اليابان وكوريا الجنوبية.. سر نجاح الابتكار
تاريخ النشر: 3rd, June 2024 GMT
ترجمة: نهى مصطفى -
تعتبر اليابان وكوريا الجنوبية من أقوى الدول في مجال الابتكار والتكنولوجيا، فهما موطن للشركات الرائدة في العديد من قطاعات التكنولوجيا عالية التقنية التي تدعم النمو الاقتصادي العالمي، وعادة ما تحتل الدولتان قمة مؤشرات الابتكار. وللوصول إلى ما هما عليه اليوم، سخر البلدان قوة القطاعين العام والخاص معا لعقود من الزمن، وتتحدى استراتيجيات الابتكار في البلدين النموذج الأسطوري السائد في وادي السيليكون القائم على العبقري الفرد الذي يأتي بفكرة رائعة ويتلقى التمويل من المستثمرين أصحاب رؤوس الأموال، إذ أن هناك تصورا في الولايات المتحدة مفاده أن الشركات الناشئة يجب أن تعمل بمفردها، وغالباً بهدف إزعاج أو تقويض الشركات والصناعات القائمة، وعلى العكس من ذلك، تعتقد حكومتا اليابان وكوريا الجنوبية أن التعاون بين الشركات الناشئة الجديدة والتكتلات القائمة أمر بالغ الأهمية لتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية، وخاصة في مجال التكنولوجيات الرائدة، مثل أشباه الموصلات، والروبوتات، وقطاع الشحن البحري الموفر للطاقة، والبطاريات الكهربائية، وقد أنشأت كل من اليابان وكوريا الجنوبية نظاماً بيئيًا مفتوحًا للابتكار، تدعم من خلاله الهيئات الحكومية والشركات الكبرى والشركات الناشئة الأصغر بعضها البعض.
ومع احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، يرى النموذج الذي تتبناه سول وطوكيو أن الشركات الناشئة تشكل أهمية مركزية في الاقتصاد التنافسي، ولكن إمكاناتها تكون محدودة إذا كانت تعمل بمفردها، ويستفيد الاقتصاد الوطني بشكل أكبر عندما تعمل الشركات الناشئة بالتعاون مع الحكومة والشركات الكبرى القائمة. ومع ما يحققه البلدان من نجاح في الابتكار، يتعين على صناع السياسات الأمريكيين أن يعترفوا بأن نموذج العبقري الفرد- الشركات الناشئة الصغيرة التي تتصارع مع الشركات الكبرى وتهزمها - ليس ناجحًا بما يكفي ولا يمكن الاعتماد عليه من أجل زيادة القدرة التنافسية الاقتصادية والتكنولوجية للولايات المتحدة.
التغيير من الداخل
تتبنى اليابان وكوريا الجنوبية بشكل واضح فكرة أن الشركات الناشئة هي موارد إبداعية مفتوحة للتكتلات الكبيرة. وتعمل السياسة الوطنية على تعزيز الشركات الصغيرة والأكثر مرونة وتشجعها على العمل مع نظرائها الأكبر لدعم الابتكار في البلاد ككل، وتضخ الشركات الناشئة أفكارًا ومواهب وطرقًا جديدة للعمل في الشركات اليابانية والكورية الجنوبية الكبيرة، حتى تتمكن من التنافس مع المنافسين الأمريكيين والصينيين والأوروبيين، ويوضح مدير مركز دعم الشركات الناشئة الممول من حكومة كوريا الجنوبية الأمر بهذه الطريقة: تريد الحكومة ضخ «الحمض النووي المبتكر» في التكتلات الصناعية الكبرى في البلاد، حتى لا تتراجع الشركات القديمة إلى الهاوية، مثل موتورولا أو نوكيا، وهما شركتان للتكنولوجيا اشتهرتا بمنتجاتهما الرائدة سابقًا ولكنهما فقدتا سحر الابتكار على طول الطريق وأصبحت كلتاهما من الماضي.
وهناك مثالان للطرق العديدة التي تجمع بها سول وطوكيو بين الحكومة والشركات الكبرى والشركات الناشئة لتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي، ولنتأمل هنا برنامج التحدى الكبير للشركات الناشئة K-Startup Grand Challenge في كوريا الجنوبية، وهو برنامج حكومي يقدم الدعم للشركات الناشئة حتى تصبح قادرة على المنافسة على المستوى الدولي. أطلقته حكومة بارك جيون هاي المحافظة في عام 2016، واستمرت حكومة مون جاي الليبرالية بدعمه، ومستمر في الازدهار حتى اليوم. وتمول البرنامج وتديره الحكومة ومقره في وادي بانجيو تكنو، النسخة الكورية الجنوبية من وادي السيليكون، في مدينة سول، ويجمع البرنامج بين الشركات الناشئة من جميع أنحاء العالم لتتنافس على فرصة الانضمام إلى برنامج مسرع الأعمال لمساعدة الشركات الناشئة القائمة على التوسع بسرعة في كوريا الجنوبية.
ويعد هذا البرنامج بمثابة نقطة انطلاق لهذه الشركات للتوسع في كوريا الجنوبية وفي جميع أنحاء آسيا بفضل التمويل، والإرشاد، والتعلم من الأقران، ومساحات المكاتب، والتواصل مع التشايبول (الشركات العائلية الكبيرة). وأحد المقاييس الحاسمة لنجاح البرنامج هو تحديد اتفاقيات الترخيص والشراكة مع الشركات العملاقة في البلاد، والتي تشارك أيضًا في التوجيه. وهذا يعني أن سخاء الحكومة يتوجه للشركات الناشئة التي تعقد شراكات مع سامسونج، أو هيونداي، أو إل جي، أو أي شركة أخرى من الشركات الكورية الجنوبية الكبرى.
في عام 2018، أطلقت اليابان برنامجا مماثلًا تقريبًا، وبموجب مبادرة الشركات الناشئة اليابانية، تتعاون تكتلات ما بعد الحرب في اليابان، والمعروفة باسم كيريتسو، مع البنوك الرئيسية في البلاد لتمويل ودعم «الشركات الناشئة» المحتملة، المملوكة للقطاع الخاص والتي تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار. ويشجع البرنامج الشركات الناشئة على العمل جنبًا إلى جنب مع الشركات القائمة.
وبعد مرور 6 سنوات وبعد تغييرين حكوميين، تستمر المبادرة بروح التكتلات الكبيرة نفسها التي تقدم الدعم للشركات الناشئة الجديدة. وكان هدف المبادرة في البداية هو المساعدة على بناء 100 شركة «يونيكورن» (التي تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار) بحلول عام 2023. ولم تحقق مبادرة الشركات الناشئة اليابانية هذا الهدف بعد، على الرغم من أن اليابان أنشأت 20 شركة «يونيكورن» خلال تلك الفترة، بالإضافة إلى ما يسمى «الشركات اليونيكورن المخفية»، عن طريق الاستحواذ.
حلم كاليفورنيا
يعتقد معظم الناس أن وادي السيليكون في كاليفورنيا هو الأرض التي تضمن فيها اليد الخفية للسوق البقاء للأصلح: الشركات الناشئة التي تديرها عقول شابة بأفكار رائعة تعمل من المرآب، بينما تحصل على تمويلها من أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية لتطويرها إلى كيان كبير. ويصبح رواد الأعمال هؤلاء يومًا ما بيل جيتس، أو إيلون ماسك، أو ستيف جوبز، أو مارك زوكربيرج. ومن الأمور الأساسية في أسطورة وادي السليكون أن أصحاب المشاريع المبتدئين سوف ينشئون شركات جديدة تحل محل الشركات الكبرى.
وعلى الرغم من أن مفهوم وادي السيليكون هذا مبني على حقيقة، إلا أنه لا يعكس الواقع تمامًا، فاليوم، لا يهيمن على قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة سوى عدد قليل من الشركات التي تصنع بعض المنتجات الأكثر قيمة في العالم. وتعمل هذه الشركات الكبرى، مثل ألفابيت وأمازون وميكروسوفت، كمنصات تكنولوجية للشركات الناشئة، حيث تستضيف جامعات بحثية وتدير برنامج مسرعات الأعمال، وهي برامج لتدريب وتوجيه الشركات الناشئة، وهم أيضًا المستحوذون الرئيسيون على الابتكارات الجديدة.
في الماضي، أجبرت هذه الشركات التي كانت ناشئة شركة «ألتافيستا» أو «باكارد بيل» على الإفلاس. واليوم، يسعون إلى الحصول على الحماية من الآخرين الذين قد يتسببون في توقفهم عن العمل، وتعمل شركات التكنولوجيا الكبرى على إحباط أي تهديد يفرضه اختيار الشركات الناشئة كمستخدمين لتقنياتها، أو كمتلقية لاستثماراتها، أو كمتدربين.
وقد أصبح دمج الشركات الناشئة في ديناميكيات الصناعة يشكل جزءا مما نسميه «رأسمالية الشركات الناشئة»، وهو نموذج اقتصادي تساهم فيه الشركات الناشئة في تشغيل العمالة، والابتكار، والنمو، لكن على الرغم من هذه التغييرات في كيفية عمل وادي السيليكون، تظل سياسة الولايات المتحدة في علاقة عدائية مع عمالقة التكنولوجيا اليوم، وبينما يستمر الاحتفاء بالشركات الناشئة الصغيرة، يتم استدعاء الشركات الكبيرة، وخاصة شركات التكنولوجيا، إلى جلسات استماع في الكونجرس لاستجوابهم بقوة، كما أصبحت على نحو متزايد هدفاً للدعاوى القضائية لمكافحة الاحتكار.
ومن ناحية أخرى، تعد حكومة الولايات المتحدة عميلاً ضخمًا للتكنولوجيا وتعمل على الحد من وصول الدول المنافسة إلى التقنيات المتطورة في البلاد، وخاصة أشباه الموصلات، وبينما تحاول حكومة الولايات المتحدة إبقاء شركات التكنولوجيا الكبرى تحت المراقبة لكنها تدرك أيضًا أهميتها للأمن القومي الأمريكي.
الابتكار أو الموت
في اليابان وكوريا الجنوبية أدرك صناع السياسات مبكرا الدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات الناشئة في استراتيجيات الأمن القومي في بلديهما، وتعمل الشركات الناشئة على تعزيز تفوق اليابان وكوريا الجنوبية في مجال التكنولوجيا الذي يشكل أهمية بالغة للأمن القومي، مثل أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والمواد المتقدمة، حيث لم يعد مقاولو الدفاع هم المحرك الرئيسي وراء الميزة التنافسية لأي بلد، بل يعتمد المضي قدمًا أيضًا على الإمدادات الوطنية من التكنولوجيات المتطورة والأشخاص المبدعين الذين يقفون وراءها، وتأتي دراسة الولايات المتحدة لحظر أو فرض بيع تطبيق تيك توك ــ ومعارضة الصين لهذه الخطوة ــ ليؤكد على مركزية المنافسة التكنولوجية اليوم، وعلى الرغم من أن الحرب الشاملة بين القوى العظمى ما تزال غير محتملة، فإن الولايات المتحدة والصين تعلمان أنهما قادرتان على إلحاق الضرر ببعضهما البعض عندما يتعلق الأمر بتحقيق التفوق التكنولوجي.
وبالتالي فإن قدرة رأسمالية الشركات الناشئة على تعزيز التفوق التكنولوجي تمنح أي بلد ميزة تنافسية على الأصدقاء والأعداء على حد سواء. ويسمح الدعم الحكومي للشركات الناشئة، وخاصة التكتلات الكبيرة ذات الموارد المالية والبشرية الكبيرة، باتخاذ نهج طويل الأجل تجاه التخطيط الاقتصادي، مع إدراك أن التمويل سيستمر حتى لو كانت هناك اضطرابات اقتصادية قصيرة المدى مثل الأزمة المالية أو الوباء. ويعني هذا النهج أيضا أن الحكومة سوف تدعم الأبحاث والشركات في قطاعات جديدة، حيث لا يكون النجاح مضمونا، وهو الخطر الذي غالبًا ما يخنق الابتكار في القطاع الخاص ببلدان أخرى.
ومن الأمثلة على ذلك أن كوريا الجنوبية واليابان تقودان العالم في مجال الشحن البحري الموفر للطاقة لأن حكومتيهما راهنتا على أهمية هذا القطاع على الأمد البعيد، في حين تخلت الولايات المتحدة وأوروبا عن تنافسية صناعة الشحن منذ عقود، وقد قام وزير البحرية الأمريكية كارلوس ديل تورو أواخر فبراير الماضي بجولة في أحواض بناء السفن اليابانية والكورية الجنوبية، لتعزيز التعاون مع نظرائهم الأمريكيين لإحياء صناعة بناء السفن وصيانتها في الولايات المتحدة، وتنتج كوريا الجنوبية واليابان حصة كبيرة من السفن الأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية في العالم، مثل السفن التي تحمل الغاز الطبيعي المسال والأمونيا، وقوتهما في هذا القطاع مدفوعة، جزئيًا على الأقل، بالتعاون بين الحكومة والشركات الناشئة. وفي حالة كوريا الجنوبية، يتم إقران الشركات الناشئة التي تعمل على تطوير تقنيات جديدة مع تكتلات كبيرة عبر شبكة من مراكز ابتكار الاقتصاد الإبداعي التي تمولها الحكومة، حيث يمكنها الوصول إلى التوجيه والمساحة والتمويل في حين تشارك أفكارها ومنتجاتها، أما بالنسبة لليابان، فقد أعلنت الحكومة مؤخرا عن خطط لتعزيز التعاون بين الشركات الناشئة والشركات الكبرى لإنشاء الجيل القادم من السفن، ولا يوجد لدى الولايات المتحدة برامج مماثلة تشجع مجموعات التدريب المتخصصة في جامعات محددة.
احتضان الواقع
يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يساعدوا على تسهيل هذا التعاون بين الشركات الكبرى والشركات الناشئة الجديدة، لأن أسطورة وادي السيليكون، على الرغم من جاذبيتها، فهي في الواقع تظل أسطورة، والواقع هو أن الشركات الناشئة تقدم بالفعل حلولاً للمشاكل التي تؤرق الشركات القائمة بدلاً من أن تشكل تهديدًا وجوديًا لها، كما قصة النجاح الفردي في وادي السيليكون ليست صحيحة تماما، فالحكومة كانت لفترة طويلة بطلاً رئيسيًا في نجاح وادي السيليكون، وفي وقت مبكر من عقد الخمسينات، كانت مليارات الدولارات من التمويل الفيدرالي وحكومات الولايات، بما في ذلك أبحاث الابتكار في الشركات الصغيرة، حاسمة في تطوير النظام البيئي لريادة الأعمال في وادي السيليكون. واستمر السخاء الحكومي لدعم رواد الأعمال الأمريكيين على مر العقود، وكمثال على ذلك، استفادت شركة تسلا بشكل كبير من الإعفاءات الضريبية الفيدرالية المقدمة للمستهلكين لشراء السيارات الكهربائية.
وعلى غرار اليابان وكوريا الجنوبية، تتمتع الولايات المتحدة بتركيز صناعي مرتفع إلى حد ما. وهذا يعني أن الصناعات يهيمن عليها عدد قليل من الشركات الكبيرة. وقد أصبحت هذه الحقيقة مقبولة على نطاق واسع في اليابان وكوريا الجنوبية، وحتى لو كان الساسة وعامة الناس ينتقدون هذا الوضع في بعض الأحيان، إلا أنه يتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تتقبل الواقع وتحتضن الشركات الكبرى، خاصة في قطاعات التكنولوجيا المتطورة.
رامون باتشيكو باردو هو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كينغز كوليدج في لندن.
روبين كلينجلر فيدرا أستاذ مشارك في ريادة الأعمال والاستدامة بكلية كينغز للأعمال، وهما مؤلفا الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان «رأسمالية الشركات الناشئة: استراتيجيات الابتكار التي تغذيها الشركات الناشئة في شمال شرق آسيا».
عن مجلة الشؤون الخارجية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیابان وکوریا الجنوبیة فی الولایات المتحدة الشرکات الناشئة فی والشرکات الناشئة للشرکات الناشئة وادی السیلیکون الشرکات الکبرى کوریا الجنوبیة على الرغم من بین الشرکات الابتکار فی التعاون بین فی البلاد الناشئة ا فی مجال فی وادی
إقرأ أيضاً:
ترامب: سيتم بدء أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة
قال الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إن الولايات المتحدة الأمريكية ستتوقف عن الدخول في الحروب الخارجية التي دخلتها بشكل سخيف، حسبما ذكرت قناة القاهرة الإخبارية.
وأضاف الرئيس الأمريكي أنه سيتم بدء أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة.
وأشار إلى أن أحداث 7 أكتوبر وحرب أوكرانيا لم تكن لتحدث لو كان رئيسا للولايات المتحدة.
كما أكد الرئيس الأمريكي أنه سيقوم بتغييرات كبيرة في واشنطن، مشيرا إلى أن الأغلبية الجمهورية في الكونجرس تدعم ترشيحاته.
اقرأ أيضاًعبد المهدي مطاوع: الحكم على ترامب بشأن القضية الفلسطينية لا يزال مبكرا
ترامب يعين «منتج برنامج تلفزيوني» مبعوثًا خاصًا إلى المملكة المتحدة
ترامب يهدد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية