ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
لكل إنسان بلا استثناء قيمةٌ خاصة يُعامل ويَتعامل بها وعامة تحفظه من الإساءة والأذى، وهي قيمٌ معيارية ذات وزنٍ ونسبية يتراوح قبولها ورفضها بين شخص وآخر وتتفاوت مفاهيمها وتتطور قليلاً باختلاف المكان والزمان والعادات والمعارف لكنها لا تختلف في أصالة مفهومها، وبما أنَّ القاعدة في الكرامة هي استتبابها على الدوام فإنَّ ما يشذ عنها هو انتهاكها بفعلٍ جسدي أو قولٍ لفظي في أنواعٍ من الظُلم والاستغلال وأشكالٍ من التمييز والعنصرية، ولن تنعم المجتمعات التي ترسخ في ثقافاتها تلك الممارسات بالاستقرار والتسامح، مع أنها نزعات إنسانية تبنتها بعض المُعتقدات الخاطئة وبنتها على مراحل سابقة أعتقد معتنقوها تفضيلًا بأهليتهم المطلقة وأحقيتهم الكاملة، إلا أنها ستؤدي إلى انكشاف غطائها على البغضاء والتشاحن في يومٍ من الأيام مهما حاولوا إخفاءه.
قد يُوقع الكِبر صاحبه في اللؤم بسبب سوء تقدير استجابته في فهم معنى حفظ كرامته وهو اقترافٌ يستكره فيه ذاته لمُعالجة الخطأ بخطأ أكبر، لتجد عزة النفس هنا لها مدخلًا وهميًا جيدًا قادرًا على الإقناع بتجنب التقليل من القيمة الشخصية، وإن كانت عزة النفس تستند على وزن قوة الشخصية وثقل التصالح مع الذات بيد أنَّ الوقوع في الخطأ والاعتراف به وتبيانه قد يلتبس على البعض فيتجنبه مخافة الشعور بالذل والمهانة.
وتعتمد المُشتبهات بين الكرامة وضدها اللؤم وبين عزة النفس وضدها الذُل على تعالقات قيميةٍ بالغة العمق وتتأرجح بين الذات الحقيقية والخيالية وقد يقع البعض في صعوبة إدراكها لا سيما ضعاف الثقة بالنفس على عكس ذي الحكمة الواثق بنفسه، وقد تُمارس المَهانة علينا أو على غيرنا بطرق متنوعةِ وأشكالٍ عِدة بقصد أو دون قصد، كالاستنكاف من مخاطبة النَّاس بألقابهم أو إنزالهم منازلهم لسعةِ عِلمٍ أو كِبر سن، أو ربما لمظلمةٍ قديمة لا تُعرف حيثياتها أو خلافٍ بين أطرافٍ جل مقترفوها تحت الثرى أو حتى سوء فهمٍ غلب عليه سوء ظن، وكل هذه الأحوال هي طرائق بُنيت على سوابق انتجت تعابير عن عدم الرضا الداخلي لتظهر علنًا على مستويات من الازدراء والحط من المكانة وتختلف تقييماتها وانفعالاتها من شخص لآخر، ويقال إن من اعتاد ممارسة امتهان غيره، قابلٌ لتقبُّل المهانة على نفسه من الآخرين.
إنِّه لمن الضرورة التأهل النفسي للتعاطي مع كُل أمرٍ حسب أهميته، ومن التدبير الجيِّد التأمل قليلًا قبل الخوض في ردة الفعل والحكم على نوايا الآخرين لتجنب فتح الباب للكرامة وعزة النفس المترصدتين لإقحام نفسيهما في كل شاردةٍ صغيرة وواردةٍ سخيفة، ومن المستحسن إبقائهما بعيدًا قدر الإمكان حتى يجد حسن الظن لنفسه موطئ قدم ليقوم بعمله ويمهد لطريقه الطبيعي حتى يتَّخذ محله، والذي غالبًا ما يكسر بوادر الطلع الأولى لمجازف سرعة الحكم، وإن لم يجد المرء بعد ذلك في نفسه السكينة الطبيعية فإنَّ عليه من الحكمة التماس الأعذار للآخرين وسيجد فيها رحابة كافية لتسهيل الصعب وتبسيط المعقد وحل ما استشكل.
الإصابة في العلم والعمل رأس الحكمة ويجسدها حسن الرد وطيب التعامل، ومن الحكمة التأني بالردود واتقاء إيقاع الأحكام من طرف واحدٍ قبل الإحاطة التامة بكل الأسباب الظاهرة والجلية منها والخافية الباطنة إن أمكن دون ضرر أو ضرار، وربما يجد أحدنا شيئًا في نفسه من الدوافع التي تُشعره بخصاصة كرامته وهي في الواقع ليست كذلك كأن يقول: "لم يقدم لي دعوة فهو لا يُقدرني، أو لم يذكر اسمي فهو لا يحترمني" ومن أمثلة هذه الأغراض التي تضرب بين الإلهام الفطري السليم وغوائل وسوسة الشيطان غشاوة قاتمة تجعل من التفريق بينهما أمرًا صعبًا، لكن من أخلاقيات تدبير النفس الاستعانة بسؤال أهل الذكر والمعرفة والخبرة مخافة الوقوع في الظلم أو سوء الظن عندما تتعذر الأداة الذهنية في تقييم الموقف لاتخاذ خطوة الرد التالية ونوعيتها.
"إن لم يسألوا عنك فلا تسأل عنهم" نسمعها كثيرًا، وما لنا لا نسأل وما الذي سيُنتقص منَّا؟ ولماذا نقحم عزة النفس في شأنٍ لا شأن لها به؟! بل سنرُسِّخ قانون التواضع ونسأل ونستعلم ولن نسمح لوساوس النفس بتقطيع أواصر المودةِ والإخاء، ونسمع كذلك "إذا لم تكن مدعوًا فلا تذهب" وفي معزلٍ عن الكرامة التي لا مكان لها هنا سوف نعتمد على الحكمة في القياس، فإن كان الذهاب دون دعوةٍ هو أقرب رحمًا فذلك أولى، وهناك سِعة كبيرة في وضع المبررات والتماس الأعذار وتقع الأخطاء سهوًا في مثل هذه الأمور، وكذلك يقال "إن دعوك متأخرًا ارفض" وهذا تصرف لايخلو من التسرع المُشرب بالكبر في إلقاء الحكم على الآخر قبل معرفة السبب وإن قبول الدعوة واجب مالم يحل حائلٌ دون تلبيتها.
الكثير من الأمثلة المُشابهة والشبيهة بالشقوق الشعرية الدقيقة والتي يسمح الإنسان للأفكار السلبية بالتسرب من خلالها، حتى يتراكم قطرها ويلامس فيضها بإرادته شيئًا في خيالهِ وستصل في معظم الأحوال للنيل من كرامته وعزة نفسه، لكن تصدي الواثق بنفسه لها سيصنع له بين النَّاس مهابة، فإن بادر أو تعذر أو تقدم أو تأخر لن يجد في شخصهِ إصابة، ولايزدري أحدًا أو يستصغره ولا يقتنص منه معابة، ذلك لأن حسن ظنه مقدمٌ في الاستجابة والتماس الأعذار للنَّاس جسر عبوره فوق أفكار الرتابة وسلبيات القِلة النمامةِ المُغتابة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
محيي إسماعيل.. رحلة في عمق النفس البشرية عبر أدوار السينما والمسرح
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
عُرف ابن مدينة كفر الدوار الفنان محيي إسماعيل بأدواره المتميزة والمعقدة في السينما والتلفزيون، الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم الجمعة، ويعد أحد أبرز الفنانين الذين يجسدون الأدوار النفسية والشخصيات المركبة، فأجاد تقديم أدوار الشر، والجنون، والتوتر النفسي، حتى لقب بـ«رائد السيكودراما» في السينما المصرية.
أحد مؤسسي مسرح المائة كرسي التجريبي بالمركز الثقافي التشيكيدرس محيي إسماعيل في كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، كما التحق بقسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعمل لفترة في المسرح القومي، وقدم العديد من المسرحيات منها على سبيل المثال وليس الحصر: «الليلة السوداء، سليمان الحلبي، دائرة الطباشير القوقازية» وغيرها من المسرحيات التي حققت نجاحا كبيرا، ويعد من مؤسسي مسرح المائة كرسي التجريبي بالمركز الثقافي التشيكي عام 1969.
يمتاز محيي إسماعيل بأسلوبه الفريد والمثير للجدل في الحوار والتعبير، مما جعله شخصية استثنائية في الوسط الفني، من أشهر أفلامه الإخوة الأعداء، وخلي بالك من زوزو، ودموع بلا خطايا، والرصاصة لا تزال في جيبي، كما برع أيضًا في تقديم أعمال مسرحية وتلفزيونية، بالإضافة إلى التمثيل، وشغف الكتابة، فأصدر عدة كتب تتناول الفلسفة وعلم النفس.
أتقن محيي إسماعيل أدواره المركبة والمعقدة التي تتطلب قدرة عالية على التحليل النفسي والدخول في أعماق الشخصية، حيث استثمر موهبته واهتمامه بعلم النفس والفلسفة لخلق شخصيات تجسد حالات فريدة من التوتر والصراع الداخلي، ومن أبرز هذه الأدوار: حمزة الأرماني في فيلم «الإخوة الأعداء» عام 1974 وهو من أهم أدواره وأكثرها شهرة، حيث جسد شخصية الشاب المريض نفسيًا الذي يعيش بين التناقضات، ويظهر في صراع دائم مع محيطه ونفسه، أداؤه لهذا الدور أكسبه لقب «رائد السيكودراما» في مصر، إذ أبدع في نقل معاناة الشخصية وعزلتها النفسية.
تميز محيي إسماعيل أيضا بأدوار أخرى بارزة في أعمال مثل «الرصاصة لا تزال في جيبي» عام 1974، و«مولد يا دنيا»، و«بئر الحرمان»، و«الطائرة المفقودة»، و«شهد الملكة»، و«الكنز» وغيرها، حيث جسد فيها شخصيات تتعامل مع صراعات وجودية تتعلق بالموت والخوف والأمل في الحياة، وتمكن بفضل هذه الأدوار من طرح تساؤلات فلسفية ونفسية عميقة.
لم يكن محيي إسماعيل مجرد ممثل يؤدي شخصيات مركبة فحسب، بل كان لديه إلمام عميق بأبعاد هذه الشخصيات مما سمح له بالاستحواذ على قلوب المشاهدين، وترك بصمة لا تنسى في السينما المصرية.