تهديد إثيوبي جديد لمصر: سنبني سدودا ولن توقفنا قوة.. كيف سترد القاهرة؟
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
أشعلت تصريحات صادمة موجهة إلى مصر والسودان، أطلقها مستشار وزير المياه والطاقة الإثيوبي محمد العروسي، الأجواء مجددا بين المصريين والإثيوبيين، وسط صمت رسمي بالقاهرة في الملف الوجودي الخطير الذي يمس الأمن المائي والغذائي لأكبر بلد عربي سكانا ويؤثر في مستقبل ثاني أكبر اقتصاد إفريقي خلال 2024.
المسؤول الإثيوبي، بدا مستفزا عبر حديث له بفضائية "فانا عربي" الموجهة باللغة العربية، حيث أعلن عن أن التحدي الإثيوبي كبير ومتواصل مع دولتي مصب نهر النيل مصر والسودان، مؤكدا أن بلاده ستقوم ببناء سدود جديدة على جميع روافد نهر النيل في إثيوبيا.
العروسي، نشر مقطعا من اللقاء عبر موقع "إكس"، وقال فيه متحديا المصريين بشكل خاص: "بناء السدود دليل الصمود"، مضيفا: "سنبني سدا تلو السد على النهر تلو النهر"، ومؤكدا أنه "لن توقفنا أي قوة على وجه المعمورة"، ما عده البعض رسالة تحذير شديدة اللهجة إلى القاهرة الصامتة تماما والمشغولة بأزمات أخرى.
بناء السدود دليل الصمود ..!
سنبني سدا تلو السد على النهر تلو النهر ولن توقفنا أي قوة على وجه المعمورة إن شاء الله !!
إثيوبيا
وطن نحبه ويحبنا …!#البحر_لإثيوبيا #اثيوبيا #سد_النهضة #Ethiopia #ኢትዮጵያ#GERD#مصر #السودان #Egypt #Sudan http://pic.twitter.com/JSfdPiagI7 — محمد العروسي Mohammed Al-Arusi (@alarusi1) May 30, 2024
ويشير مراقبون بينهم الباحث المصري هاني إبراهيم في تصريحات صحفية، إلى أن أديس أبابا تنوي إنشاء 3 سدود جديدة تحت أسماء "كاردوبي" و"مندايا"، و"بيكوابو"، موضحا أن ملء تلك السدود يحتاج إلى 80 مليار متر مكعب، وهي النسبة التي تفوق تخزين سد النهضة.
"تعنت إثيوبي ومأزق مصري سوداني"
تصريحات المسؤول الإثيوبي، تأتي على خلفية بناء أديس أبابا سدا على حوض النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا فوق الهضبة الحبشية، ويمد نهر النيل بما بين 80 إلى 85 بالمئة من المياه المغذية لنهر النيل، ما يهدد حصتي دولتي المصب مصر والسودان التاريخية من مياه النيل، والبالغة (55.5 و 18.5 مليار متر مكعب مياه سنويا)، للأولى والثانية، وهما الحصتان المقدرتان بنحو 5 بالمئة فقط من مياه نهر النيل مجتمعة.
وتأتي تصريحات المسؤول الإثيوبي قبل إقدام إثيوبيا على حجز فيضان الصيف المقبل، والشروع في تنفيذ عملية الملء الخامس لسد النهضة الإثيوبي دون توافق مع دولتي المصب، فيما سبقتها في نيسان/ أبريل الماضي، احتفالات إثيوبيا باستكمال بناء 95 بالمئة من السد النهضة بعد 13 عاما من الشروع ببنائه في 2 نيسان/ أبريل 2011.
وعلى مدار سنوات حكم رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، (2014- 2030)، لم تنجح المفاوضات التي جرت برعاية دولية من الأمم المتحدة وأمريكا والاتحاد الإفريقي وبعض الأطراف العربية في حل الخلاف القائم بين أديس أبابا من جانب والقاهرة والخرطوم من جانب آخر، وسط تعنت إثيوبي ورفض لعقد اتفاق ملزم حول قضايا ملء خزان السد وتشغيله وحصص دولتي المصب وغيرها من القضايا.
ويُحمل مراقبون نظام السيسي، المسؤولية عن تأزم هذا الملف الاستراتيجي وإهماله وعدم منحه الأولوية الكافية على خطورته وتعلقه بالأمن القومي المصري وبحياة أكثر من 150 مليون مصري وسوداني، بل يذهب البعض للقول إنه من منح إثيوبيا الشرعية لبناء السد والتمويل الدولي -نحو 4 مليارات دولار- بعد عقد اتفاقية مبادئ دول حوض النيل التي وقعها في السودان في آذار/ مارس 2015.
"فقر شديد وشح مطلق"
مصر تعتمد على مورد مائي واحد هو نهر النيل بنسبة 98 بالمئة من مواردها المائية، فيما يذهب أكثر من 75 بالمئة منها لتوفير الأمن الغذائي عبر الزراعة، التي تشكل مصدر الرزق لأكثر من 50 بالمئة من المصريين، وفق أرقام رسمية.
وإزاء التعنت الإثيوبي والعجز المصري عن حل الأزمة ونكوص كثير من الدول العربية والدولية عن وعودها بدفع هذا الملف وبينها الإمارات والسعودية وحتى أمريكا أصبحت أقدم بلدان العالم في مجال الزراعة والتي تقع في أشد مناطق العالم ندرة في الأمطار مهددة بخسارة ملايين الأفدنة المنزرعة، وبوار أراضيها، بوصول البلاد لمرحلة الفقر المائي الشديد أو الشح المائي المطلق.
وفي 3 شباط/ فبراير الماضي، اعترف وزير الري المصري هاني سويلم، باقتراب مصر من خط الشح المائي، في ظل عدم الوصول لاتفاق مع إثيوبيا بشأن عمليتي الملء والتشغيل.
وفي 20 شباط/ فبراير الماضي، أشار إلى أن مصر تتصدر قائمة الدول الأكثر جفافا بأقل معدل لهطول الأمطار في العالم، كما تعاني عجزا مائيا يبلغ 55 بالمئة من احتياجاتها.
ويعني الشح المائي وصول نصيب المواطن من المياه لأقل من 1000 متر مكعب من المياه سنويا، لكن الأمر وفق خبراء بمجال المياه أخطر بكثير في مصر ويصل حد النقص المائي المزمن مع وصول نصيب المصري إلى 530 متر مكعب في العام الماضي، ووصوله 500 فقط نهاية العام الجاري، وفق تأكيد الخبير المصري عباس شراقي.
وفي المقابل، فإن خزينة الدولة المصرية التي تعاني شحا في العملات الصعبة وتآكلا في مدخراتها عليها أن تعوض النقص الحاد في المياه وما يتبعه من نقص المحاصيل الزراعية عبر الاستيراد من الخارج لتلك المحاصيل، ما يزيد من أزمات البلاد المالية والاقتصادية ويؤثر على إنتاج البلاد الصناعي.
وإزاء العجز المصري عن فك لوغاريتمات الموقف الإثيوبي فإن الحكومة المصرية تتجه لتعويض نقص المياه عبر إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، والتوجه نحو تحلية مياه البحر على ما به من تكلفة عالية وإرهاق للموازنة العامة للدولة المصرية.
وفي 13 أيار/ مايو الماضي أكد السيسي أنه مصر تواجه تحديا كبيرا في توفير المياه، موضحا أن إنشاء محطات لرفع المياه لاستصلاح الأراضي للاستفادة من 7.5 مليون متر مياه وري الأراضي المستصلحة في الصحراء بلغت حوالي 300 مليار جنيه نحو (6.25 مليار دولار).
وخلال ذات الحديث، قال وزير الري هاني سويلم إن حجم احتياجات مصر المائية يقدر بـ114 مليار متر مكعب سنويا، وأن مصر تستورد محاصيل غذائية من قمح وذرة وسكر لأنها ستحتاج في حالة زراعتها إلى 33.5 مليار متر مكعب من المياه، ما يقلل حجم الاحتياجات المائية إلى 88.5 مليار متر مكعب بين زراعة ومياه شرب وصناعة.
وأوضح أن إجمالي الموارد المائية بمصر من حصة مياه النيل وتحلية المياه ومياه الأمطار والمياه الجوفية العميقة غير المتجددة يصل إلى 60 مليار متر مكعب ما يشير لوجود عجز بأكثر من 20 مليار متر مكعب من المياه.
باحث مصري وآخر سوداني، قدما قراءة في دلالات حديث المسؤول الإثيوبي، وتطرقا إلى مدى جدية إثيوبيا في أمر بناء السدود، والمعوقات التي تواجهها، فيما أشارا إلى أن هدف تلك التصريحات استفزاز القاهرة والضغط عليها والحصول على تنازلات بملف سد النهضة خاصة مع الانشغال بأزمة الحرب في غزة، وأيضا استغلال الوضع السوداني المتأزم بالحرب الأهلية لأكثر من عام منذ نيسان/ أبريل 2023.
"مجرد ترهات لهذه الأسباب"
وقال مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية محمد حامد، إن "هذه التصريحات عن أن إثيوبيا ستبني سدودا بعد سد النهضة، ليست بأمر جديد، ولا هي المرة الأولى التي نسمعها من وجوه الإعلام الإثيوبي، وخلال المفاوضات بأن هذا السد ليس الأخير وأن هناك سدود أخرى".
الباحث المصري فند في حديثه لـ"عربي21"، الدعاية الإثيوبية موضحا أنه "لا يوجد أي إطار تنسيقي ينسق لبناء هذه السدود التي تزعم إثيوبيا، أنها ترغب في بنائها، كما أنه لا يوجد تمويل لبناء تلك السدود مهما روجت إثيوبيا لمثل هذا الأمر، لأنها ظلت أعواما دون أن يكون لديها قدرة على تمويل سد النهضة".
وتساءل: "والآن في ظل الأزمة مع مصر والسودان، كيف لأديس أبابا أن تمول السدود الجديدة مع استكمال تمويل بناء سد النهضة؟".
ولفت حامد، إلى أن "الوضع الداخلي لإثيوبيا سيء للغاية، والبلد هشة بسبب خلافات عرقيتي تيغراي وأمهرة مع الحكومة الاتحادية بأديس أبابا، خاصة بعد اندلاع حرب تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وبروز دور المليشيات المسلحة التي ترغب في أن يكون لديها غنائم كبيرة".
وأكد أن "تلك المليشيات تهدد عرش أبي أحمد"، ملمحا أيضا إلى أن "الوضع الجيوسياسي لرئيس الوزراء الإثيوبي ليس كما يروج تماما بوسائل الإعلام؛ فلديه أزمات داخلية كبيرة قد تُنهي حكمه".
وحول ما إذا كانت تلك التصريحات لاستفزاز القاهرة بشكل خاص للضغط عليها والحصول على تنازلات بمفاوضات سد النهضة، وتسخين الأجواء مجددا لاستغلال انشغال السودان ومصر بأزماتهما الداخلية والإقليمية، يرى حامد، أن "هذا الرجل هذا هو خطابه الإعلامي الدائم ولم يأت بجديد".
وألمح في نهاية حديثه إلى حصوله بمقابل تلك الأحاديث "على مكافآت من الحكومة الإثيوبية نتيجة ممارساته تلك هو الباحث الإثيوبي موسى شيخو، حيث أصبح الأول مستشارا وزير المياه والطاقة الإثيوبي وعضو بالبرلمان الإثيوبي"، مؤكدا أنها "وجوه إثيوبية ناطقة بالعربية تصدر وتروج تخاريف وترهات لا أحد يقتنع بها".
"رسالة للداخل الإثيوبي وإفريقيا"
من جانبه، قال الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية عباس محمد صالح: "أصبح سد النهضة أحد المصادر المهمة لتعبئة الرأي العام بإثيوبيا للتغلب على التناقضات الداخلية، ومحاولة توجيه قطاعات الشعب الإثيوبي نحو مشروع وطني يعتبر من إثارة الروح الوطنية في مواجهة الخارج".
وأضاف الكاتب والمحلل السياسي في حديثه لـ"عربي21": "كشفت دروس تجربة سد النهضة بالنسبة للجانب الإثيوبي أنه يمكن المضي قدما ليس فقط في إكمال المشروع؛ ولكن أيضا الاستمرار في مشروعات مائية مماثلة خاصة في ضوء وفرة الموارد المائية، وتوفر الإرادة السياسية، والرغبة في خوض التحديات الداخلية والخارجية".
صالح، يعتقد أن "هذه التصريحات ليست موجهة فقط للداخل؛ لكنها أيضا تنطوي على أهداف إقليمية"، موضحا أن "إثيوبيا تسعى للتحول إلى بلد قائد على صعيد قضايا المياه في القارة، حيث تصور تجربتها في بناء السد على أنها قصة نجاح يمكن أن تُحتذى إفريقيا".
ويرى أن "الطموحات الإثيوبية في بناء مشاريع مائية جديدة ليست جديدة، ولا حتى مفاجئة، إذ أنها جرت على ألسنة عدد من المسؤلين، فضلا عن النخب المختلفة، وهم يعتقدون أن الاستغلال الأمثل للموارد المائية سوف يعزز من قدرة البلاد على النهوض والتقدم ويصنع لها مكانة إقليمية".
وفي نهاية حديثه أكد أن "فشل دولتي المصب في تحدي إثيوبيا على مدى العقود الماضية من مفاوضات سد النهضة عامل آخر يشجع إثيوبيا لتقديم تجربتها في هذا الخصوص للدول الإفريقية الأخرى".
ولفت إلى أنها تسعى إلى "تكريس نموذج بشأن إمكانية الاستغلال المنصف والعادل للموارد المائية والتغلب على القيود الاستعمارية في هذا السياق، وتجاوزها نحو أسس جديدة في شأن توزيع وتقسيم حصص مياه الأنهار".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية سياسة دولية مصر نهر النيل مصر أثيوبيا نهر النيل المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ملیار متر مکعب مصر والسودان نهر النیل سد النهضة بالمئة من من المیاه بناء السد موضحا أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.
•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.
•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..
•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني