إسماعيل بن شهاب البلوشي

 

لعله سؤالٌ في منتهى الغرابة، ومع ذلك دعونا اليوم نذهب إلى العمق الذي يمكن أن نصل إليه في العلاقة المطردة ما بين التطور والمصلحة البشرية كما تسميه تطور.

لو عدنا إلى أكثر من 1000 عام من اليوم وقُدِّر لنا أن نتحدث مع إنسان ذلك الزمان الذي يحدثنا عن يومياته وطموحه ووسيلة نقله وطعامه وكيف يعدّه، وهل يمكن أن نتصور أنه يمكنه الحديث عن الطائرات والسيارات ووسائل الاتصال مؤكدًا لا، وبما أنه لا يعرفها ومتعايش وبمتعة مطلقة على ما هو عليه فهل أن لما ذكرنا حاجة أو ضرورة ومرة أخرى لا، فلقد كتبوا الشعر وافتخروا بما لديهم من مهارة وقوة وخبرة تناسب زمانهم؛ بل إن حياتهم ويومياتهم أكثر متعة لو قارنها بزمان اليوم الأكثر افتراضيًا مما هو واقع، وكذلك فهل أن التطور الذي نعيش لم يأتِ بسلبيات مسايرة لإيجابياتٌ لا يمكن حصرها، ولو تصورنا أن الحياة تبدأ بقاعدة عريضة لهرم وتصعد تطورًا، فهل أن المثلث في هذا الهرم مستمر في الالتقاء مع نقطة الصفر التي لا عودة عنها إذا أسقطنا عليه مستقبل البشر والصراعات والاختلافات والحروب.

نعم إن العالم شهد صراعات لا حصر لها ونعم في بعض من ملامح التاريخ قتل خلق كثير بنسبة وتناسب مع حجم الاختلاف وتعداد البشر في كل زمان ومع ذلك وإنه في الحرب العالمية الأولى فقدت الإنسانية 37 مليونًا من البشر وبعد 30 عامًا فقط أزهقت الحرب العالمية الثانية أرواح 60 مليونًا من البشر، وما بين العام 1945 إلى اليوم ما يقارب الثمانون عاماً وبمساحةٍ أكبر وبتطور علمي أنجزته البشرية فمن ناحية نعم إن الاتصال والطب ووسائل النقل وراحة السكن وغيرها تطور تطورًا مذهلًا ومع ذلك هل اكتفى الإنسان بذلك المضمار الإيجابي؟

فإذا كان حسابنا صحيحًا وإيجابيًا للبشرية فإن ذلك أمرٌ رائع أما إذا كان لذلك مسايرة لتطور مذهل في عالم السلاح الفتاك بشكل لا يمكن تخيله ولا حتى معرفة تفاصيله وأسراره في سباق محموم بين الدول.

فمن يستطيع تخيل ما يمكن أن يحدث للبشرية في حال نشوب حرب عالمية ثالثة وهي ليست ببعيدة فس حساب المعطيات في هذه المرحلة.

فإذا عدنا للإنسان الذي عاش قبل ألف عام من اليوم وأعدنا إليه السؤال بطريقة أخرى وقلنا له هل تريد أن تعود لحياة إنسان الغابة أو أنك تريد الحياة لما بعد ألف عام -بمعنى حياتنا اليوم؟

أعتقد جازمًا أنه سيختار حياته الفعلية، فكيف لي كعاقل لما يدور في الدنيا أن أهنأ بحياة مزورةً راحتها، ومبهم مستقبلها، السؤال الآخر من يقرر التطور هل هي فئة من البشر أو هي الحاجة أو أنها النقطة الأساسية وهي الصراع من أجل البقاء حتى لو أن لبعض السباق حتفًا للجميع ولا شك مطلقًا من أمر الخالق عز وجل.

سأترك للقاريء الكريم مجالًا آخر للحكم النهائي على تلك التداخلات المزعجة من خلال هذه التجربة حيث إن لي صديقًا عزيزًا مثقفًا بأعلى مستوى الثقافة وكذلك فإنه في حال ميسور إلى أبعد المستويات ونتبادل الحديث دومًا بشكل قد لا يرتاح إليه الكثير من الناس، ذكر لي أنه امتلك بيتًا في منطقة جبلية يذهب إليه للنزهة والراحة وكان كل يوم وبعد صلاة الفجر يمر من أمام منزله راعٍ يسير خلف غنمه ويعود عند الظهيرة، فراق له الأمر واستأذنه للذهاب معه فكان له ما أراد لم يكتفِ بمرة واحدة حيث إنه أحب الأمر وحمل بعض التمر والماء في حاوية تشبه حاوية الراعي فكانوا يقفون للراحة وشرب الماء وتذوق حبات التمر، فما هي النتيجة؟

نحن لم نتطور؛ بل إننا وبإرادتنا ضيقنا الخناق على أنفسنا ودخلنا سجنًا بإرادتنا، وأن لون الحياة الغني بالسعادة قرأناه في صورة التخلف، فهل تطورنا بالفعل ليقترب حتفنا، أم أنني أعيش رؤية مغايرة لا يُسايرني فيها الكثير، فلعل الأيام تجيب على تساؤلنا جميعًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أكذوبة "الإنسان العالمي"

كيف لنا أن نقتبس من إجابة سقراط شعاعاً معرفيّاً

في حلم هو أقرب للرؤيا، رأى أنه يسافر إلى أمة أخرى غير أمته في أقصى الأرض، وقد تغير جواز سفره الأصلي من ناحية الشكل، حيث امتدّ طولاً، وظل ثابتاً عرضاً، ولكنه لم يفقد جواز سفره الأصلي، فقد حملهما معاً، وبقي التعريف به موزعاً بين الإثنين، وبهما تم التعرف عليه، وتعريف نفسه أيضاً على طول رحلته، حيث كان يرافقه صحفياً شاباَ، وعد أن يذهب إلى مسافة أبعد.. إلى أرض عوالمها لا تزال مجهولة، سعْياً لمزيد من المعرفة.
تساءل، حين أيقظه الحلم قبل أن يصل إلى نهايته في الثالثة فجراً، تكدّر لأنه لم يتمّه، ولم يعرف نهايته، وحاول تفسيره، ولكنه لم يكن بتأويل الأحلام من العالمين، غير أنه توجَّس خيفة من ظنه القائل: "إنه رسالة تغيير مقبلة من عالم الغيب إلى برزخ ما قبل عالم الشهادة"، لكنه لم يعد إليه بعد ذلك على غير عادته في السنة الأخيرة من عمره، حيث كانت الأحلام تطارده، رفقة أحبَّة من الأموات، حتى غدوا في الأيام الأخيرة أكثر حضوراً من الأحياء، وهو ما كان يخيفه، لأنه لم يُنْهِ بعد التزامات كبرى تتعلق بحقوق الغير.
لم يكن بالنسبة له مُهمّاً أن يتذكر ما رأى في الحلم إلا أمراً واحداً وهو الحديث عن"الإنسان الكوني"، ضمن خطاب رائج يقصد به "الإنسان العالمي"، الذي يكون متخلصاً من عبء الأديان والثقافات والأوطان، وواضعاً عن نفسه أغلال القوانين والنظم والجغرافيا وأوزار الحروب، لكنه بالتأكيد لن يحمل حكمة سقراط ـ منذ القرن الخامس قبل الميلاد ــ الذي قال: "أنا لست أثينيّاً ولا يونانيّاً، أنا مواطن عالميّ"، وذلك إجابة عن سؤال وُجّه إليه ـ لا ندري إن كان من الخاصة أو من العامة ـ من أنت يا سقراط؟.
يرى البعض ممن أدركتهم فلسفة سقراط خلال تعاقب الأزمنة؛ وخاصة في عصرنا الحالي أن "إجابة سقراط جاءت منسجمة مع تفكيره ومبادئه الفلسفية والأخلاقية"، وهم محقون في ذلك إلى حدّ بعيد، ولكن كيف لنا أن نقتبس من إجابة سقراط شعاعاً معرفيّاً، ومرجعية نستند إليها اليوم في قراءة وتحليل واقعنا العالمي، أو تكون لنا القدرة على تحويلها إلى خطاب، ثم فعل، يصدران عن كثير من البشر في حياتنا المعاصرة، خاصة المستضعفين منهم، أولئك الذين يهزهم الشوق، وتغريهم الأماني بقوة بعد ضعف، وبحرية بعد استعباد، وبغنى بعد فقر؟
قد نجد الإجابة على المستوى النظري بخصوص البشر في تحقيق صفة "الكونيّة" في ذلك الخروج الظاهر للإنسان المعاصر ـ خاصة في الدول المتخلفة ـ من قوقعته الثقافية الصغيرة، وتجاوز جميع الانتماءات العرقية والوطنية والدينية الضيقة، وأحياناً يصل إلى درجة التمرد على ثقافته الأصلية وتطويع نفسه لثقافة أخرى يراها أفضل في إتاحة الحرية والكسب المادي والعيش بسلام، حتى لو كانت في الماضي عدائية له.
قد تمثل اختيارات البشر في بحثهم عن سبل الخروج من المحلية ـ الوطنية إلى ما أصبح يعرف بالكونية أو العالمية ـ القائمة على فكرة عدم التفريق بين الدول والثقافات والأعراق ـ هروباً ليس فقط من الأوطان والبشر، ولكن من الذات أيضاً.
الهروب من الذات والثقافة والوطن والقوم والأمة، يمثل أكذوبة كبرى ووهماً لما يطلق عليه "الإنسان العالمي"، لأن الاختيارات هنا تقوم على فكرة "صراع الأمم"، ما يعني أنه لا وجود لثقافة كونية واحدة، وإنما هناك اختلاف يؤدي إلى التعارف بين البشر والألسن والثقافات والأديان، ربما يتيح لنا فرصة الاختيار، أو تبديل واقع بآخر قد يكون أسوأ، ناهيك عن أن ذلك يعدّ اختياراً فردياّ، يرى فيه صاحبه؛ من حيث يدري أو لا يدري، أن السعي إليه هدفاً خاصّاً، لا صلة له بالكونيَّة.

مقالات مشابهة

  • اكتشاف كائنات مجنونة داخل أفواه البشر
  • خطط لاستهداف السفير السعودي.. منفذ حادث ماغدبورغ عرض مكافأة للوصول إليه
  • خليجي 26 وشوقنا إليه
  • تعيين الشيباني وزير خارجية جديد في سوريا.. تعرف إليه
  • آخر ما وصلت إليه مفاوضات غزة ومستجدات المرحلة الأولى - لا ضمانات
  • اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
  • بهجت العبيدي يدين الحادث الإرهابي المروع الذي وقع اليوم في ألمانيا
  • ما حجم النفط الذي يمكن أن يضخَّه ترامب؟
  • معهد أمريكي: ما الذي يمكن أن يخلفه سقوط الأسد من تأثير مباشر على اليمن؟ (ترجمة خاصة)
  • أكذوبة "الإنسان العالمي"