضاء والقدر، وغيرها الكثير من الأسس الهدف منها التعبد، فما الضرورة المهمة في العلاقة بين الطرفين لاستجلاء ما خفي من حكمتها وأحكامها؟ لا ضرورة بالمطلق، ولكن لأن هذا الإنسان إنطلاقا من فطرته غير المكتمل وعيها بكل ما يحيط بها لحكمة ربانية، آل على نفسه إلا أن يجادل، لا ليصل إلى فهم جلي للحقيقة بقدر ما يخلق خصومات، ومشاحنات مع نفسه، ومع من حوله، ولا يهم إن وصل إلى نتيجة أو لم يصل، فالمهم أنه سجل حضورًا آدميًا فيما يحرص على مناقشته.

ولذلك ففي كل الجدليات القائمة التي غالبًا ما تعصف بالعلاقات وتؤوي بها إلى مهالك الردى، لا تصل إلى نتائج حتمية إطلاقًا بل ربما تعمق الفجوات بين أي طرفين يجمع بينهما جدل ما، وبالتالي وحتى لا يشعر أحد الطرفين بشيء من الهزيمة، فإنه يتفاخر بالانتصار، وهو انتصار وهمي، لا يتجاوز تأثيره الطاولة التي تجمع أحد الطرفين بمجموعة أخرى مشيدة بما تم، ولو على سبيل المجاملة، قد يرى البعض من هؤلاء الحريصين على إثارة الجدل، أن في عدم وضع المسلمات في ميزان الجدل، هو نوع من الإقصاء المعرفي، وأن المعرفة تتسع وتوسع المدارك، وبالتالي فكل ما هو موجود في الحياة، قابل للنقاش، ولا يجب أن توضع عليه ستائر داكنة ليظل بعيدًا عن الأنظار، وهذا فهم غير سليم؛ لأن السير فيه لن يفضي إلى نتيجة مقنعة.

لا أتصور أنه من اليسير أن يسعى الآخر إلى تدمير الآخر فقط ليتفوق عليه بطرح الأسئلة، من باب الاختلاف معه، مع أن الاختلاف سنة كونية قبل أن تنزل إلى مستويات البشر وهي من المسلمات، وهي لا تحجر الأسئلة بقدر ما تثيرها لتجلية الرؤى، وتصويب الأخطاء، في تفكيرهم، وفي تموضعات سلوكياتهم اليومية، ولذلك وجد الاختلاف لرتق الثغرات أكثر منه لجلب الخصومات والتباينات، ومن يرى في نفسه أنه بطرح الأسئلة يسعى إلى نكاية الآخر والوقوع به، فستحوم عليه أسئلة استفهامية حول سويته، وحقيقته، ومآلاته، وليس ذلك فقط، فقد يتهم في حقيقة الدور الذي يقوم به تجاه الآخرين من حوله، وهو دور يذهب إلى تأصيل الواجب، وليس فقط من قبيل الكرم، أو الترف الخلقي الذي تسقط في تأصيله بعض الأساليب التربوية، لأن علاقة الفرد بمن حوله وهي من المسلمات فلا تحتاج إلى طرح أسئلة عن ماهيتها، وما الضرورة إليها، ولماذا هي موجودة في الأساس، فالفهم الواعي للعلاقات على أنها تقوم على التكافؤ والتكامل، والتعاون، ولا تقوم على اقتناص الفرص، للنيل من الآخر، أو تحجيم دوره، أو الإتيان بما لا يستطيعه هو أن يأتي به، نكاية به، وعندما يصل أحد طرفي المعادلة إلى هذا التفكير المتواضع يكون بذلك فقد إنسانيته الحقيقية، حيث يحتاج إلى كثير من الجهد ليستعيد شيئًا منها ليلحق الركب، ولعل ما يتعب البعض في مسائل الجدلية سواء للموضوعات المتعلقة بين العبد وربه، أو الموضوعات المتعلقة بين الإنسان والإنسان هي حالة الشك، مع أنها حالة غير مستشرية، ولكنها منغصة في مختلف العلاقات، ومن يكون عليها، يسأل له الدعاء بالشفاء العاجل، فالشك هو الذي يحفز الإنسان لأن يختلق أسئلة لكثير من المسلمات، لتأخر الوصول إلى قناعات تعفيه من طرح الأسئلة.

في كل التقاطعات البشرية القائمة يظل هناك صراع خفي وهو من المسلمات غير المخفية، هذا الصراع يتعارك وبصورة لا هوادة فيها مع الذات، قبل أن يصل إلى مستوياته المادية في كثير مما يجمع الأفراد ليتصارعوا عليه، فهناك وسوسة قد توصف بأنها «شيطانية» وقد تصنف بأنها من «الفطرة البشرية» وقد يوجد لها تعليل مباشر من أنها «غريزة» مؤقتة بتحقيق ما يبعث على الصراع، ومتى تم إشباع هذه الغريزة انكفأ الصراع الداخلي والخارجي على حد سواء، وعاد الإنسان كيوم ولدته أمه، يرى في الصراع تحميل النفس فوق طاقتها، وأن كل مبررات الصراع لا تحتمل ذلك الشحن المعنوي، والاحتقان المادي، ولذلك نرى كثيرًا من الحكمة تتجلى في بعض الأنظمة السياسية عندما يتبنى فرد ما من أفراد المجتمع جدلًا محتدمًا حول مسلمات معينة، يعيها الإنسان البسيط، تلجم أسئلته وجدلياته بمنصب إداري أو وجاهي، أو مكافأة مجزية، فتتهاوى كل الجدليات التي كان يثيرها، ولا يبقى لها أثر.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الکثیر من کثیر من

إقرأ أيضاً:

نشيد شباب بلوزداد خطوة جديدة تثير غضب وسخط الجماهير

مقالات مشابهة حالة الطقس اليوم الجمعة 27 سبتمبر 2024 في مصر.. شبورة مائية وأجواء باردة صباحًا

‏13 دقيقة مضت

يمكنك مشاهدتها بالمجان.. القنوات الناقلة لمباراة الاهلي والزمالك بقمة السوبر الافريقي

‏17 دقيقة مضت

الوكالة الوطنية للتشغيل تعلن رابط التسجيل في منحة البطالة في الجزائر

‏22 دقيقة مضت

اكتشاف نفطي احتياطياته 10 مليارات برميل يقترب من بيع حصة 40%

‏33 دقيقة مضت

هل تم تمديد فترة تسجيل في قرعة الحج 2025 الجزائر؟.. “وزارة الأوقاف الجزائرية” توضح

‏39 دقيقة مضت

هنا.. رابط الاستعلام عن نتائج القبول الموحد وزارة الدفاع ومتطلبات القبول 1446

‏44 دقيقة مضت

أصبح نشيد شباب بلوزداد الجديد محور اهتمام جماهير النادي الجزائري، حيث تم إطلاقه مؤخرًا خلال حفل مميز تزامن مع تقديم الفريق للموسم الجديد، ورغم أن هذه الخطوة تهدف إلى تعزيز هوية النادي وإضافة عنصر جديد إلى ثقافته، إلا أن ردود الفعل الجماهيرية كانت متباينة، ما أثار نقاشات واسعة حول مدى توافق النشيد مع تاريخ النادي العريق وتراثه.

نشيد شباب بلوزداد

أقام نادي شباب بلوزداد الجزائري حفلًا مميزًا يوم الأربعاء، تم خلاله الكشف عن النشيد الرسمي للفريق، وذلك بالتزامن مع تقديم لاعبي الفريق الجدد استعدادًا للموسم الجديد من الدوري الجزائري للمحترفين، حيث يستعد النادي لبداية مشواره في الدوري من خلال مواجهة وفاق سطيف يوم الجمعة ضمن الجولة الثانية.

ورغم الاحتفالية الكبيرة التي شهدتها العاصمة الجزائرية في حديقة التجارب، إلا أن نشيد شباب بلوزداد لم يلقى الترحيب الذي كان متوقعًا من جماهير النادي، فقد أعرب العديد من المشجعين عن استيائهم من النشيد، مشيرين إلى أنه لا يعكس هوية النادي وتاريخه، وتساءلوا عن الحكمة من اختيار كلمات النشيد من قبل شرف الدين عمارة، الرئيس المدير العام لشركة مدار المالكة للنادي، بدلًا من الاستعانة بمسابقة أو لجنة مختصة لاختيار كلمات النشيد.

ردود فعل الجماهير

الانتقادات لم تقتصر على جماهير بلوزداد فقط، حيث شاركت العديد من جماهير الأندية الجزائرية المنافسة في التعليقات الساخرة على النشيد، ويرى المنتقدون أن هذه الثقافة جديدة على الأندية الجزائرية، التي تفضل الهتافات الشعبية والأغاني التي يتم ترديدها في المدرجات، والتي غالبًا ما تكون من تأليف الألتراس، فالجماهير الغاضبة أعربت عن استيائها من الطريقة التي تم بها اختيار كلمات النشيد، معتبرة أن ذلك يقلل من شأن القاعدة الجماهيرية التي كانت تنتظر نشيدًا يليق بتاريخ ناديها.

العودة للمنافسة على لقب الدوري

بعد أن فقد شباب بلوزداد لقب الدوري الجزائري الموسم الماضي لصالح غريمه مولودية الجزائر، يسعى النادي لاستعادة اللقب الذي حققه لأربع سنوات متتالية، وتأتي صفقات الموسم الجديد، على رأسها إسلام سليماني، ضمن استراتيجية النادي لتحقيق هذا الهدف، فسليماني الذي يعد الهداف التاريخي لمنتخب الجزائر، عاد للفريق بعد غياب طويل دام 11 عامًا، مما يعزز من طموحات النادي في المنافسة على اللقب.


Source link ذات صلة

مقالات مشابهة

  • “الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن”.. ندوة بمعرض الرياض للكتاب
  • “الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن” ندوة ضمن أعمال معرض الرياض للكتاب
  • دمية تثير الرعب في قلوب البريطانيون
  • كارمن بصيبص تثير تفاعلًا برسالة مؤثرة للأمهات اللبنانيات
  • بوسي تثير حيرة متابعيها بلوك مختلف
  • عناكب ضخمة تثير ذعر السكان في مدينة أمريكية (تفاصيل)
  • المواقف الإيرانية تثير التساؤلات.. كيف يتلقفها حزب الله؟!
  • نشيد شباب بلوزداد خطوة جديدة تثير غضب وسخط الجماهير
  • مشاركة سعود عبدالحميد للمرة الأولى مع فريق روما تثير تفاعلا
  • خبيرة: وضع الصور النسائية في غرفة النوم تثير مشاعر غير مرغوب فيها