ناجي ظاهر: لحظات في صُحبة كلاريس
تاريخ النشر: 3rd, August 2023 GMT
ناجي ظاهر كيف أكتب قصة؟.. سؤال طرحته على نفسي، مدة نافت على نصف القرن.. هي مدّة معاقرتي للكلام. في البداية كنت أطرحه على نفسي، أما فيما بعد، بعد أن بتّ واحدّا من كتّاب القصة وصدرت لي مجموعات قصصية عديدة، تضمّن بعضها قصصًا بات يُدرّس ضمن المناهج التدريسية في بلادي، فقد انضمّ إليّ اخرون في طرح هذا السؤال.
في كلّ مكان أذهب إليه تقريبًا يطرح عليّ مثل هذا السؤال، لا سيّما من قبل الطلاب الذين التقي بهم أو أنوي تعليمهم الكتابة الإبداعية في مجال كتابة القصة. فكيف تكتب القصة؟ وماذا عليك أن تفعل كي تتمكّن من كتابة قصة تلقى القبول وتحظى باهتمام القراء؟ وماذا يُطلب منك كي تنضم إلى نادي كتّاب القصة؟ أجيب بداية، أن حال كاتب القصة نادرًا ما يختلف عن حال سواه من كتاب القصة، المجلّين، فهو إنسان حسّاس، يمتلك درجة عالية جدًا من الحساسية، يعمل أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، كما يقول الكاتب دي فوتو في كتابه الآسر عن ” عالم القصة”، ويجسّد حساسية دائمة الاشتعال ومتميّزة تجاه الواقع، كما يري فرانك اوكونور في كتابه الهام عن الفن القصصي” الصوت المنفرد”. هذا الانشغال المتواصل وهذه الحساسية المتوترة، تدفعان بصاحبهما، لأن ينشغل بكلّ ما يحيط به، فتراه يتوقّف منشغلًا بالمرأة المسنّة الذي رآها وقد استقلّت باص الساعة السابعة المسافر من مدينته الناصرة إلى المدينة القريبة حيفا، ويرى ما وضعته على وجهها من أصباغ وعطور لا يمكن لعطّار أن يعيد إليه بهاء كان، فيقول لسان حاله إن العطار لا يُصلح ما أفسده الدهر، وقد ينشغل بهذه المرأة المسنّة، وينساها ثم يعود إليها ليتذكرها مجدّدًا، فإذا ما بقيت، انتابه إحساس، مثل ذاك الذي انتاب الكاتب العربي المصري يوسف إدريس، بقيمة ما وقعت عينه عليه من إيحاءات، أما إذا نسيها، فانه يتأكّد من أنها لا تستحق عناء التذكر وينساها إلى لا رجعة، آملا في قدحة أخرى، يبعثها” سقط زند” آخر على طريقة أبي العلاء المعري. إلحاح هذه المسنّة قد يدفع الكاتب مع مضي الوقت، لأن يوغل في عالم متخيّل لتلك المرأة، فهي مسنّة، إذن هي عاشت في زمن النضال الفلسطيني، في عام النكبة الفلسطينية، أما سبب سفرتها تلك فلا بدّ من أن يكمن وراءها سرّ، فما هو؟ إنه خبر غريب مذهل تلقّته تلك المرأة، على حين غرّة، من محبوب لها كان مقاتلًا إبان الفترة المشار إليها، ذاك المحبوب كتب إليها ما مفاده، انه أقام منذ عام النكبة في حيفا متشبثًا بأرض الوطن، وانه لم يتّصل بها منذ ذلك الوقت لسبب بسيط هو أنه لم يشأ أن يكون سببًا للتنغيص عليها وعلى حياتها الشخصية مع زوجها!! أما دافع كتابته لها، فانه يكمن في سبب لا يقلّ أهمية عن ذاك الذي جمع بينهما أيام فلسطين، هذا الدافع يتمثّل في أنه بات يشعر بأن أيامه قليلة على هذه الأرض، وأنه يريد أن يراها في لحظاته الأخيرة. تلك المرأة، وقد باتت واضحة المعالم وأطلق عليها خالقها مجدّدًا اسم كلاريس، حملت نفسها يوم الأحد، وانطلقت في باص الساعة السابعة إلى حيفا، بيدها عنوان ذاك الرجل الذي كان، على أمل أن تلتقي به ولو في لحظاته الأخيرة، لقد بات واضحًا أن تلك المرأة إنما تزيّنت واستقلّت الباص، في تلك الساعة، لتلتقي بحلم كان وآن لها أن تلتقي به ولو في لحظات رحيله الأخيرة. لكن هل ستلتقي حلمها ممثلًا بذلك الرجل؟ سؤال لا تجد له أية إجابة، لهذا تواصل السفر وفي عينيها أكثر من حلم. يتوقّف الباص أخيرًا في حيفا، هناك تُسارع للنزول منه، ترتقي درج البيت في الدور الذي حدّده لها. قبل أن تصل بخمس من الدقائق، تنطلق صرخة، إنها صرخة مدوّية تنبئ بموت ألفته وعرفت بأية نبرة من الصوت يـُعبـّر عنه الناس. في تلك اللحظة تدرك أنها لم تتأخر منذ ذلك العام، عام النكبة، إلى العام التي تعيش فيه، وإنما تأخرت دقائق، لا تعدو عدد أصابع اليد الواحدة، فتعود على عقبيها. ترون والحالة هذه، أن القصة ولدت من منظر مميّز ترك تأثيره الخاص في نفسية صاحب القصة، ثم تشكلت في أبعاد ذات علاقة بما عاشه الكاتب من تجربة حياتية، كونه ابنًا لعائلة من المهجّرين الفلسطينيين وفدوا للإقامة في مدينة الناصرة، بعد تهجير إسرائيل ألقسري لهم من قريتهم سيرين، وهي مهدّمة حاليًا وكانت تتبع لمنطقة بيسان. كما ترون.. القصة ابتدأت بتلك المرأة المُسنّة، ثم تنقّلت معها لتعيش بعضًا من هواجسها وأفكارها، ثم انتهت تلك النهاية الفاجعة التي قادت إليها الأحداث، بكلّ ما تضمنته من فجائعية حفلت بها” التغريبة الفلسطينية”! صاحب القصة، كما قد ترون أيضًا، اعتمد على مخزون لا باس به من المعرفة بالنفس الإنسانية، كما استعان بتجربة حياتية يومية لها زمانها ومكانها، فهي لا تحلّق في فضاء الخيال إلا لترتد إلى الواقع، ولا تتضاد مع الواقع إلا لتلتصق به أكثر، هي باختصار تحاول أن توجد مساحتها المتخيّلة الذاتية، غير أنها لا تقوم بأي تعاكس مع الواقع، بقدر ما تحاول أن تتصالح معه عبر فتحها نافذة جديدة على الرؤيا، تضيف إليه، ولا تنتقص من حدّته. بناء على هذا كلّه، يمكننا ملاحظة أن صاحب القصة إنما يعيش تجربة فريدة من نوعها ويحاول دائمًا أن يقدّمها إلينا على أنها الواقع، علمًا أنها ليست الواقع بحذافيره، وإنما هي واقع متخيّل قد يكون أشد صدقًا من الواقع، أقول هذا لسببين أحدهما أننا في القصة نلمس واقعًا متكاملًا، وليس مُجتزءًا، كما هو الشأن في الحياة اليومية المعيشة، والآخر أنه يقف وراء القصة، كاتب ذو حساسية دائمة الاشتعال، لا يخبو لها أوار، وهو ما يمكّن صاحبها من تقديم واقع متخيل ومتكامل أيضًا.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الفوضى وأثرها على الأمم
لعل السؤال الأبرز اليوم في هذا الكوكب هو: ما الذي يجري؟ لماذا كل هذا الانهيار في القيم؟ وفي النظم الأخلاقية؟ لماذا ينحدر العالم إلى الحضيض؟ لماذا تعلن روسيا استراتيجية الأمن الثقافي القومي؟ ولماذا المسلمون يتقبلون الواقع على مذهب ذلك الأعرابي الذي قال: أخذوا الأبل فأوسعتهم سبا؟.
نحن اليوم نعيش واقعا متموجا ومضطربا وقلقا، اليسار العالمي تصدع وبانت شروخه في جدار الزمن، والنظم الديمقراطية أخفقت في تقديم النموذج الأخلاقي الشريف الذي ينتصر للإنسان، والمسلمون في غفلة الوقت فكهون يكتفون ببيانات التنديد والشجب وبالتظاهرات، في حين تقوم التطبيقات الاجتماعية في تفكيك نظمهم الأخلاقية، وجرهم إلى عالم التفاهة، وليس من مشروع حضاري قادر على البقاء والصراع في هذا الواقع المتموج والمنحدر إلى الأسفل.
قبل سقوط بغداد عام 2003م كان هناك مصطلح الفوضى الخلاقة، وبعد سقوطها شاعت هذه الفوضى حتى رأينا البناءات الاجتماعية والنظام العام والطبيعي يتداعى إلى درجة السقوط في الكثير من البلدان، ثم شاعت فكرة الفوضى في الفنون والآداب، وحاول الكثير من أرباب الفنون عن طريق الفوضى الخلاقة إيصال رسالة التشظي والانكسار والانهيار إلى الناس خاصة المجتمع العراقي كمجتمع مستهدف مطلع الألفية الثالثة، وبعد اجتياح فوضى الربيع العربي وانهيار النظم العامة والطبيعية في الكثير من البلدان العربية، ها هي فكرة الفوضى الجديدة تبرز من جديد كقوة تحارب جنبا إلى جنب مع النظام الرأسمالي في مواجهة روسيا التي سارعت إلى الإعلان عن استراتيجية الأمن القومي الثقافي، كجزء من استراتيجية الصراع مع الغرب الذي يفرض النظم الأخلاقية الجديدة التي تستهدف الإنسان في قيمته المادية والمعنوية وتحويله إلى كيان فوضى ومسخ .
الغرب اليوم يقر بحقوق التحول الجنسي، ويقر المثلية، ويقر الممارسة الجنسية مع الحيوانات، ويستهدف الإنسان حتى يصبح كيانا خاليا وعاطلا من أي محتوى قيمي، أو إنساني من خلال نظم الفوضى الخلاقة، وقد نشأ في الغرب نفسه تيارات فكرية مناهضة لهذا التوجه السياسي للنظام الدولي، وصدرت عدد من الكتب، هذه الكتب تناقش فكرة النظام الأخلاقي الجديد، كيف تبدأ الأفكار؟ وكيف تصبح في مخيلة المجتمع؟ وكيف يتخيل المجتمع وجوده الاجتماعي في العلاقات والتعامل البيني؟
فالمتخيل الاجتماعي فهم عام مشترك يجعل الممارسات الاجتماعية ممكنة كما تذهب إلى ذلك الكثير من النظريات الاجتماعية الحديثة.
اليوم نحن نعيش في زمن ما بعد الحداثة العالم يطرح رؤى فلسفية، ومتخيلات لنظم أخلاقية، ويعمل على فلسفة القيم ويعيد بناءها بعد القيام بنظم التفكيك وبما يتسق مع المستوى الحضاري المعاصر.
نحن كعرب وكمسلمين ما الذي نقوم به؟
هذا السؤال هو السؤال الأهم في سياق ما يحدث حولنا من انهيارات وهزائم للنظم الأخلاقية والقيم النبيلة التي كانت تنتصر للإنسان في سالف الزمان والعقود.
السؤال المطروح سؤال وجودي في عالم يسيطر على الموجهات الكلية والعامة، ضرورة الإجابة عليه لا تعني بالمطلق بيانات الإدانة والشجب ولا التظاهرات والحملات الإعلامية التي تنتهي في ظرف زمني وجيز لا يتجاوز الساعات وربما الثواني المعدودة.
نحن أمام حرب ثقافية وهذه الحرب تواجه بمثلها، فالصاروخ والدبابة والبندقية لا تحسم فيها معركة، ولذلك فخوض المعركة – وهو أمر حتمي – يتطلب وعيا متقدما وفهما للواقع واستراتيجيات، وخطط واضحة المعالم والأهداف، ويمكننا العودة إلى زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب للاستفادة من طرق وأساليب إدارة المعركة مع هذا الغول المتوحش الرأسمالي الذي بدأ يشيع في حياة البشرية نظريات الفوضى وتمتين علاقتها مع نظريات أخرى مثل نظرية الاحتمالات، ونظرية الكارثة، ونظرية التعقيد.
التفكير العلمي والمنطقي الذي يستمد مقوماته من تغيرات الواقع، ويحوّل ذلك إلى تصورات في محاولة لتفسير هذا الواقع هو الطريق القادر على الوقوف أمام هذا التوحش.
فالفكر العلمي المعاصر تتخلله رؤى جديدة إلى الواقع في مختلف مستويات الوجود، تعبر إلى حد ما عن انفصال وقطيعة مع ما تحقق في الماضي ولا بد لنا من معالجة الظواهر بما يتسق وضرورات المرحلة الحضارية والثقافية.
يقول الكاتب خليفة داوود: ” لقد قدم الفكر العلمي الجديد نماذج معرفية صنعتها عدة نظريات، لاسيما في ميدان الفيزياء، وكان من أهمها: ميكانيكا الكم ونظرية النسبية… وما صاحب ذلك من تغير بعض المفاهيم العلمية الأساسية كالانتظام والاطراد والتنبؤ والاتصال..، وبرزت إلى الوجود أبحاث تسعى إلى الكشف عن تفاصيل الظواهر الطبيعية؛ فتوصل بعض العلماء إلى أن ظواهر الطبيعة لا هي بمطردة وغير منتظمة ولا يمكن التنبؤ بها، ومن ثمّ فإن إمكان فهم الطبيعة باستعمال المنهج الرياضي لا يصمد – في كل الأحوال – أمام ما تزخر به ظواهر الطبيعة من تفاعلات غير متوقعة”.
نحن في معركة كبرى اليوم ولا بد لنا من استخدام النظم المعرفية والنظريات حتى ننتصر، فالمعركة التي أعلنت عن نفسها اليوم هي معركة كبرى البقاء فيها للأكثر معرفة بقوانين الطبيعة وبنظم المعرفة وبالمستويات الحضارية التي تحتاج إلى الانتظام والأخلاق بما يتسق مع التطورات، فالفوضى لن تكون إلا دمارا شاملا للأمم والشعوب.