عُمال الخدمة المنزلية.. وبدائل الأسرة المعاصرة
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
عمير العشيت **
alashity4849@gmail.com
تمثل الواجبات المنزلية التي تؤديها المرأة المُحافِظة من أرقى الأعمال على وجه الأرض، فهي عامل رئيسي في إدارة الأسرة النووية والمنزل والمجتمع؛ حيث تقوم بتربية أبنائها وحل مشاكلهم ومساعدتهم في حل واجباتهم المدرسية والتمريض وإرشادهم، ومراعاة زوجها وإعداد الطعام، والتنظيف، وكي الملابس، وغيرها من الأعمال المهمة التي كانت تخرِّج أجيالًا قوية من الرجال ساهموا في خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم.
غير أن هذه المنظومة الأسرية المتلاحمة بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، وتختفي مع مرور الوقت وتطور الحياة والتقدم التكنولوجي والحياة المدنية، وذلك لعدة أسباب؛ منها: مطالبة بعض النساء بالمساواة مع الرجل دون هوادة، وانخراط المرأة في سوق العمل وانشغالها بمفاتن الحياة وعالم الموضة والمسلسلات التلفزيونية والتواصل الاجتماعي، ولم يعد لديها أي وقت لرعاية أبنائها وأسرتها، والاستفسار عن مستواهم العلمي ومشاركتهم في حياتهم؛ حيث فضّلت ذاك العالم الزائف على عالم الأسرة الحقيقي، فكان الحل الأمثل لها وجود عاملة وافدة بديلة غير متعلمة تقوم بدور صاحبة المنزل وتسلمها زمام الأمور بمنتهى الأريحية، الأمر الذي أدى الى تفكك الأسرة النووية، فأصبح أبناء الدار الواحدة غرباء عن بعضهم البعض. وفي أثناء تواجدهم في المنزل مصادفة تجد كل واحد منهم مشغولا عن الآخر بجهازه النقال، فبات المنزل شبيهاً بقاعة اختبارات، يفتقد للتلاحم الاجتماعي ولغة الحوار، حيث تمخض عن ذلك شعور الأبناء بعدم الانتماء الأسري، والانجراف في جماعة الرفاق غير المبالين بالقوانين والحياة الاجتماعية وزجهم في عالم المخدرات والجرائم، والتنمر على بعضهم البعض، مما أدى إلى وقوع مزيد من جنوح الأحداث. وهذا ما أشارت إليه وزارة التنمية الاجتماعية ممثلة في دائرة شؤون الأحداث عندما كشفت الإحصائيات أن إجمالي قضايا الأحداث المُحوَّلة للادعاء العام إلى الوزارة، سجّل ارتفاعًا ملحوظًا في عام 2022؛ حيث بلغ عدد قضايا الأحداث 450 قضية.
وتنامت ظاهرة عمال خدمة المنازل في سلطنة عُمان منذ ثمانينيات القرن الماضي، وانتشرت بعدها بشكل واسع، وصارت موضة لكل الأسر؛ حيث تُدار من خلال المكاتب المختصة لاستقدام هذه العمالة التي اتخذت أبعادًا وتوجيهات إنسانية واجتماعية متفاوتة، إلّا أن المُشرِّع العُماني لم يتطرق إلى صياغة قانون خاص لعمال خدمة المنازل؛ نظرًا لخصوصية العلاقة التي ينشئها هذا العمل، لكنه اكتفي بقانون العمل العُماني؛ وذلك استنادًا للمادة رقم 4 التي تنص على خضوع جميع أصحاب الأعمال والعمال الى أحكام هذا القانون، والذي تطرق إلى حقوق وواجبات العمال بشكل عام، آخذًا في الاعتبار عنصرين أساسيين؛ هما: التبعية والأجر، مع أنهم بحاجة لإصدار قانون جديد لهذه الفئة ليوفر لهم الحماية القانونية المطلقة وتنظم علاقة عامل الخدمة المنزلية وصاحب العمل، وذلك نظرًا لتعرُّضهم لبعض الإساءات والانتهاكات والمضايقات في المعاملات، ما ينتج عنه هروب الكثير من العاملات من كفلائهن، والعمل لحسابهن الخاص من خلال العمل في البيوت دون ترخيص، والبعض منهن لم يخضعن لفحوصات طبية تسمح لهن بممارسة العمل في المنازل، وعليه فإنَّ الأطفال وكبار السن أكثر عرضة للإصابة بالفيروسات والأمراض عن طريق التواصل المباشر مع العاملة، فضلًا عن ذلك أن أصحاب المنازل الذين سمحوا لهذه العمالة بالدخول في منازلهم والعمل فيها- دون إبرام عقد عمل- لا توجد لديهم حماية أو حصانة قانونية أثناء تعرض منازلهم للسرقة أو حدوث أي جريمة قد ترتكبها العاملة. وقانون العمل العُماني الجديد يحظر مزاولة مثل هذه الأنشطة المشبوهة، وهو ما نصت عليه المادة 28 على النحو التالي: "يحظر على صاحب العمل أن يسمح لأي عامل غير العمال العُمانيين ممن رُخِّص له في تشغيلهم ومنحت له رخصة مزاولة عمل أن يعمل لدى غيره"؛ فما بال تلكم العاملات المتنقلات في أكثر من منزل؟!
لقد أدّت مهنة عمال خدمة المنازل إلى ظهور شريحة كبيرة من الفتيات لا يعرفن فنون الطبخ ولا إدارة المنزل، ويتكِلن على عاملة المنزل في كل شيء أو يلجأن الى مطاعم الوجبات السريعة التي حذّر الكثير من الأطباء من مخاطرها الصحية، وهذه الظاهرة تتطلب دراسة شاملة من قبل الجهات المتخصصة والمؤسسات المدنية.
لذا.. فإنّنا نقترح على الجهات المعنية وحفاظًا على نسيج الأسرة العُمانية أن تتبني برامج وأنشطة خاصة بالأسرة؛ منها: إدخال مواد الاقتصاد المنزلي وفن الطبخ والخياطة ومهارات التربية في مدارس السلطنة للبنات، وكذلك تفعيل برامج وأنشطة خاصة بالأسرة على مدار السنة من خلال إقامة الندوات والفعاليات التي من شأنها توطيد التلاحم الأسري، كما نتمنى من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في خطب الجمعة بين فينة وأخرى، أن تُركِّز على بناء الأسرة والتوعية بالمخاطر المحيطة بها، وتنشئة الأبناء، لا سيما وأن الطلبة مقبلون على العطلة الصيفية.
** كاتب وباحث
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رحلة إلى محضة.. عبق الذكريات وعِبر الزمن
محمد بن أنور البلوشي
"لنخطط للذهاب إلى محضة هذا الخميس"، قالت زوجتي بحماس في صوتها.
"إنها بالفعل فكرة جيدة أن نذهب إلى محضة"، أجبتها، وأنا أشعر بموجة من الحنين تجتاحني. محضة ليست مجرد مكان؛ إنها حيث تكمن كنوز ذكرياتي. كل زاوية في تلك البلدة تحمل ارتباطًا خاصًا بالنسبة لي، لمسة شخصية تجعلها عزيزة على قلبي.
بدأت الرحلة في الصباح الباكر، بعد صلاة الفجر مباشرة، من المعبيلة. امتدت الطرق أمامنا، تدعونا إلى المغامرة. قررنا أن نأخذ وقتنا، ونستمتع بمشاهدة مختلف الأماكن في منطقة الباطنة على طول الطريق.
مررنا ببركاء، والسويق، وصحم، وصحار، وفلج القبائل، حيث مرت هذه الأماكن أمامنا وكأنها صفحات من كتاب، لكل منها قصته الخاصة.
"القيادة لمسافات طويلة دون موسيقى ستكون مملة"، قلت وأنا أشغل نظام الموسيقى.
هزّت زوجتي رأسها موافقة، واخترنا الاستماع إلى الأغاني البلوشية للفنان نورال. أول أغنية تم تشغيلها كانت "جمبر، جمبر ساج شراب"، وهي قصيدة جميلة للشاعر الراحل جل محمد وفا. كان الشاعر يناجي الغيوم، طالبًا منها أن تمطر خمرًا بدل الماء. كانت الكلمات شاعرية، مليئة بالشوق والمشاعر العميقة، مما جعل الرحلة أكثر متعة.
وأثناء مواصلة القيادة، نظرت إلى نظام الملاحة وقلت: "بعد خمس دقائق سننعطف يمينًا باتجاه محضة."
"إذًا نحن قريبون الآن؟" سألت زوجتي، وهي تنظر من النافذة محاولة التقاط أول لمحة للبلدة.
"نعم، سيستغرق الأمر حوالي عشرين دقيقة أخرى للوصول إلى وجهتنا"، قلت، وأنا أشعر بزيادة في الترقب.
وبالفعل، وصلنا بعد قليل. كان أول مشهد استقبلنا هو الحصن الذي يقف شامخًا على يميننا. كان هيكلًا رائعًا، يذكرني بتاريخ المكان وتراثه.
"هل يمكنك التقاط صورة؟" طلبت من زوجتي.
ابتسمت وأخرجت هاتفها بسرعة. "تم! يبدو رائعًا."
أثناء القيادة، أشرت إلى تلة في المسافة. "تلك هي التلة التي كنت أذهب إليها وأجلس عليها عندما كنت في المدرسة. كانت ملاذي، مكاني الهادئ."
"هل تود الذهاب إليها مجددًا؟" سألتني.
فكرت في الأمر للحظة ثم هززت رأسي. "لا، أعتقد أنني أفضل الاحتفاظ بالذكرى كما هي. لكن دعينا نلتقط صورة لمنزلنا القديم."
وافقت، وأخذنا بعض الصور. كان المنزل لا يزال قائمًا، يحمل في جدرانه دفء الأيام التي قضيناها فيه. وبينما تجولنا في المنطقة، لاحظت بعض التغييرات. تم بناء المزيد من المساجد، وهناك دلائل على التطوير الجديد. ومع ذلك، فإن جوهر محضة ظل كما هو.
مررنا بالمركز الصحي الذي كان يقع مقابل مدرستي القديمة، يزيد بن المهلب، حيث درست في الصفوف الخامس والسادس والسابع والثامن. أعاد لي المشهد سيلًا من الذكريات.
"لن أنسى أبدًا ذلك الملعب"، قلت مشيرًا إليه. "لا يزال هناك، بجوار منزلنا. كان ذلك المكان الذي لعبت فيه مع أصدقائي، حيث كنا نهتف ونحتفل بانتصاراتنا الصغيرة."
ابتسمت زوجتي وهي تستمع. "لا بد أنه من الجميل أن ترى أن بعض الأشياء لا تتغير."
أومأت برأسي، وأنا أشعر بالامتنان للذكريات التي لا تزال حية في تربة هذه البلدة.
كانت محطتنا التالية البريمي، والتي كانت تبعد فقط عشرين دقيقة عن محضة. عند دخولنا المدينة، كانت الشوارع تعج بالحركة. كان السوق ينبض بالحياة، حيث ينادي البائعون على الزبائن ويتحرك الناس في روتينهم اليومي.
"هذا المكان كان دائمًا مزدحمًا"، علقت بينما كنت أتنقل بين الشوارع.
"هل نبقى الليلة أم نعود إلى المنزل؟" سألت زوجتي، متأملة خياراتنا.
ناقشنا الأمر لفترة، ووزنا خياراتنا. كان من المغري قضاء الليلة في البريمي، لكن نداء المنزل كان أقوى.
"لنتناول الغداء أولًا، ثم نقرر"، اقترحت.
وجدنا مطعمًا دافئًا واستمتعنا بوجبة شهية. وبينما كنا نجلس هناك، يملأ الهواء عبير الطعام الطازج المطهو، اتخذنا قرارنا النهائي.
"لنعد إلى المنزل"، قالت زوجتي، ووافقتها الرأي. "كانت هذه الرحلة أكثر عن إعادة زيارة الذكريات من تمديد إقامتنا."
وأثناء العودة، بدأ غروب الشمس يرسم سماء المساء بوهج ذهبي. كانت الرحلة ذات معنى، فقد أعادت لي ذكريات غالية وعززت من علاقتنا. لقد رحبت بي محضة مرة أخرى كصديق قديم، وعرفت أنني سأعود إليها مرة بعد مرة، لأستعيد الماضي وأحتضن الحاضر.