على أبواب غزة.. هل تدفع المقاومة جنود الاحتلال إلى الانتحار؟
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
في الثاني عشر من مايو/أيار 2024، كشفت صحيفة هآرتس أن 10 من قوات دولة الاحتلال الإسرائيلي أقدموا على الانتحار منذ بدء طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، بعضهم قام بذلك خلال مواجهات مع المقاومة الفلسطينية. اعتُبر عدد المنتحرين مرتفعا، لدرجة دفع إدارة جيش الاحتلال إلى تكثيف برامج الرعاية الصحية التي تعالج الميول الانتحارية، خاصة داخل الشرائح العمرية التي تفشت فيها هذه الظاهرة وهم العسكريون الذين بلغوا العقدين الثالث والرابع.
ركزت هآرتس في تقريرها على حالة ضابط في الخدمة، كان قد وُجد في سيارته قتيلًا بإطلاق النار على نفسه بعد أسبوعين من طوفان الأقصى، وعلى الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي أنه لا رابط بين الحدثين، فإن أقارب وزملاء الجنود المقدمين على الانتحار أفادوا بأن بعض الجنود القتلى "عانوا من ضائقة نفسية بعد اندلاع الحرب".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2بالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق الوعرةبالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق ...list 2 of 2العمارة والمقاومة.. القصة الكاملة لمخطط سجن الفلسطينيين في مدنهمالعمارة والمقاومة.. القصة الكاملة لمخطط ...end of list الموت ثم الانتحاريعتبر العلماء منذ عقود أن الانتحار هو السبب الرئيس للوفاة في معظم الجيوش بعد القتل في المعارك، إذ يعاني الجنود في أحيان كثيرة من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب الأحداث القاسية التي عايشوها أو شاركوا فيها أثناء القتال. تشكل هذه الأحداث عبئا نفسيا ثقيلا على الجنود، بذكريات مريعة يصعب في بعض الأحيان الشفاء منها أو تجاوزها، ويدفعهم ذلك في بعد الأحيان إلى التفكير في الانتحار، وفي أحيان أخرى إلى الإقدام عليه.
وتظهر دراسة في دورية "سايكولوجيكال تروما" أن الأبحاث في هذا النطاق ترى أن المحاربين القدامى الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة عرضة أكثر من غيرهم لخطر الانتحار بمقدار الضعف مقارنة بأولئك الذين لا يعانون من هذا الاضطراب. وبشكل عام فإن معدلات الانتحار بين الجنود تزيد في أعقاب الصراعات الكبرى، مما يعني أن أثر هذه الاضطرابات قد يستمر بعد الحرب.
هناك بالطبع أسباب أخرى متنوعة، بعضها يتعلق بالميل الوراثي إلى الاضطراب النفسي ومن ثم الإقدام على الانتحار، وبعض آخر يتعلق بالشعور بالوحدة وصعوبات مكان العمل والجداول الزمنية المضطربة وزيادة التوتر وقلة النوم. وإضافة إلى كل هذه العوامل، يأتي عامل مساعد يسهل الانتحار في وسط الجنود مقارنة بعامة الناس، وهو توفر أداة الانتحار: السلاح.
كل ما سبق، يتعلق بالحروب النظامية، تلك التي يواجه فيها جيش منظم جيشًا آخر في نفس تنظيمه العسكري تقريبا، لكن في حالة الحرب القائمة حاليا على غزة، فإن الأمر يختلف قليلا، وذلك لأن المقاومة الفلسطينية تقاتل جيش دولة الاحتلال بنمط الحروب غير النظامية حيث لا مواجهات عسكرية بفرق وألوية، كما هو الحال في الحرب التقليدية. يعتمد هذا النوع من الحروب على تكتيكات قتالية غير معهودة لتقليل تأثير فارق العدد والعتاد بين القوتين، فتكون الكمائن وهجمات الكر والفر وأسلحة القنص داخل التضاريس الحضرية وانتقاء المعارك في الزمان والمكان الملائمين أمثلة على التكتيكات الفعالة.
وفي هذا السياق يظهر سلاح طالما استخدمته المقاومة لتنفيذ كمائنها، وهو العبوات الناسفة، ويعدّ فريق من العلماء هذا السلاح سببًا إضافيًّا لبث مستويات عليا من القلق والتوتر في قلوب الجنود؛ مما قد يدفع بعضهم إلى الإقدام على الانتحار.
(الجزيرة) عبوات تنسف الروحالعبوات الناسفة هي قنابل رخيصة الثمن محلية الصنع، تحتوي على مكونات عسكرية وغير عسكرية، قد تُستخدم في الكمائن على جانب الطريق بحيث تعترض القوات المهاجمة أو خطوط إمدادها، ويكون تركيبها في المداخل أو المباني لضرب فرق الجنود، وقد يكون تركيبها على العربات والدبابات لتدميرها. كما أن هناك طرقا لا حصر لها لصنعها، ويمكن تطويعها لأي غرض بحسب المهمة، فتتمكن من اختراق الدروع وهدم المباني وضرب الجنود إن كانوا في فرق حرة، كما تمكنت المقاومة من إسقاطها من مسيّرات على تجمعات لجنود الاحتلال.
في عام 2017 لاحظ فريق الباحثين في جامعتي ماريلاند وهارفارد الأميركيتين أن نسب انتحار الجنود تصاعدت بشكل خاص في حرب الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان، حيث كانت العبوات الناسفة تحديدًا تشكل تهديدا حقيقيا (جديدًا وقتها). استُخدمت العبوات الناسفة في أكثر من 100 هجوم شهريا بحلول نهاية عام 2003، وبحلول أبريل/نيسان 2005 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 1000 هجوم شهريا، وارتفع الرقم إلى أكثر من 2500 هجوم شهريا بالعبوات الناسفة بدءا من صيف عام 2006، وبحلول نهاية عام 2007، كانت العبوات الناسفة مسؤولة عن نحو 63% من قتلى قوات التحالف في العراق، وتسببت في أكثر من 66% من قتلى قوات التحالف في حرب أفغانستان.
تتميز العبوات الناسفة بتنوع استخداماتها كما أسلفنا، مما يزيد عدم اليقين بشأنها من قبل الجنود، فقد تنفجر فيهم في أي مكان، حيث يمكن أن تأتي من تحت الأرض أو من بين الجدران أو تسقط من السماء. لهذه الأسباب رأى الباحثون أن التعرض المباشر للعبوات الناسفة أو التوجس المستمر من وجودها في أي مكان، قد أدى إلى ارتفاع خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بين الجنود الذين خدموا في أفغانستان والعراق، فهم دائمًا في حالة خوف وترقب قَلِقٍ ومُرهِق من أي مفاجأة تخطف حياتهم في لمح البصر.
تظهر هذه الدراسة ارتباطا واضحا بين تكرار استخدام العبوات الناسفة شهريًّا خلال الحروب في العراق وأفغانستان وبين محاولات الانتحار بين جنود الجيش الأميركي، مع زيادة الخطر الإجمالي بنسبة 30٪ تقريبًا لكل 1000 حادث عبوات ناسفة إضافية في الشهر، وسيظهر هذا الارتباط بشكل أقوى في صفوف الجنود الذين لم يقضوا أكثر من عامين في خدمتهم العسكرية. يبني هذا الفريق البحثي فرضيته على أن التهديدات الجديدة التي لا يمكن السيطرة عليها تزيد الخوف والضيق، وأن هذا التأثير يتفاقم بسبب قلة الخبرة.
(الجزيرة) شراسة حرب الشوارعبشكل أوسع يتجاوز العبوات الناسفة حصرا، تعتبر المواجهات غير النظامية من مصادر القلق النفسي الحاد، حيث من الممكن أن تساهم هذه التكتيكات في هذا النوع من الحروب في إحداث ضغوط نفسية فريدة مقارنة بالحروب التقليدية بسبب عدم اليقين الشديد المحيط بأجوائها، وهو ما قد يساهم بالتبعية في زيادة معدلات الانتحار بين الجنود.
يظهر ذلك بوضوح في الحروب الحضرية مثل حرب غزة، تلك التي يكون للمُدافِع فيها ميزة على المهاجم بوجود الأول داخل تضاريس تُمكِّنه من الاحتماء واصطياد الطرف الآخر. وتوفر التضاريس الحضرية دائما نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية مهمة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع بالنسبة لجندي دولة الاحتلال مهمة خطيرة جدا. يسهِّل ذلك على جنود المقاومة أيضا بناء الكمائن المتخفية لاستهداف جنود الاحتلال، وهنا يكون لبنادق القنص مثلا دور فعال في هذه النوعية من المعارك، أضف إلى ذلك أن الأنفاق تفتح الباب لجنود المقاومة كي يتحركوا بحرية أكبر داخل المدينة، ويمكّنهم ذلك من الظهور كأنهم أشباح يظهرون من اللامكان بالنسبة لجنود الاحتلال. هذا النوع من التكتيكات الذي يتضمن ظهورًا مفاجئًا، وتنفيذ عمليات سريعة ثم الاختفاء عن الأنظار هو بالضبط ما يترك أثرا نفسيا شديد الإرباك في جنود دولة الاحتلال.
تنطوي الحرب التقليدية على خطوط أمامية واضحة وأعداء يمكن التعرف عليهم بسهولة، لكن تكتيكات الحرب غير النظامية تشمل هجمات لا يمكن التنبؤ بها؛ مما يُحدث حالة تأهب قصوى مستمرة. أضف إلى ذلك أن الحرب غير النظامية تتطلب من الجنود العمل في وحدات صغيرة معزولة لا كتائب كبيرة كما يحدث في حالة الحرب التقليدية، ويمكن أن تؤدي العزلة إلى الشعور بالوحدة، وهي كذلك عوامل خطرة تؤدي إلى التوتر النفسي الشديد؛ مما قد يدفع إلى الاكتئاب والانتحار، خاصة مع استمرار العمل فترات طويلة.
والواقع أن من سمات هذا النوع من الحروب أنه يستمر فترات طويلة؛ مما يؤدي إلى عمليات انتشار طويلة الأمد دون تحقيق تقدم أو نصر واضح. عدم وجود نهاية واضحة في الأفق يمكن أن يسبب مشاعر اليأس والعجز؛ مما يساهم في الاضطراب الشديد وتدهور الصحة العقلية.
يأتي ذلك في سياق مهم، حيث أظهر استقصاء أجرته منصة "ميليتاري تايمز" لأعداد المقدمين على الانتحار في الجيش أن سلاح الدبابات بشكل خاص واجه ضِعف عدد الضحايا، ولا تزال هذه الأرصاد بحاجة إلى تأكيدات بحثية، لكنها تتفق مع الفكرة القائلة بأن ظروف الضغط الشديد في الحرب تدفع بعضا من الجنود إلى الاضطراب، خاصة أن سلاح الدبابات يكون عادة في مقدمة المعركة ليفتح الباب لجنود المشاة، وجنود هذا السلاح عادة ما يقبعون في أماكن ضيقة مغلقة فترات طويلة، ويمكن تدمير هذه الدبابات بقذيفة ترادفية من مسافة أقل من 50 مترا، وهو ما يعني حشر الجنود داخل قنابل مؤقتة.
استخدام التكتيكات غير المتماثلة أو أسلوب حرب العصابات يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بين الأفراد العسكريين مقارنة باستخدام التكتيكات التقليدية (الفرنسية)ضبابية قاتلة
قواعد الاشتباك في الحرب غير النظامية غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا وغموضًا؛ مما يؤدي إلى الارتباك والتوتر بين الجنود، ويمكن أن يؤدي عدم اليقين هذا إلى زيادة التوتر والقلق، حيث يخشى الجنود أن يؤدي اتخاذ القرار الخاطئ إلى عواقب وخيمة، الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد قواعد الاشتباك والقرارات العملياتية.
أظهرت الأبحاث القليلة التي أجريت حول هذا النطاق أن الجنود الذين يتعرضون لتكتيكات غير نظامية عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة أكثر من أولئك الذين يشاركون في القتال التقليدي، لنفس الأسباب وهي التعرض لفترات طويلة من التهديدات غير المتوقعة في بيئات حربية، الأمر الذي يساهم في ارتفاع معدلات اضطرابات القلق والأفكار الانتحارية.
وأشارت إحدى الدراسات الصادرة في 2016 من جمعية علم النفس الأميركية إلى أن استخدام التكتيكات غير المتماثلة أو أسلوب حرب العصابات يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بين الأفراد العسكريين مقارنة باستخدام التكتيكات التقليدية. تناولت هذه الدراسة معدلات تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة في عينة من المحاربين القدامى ووجدت أن هؤلاء الذين واجهوا تكتيكات غير نظامية كان تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة أكثر بضعفين من غيرهم.
وفي دراسة أخرى تضمنت بيانات عن جميع الأفراد العاملين في الجيش الأميركي من عام 1819 إلى عام 2017، أشارت النتائج إلى أن حالات الانتحار انخفضت تاريخيا خلال زمن الحرب، ولكن هذا النمط قد تغير خلال الحروب في فيتنام والعراق وأفغانستان، وهي ثلاث حروب واجه الجنود الأميركان خلالها حربا غير نظامية.
شكّلت التكتيكات المختلفة للمقاومة تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ تركت صدًى نفسيًّا داخل جيش الاحتلال (غيتي) القلق في كل مكانفي تصريح للفاينانشيال تايمز قبل بدء حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، يؤكد جندي إسرائيلي عمل خبيرَ متفجرات في عملية تفكيك الأنفاق مدة تسع سنوات أن ما يواجه جنود الاحتلال في غزة هو "كابوس.. لكنه كابوس حقيقي"، قائلا إنه على الجنود دائما التحرك ببطء وحذر، وإن الطرف الآخر (يقصد المقاومة) يتحرك بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه.
يتجلى هذا النوع من التوتر بسبب التكتيكات غير النظامية في حادثة مقتل جنود إسرائيليين كانوا في الأسر. تقول رواية جيش الاحتلال إنه أثناء اقتحام أحد المباني في 10 ديسمبر/كانون الأول 2023 سمع الجنود نداءات بالعبرية يقول أصحابها "نحن مخطوفون"، "النجدة!"، وحملوا لافتة مكتوبا عليها "النجدة! 3 رهائن"، لكن جنود جيش الاحتلال اعتقدوا أنها حيلة أعدّها جنود القسام لإيقاعهم في كمين شرق مدينة غزة؛ فقَتلوا الأسرى الثلاثة خطأً.
ما اكتشفناه لاحقًا أن هذا الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال، كان له ما يبرره؛ إذ استَخدمت كتائب القسام هذا التكتيك البسيط الفعال أكثر من مرة، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد استخدمت الكتائب كذلك مكبرات الصوت التي يخرج منها صوت ناطق بالعبرية، بل وظّفت العرائس وحقائب الظهر والمجسمات التي تستخدم في عرض الأزياء للإيقاع بجنود الاحتلال، أو لدفعهم إلى طريق مختلف للوقوع في كمين مجهز مسبقًا.
لذا، فقد شكّلت هذه التكتيكات المختلفة تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ تركت صدًى نفسيًّا داخل جيش الاحتلال. وهو ما تسبب في حالة من الارتياب الشديد مع ضغط نفسي هائل على جنود الاحتلال، وربما كان ذلك السبب وراء حادثة غريبة أخرى حين استيقظ أحد جنود دولة الاحتلال في منتجع علاجي تابع للجيش في عسقلان فزِعًا وأطلق النار بشكل عشوائي، فتسبب في إصابة بعض زملائه.
هذا هو الوضع اليوم في غزة، حيث يمكن لكل همسة أو حركة طفيفة أو صوت ورقة شجر جافة تتكسر تحت قدمي جندي، أن تتحول إلى كمين يرمي بالمحتل إلى الجحيم، في كل لحظة وفي كل ثانية هناك عبوة ناسفة جاهزة للانفجار، أو رصاصة مسددة من قناص في المنزل المقابل نحو جندي تنتزع روحه مرة، وتصعّد أرواح زملائه خلفه في كل يوم مرات ومرات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد اضطراب ما بعد الصدمة العبوات الناسفة دولة الاحتلال جنود الاحتلال جیش الاحتلال غیر النظامیة على الانتحار هذا النوع من بین الجنود یؤدی إلى أکثر من یمکن أن فی حالة أن یؤدی
إقرأ أيضاً:
تصدِّي الجنود المصريين لجيش بريطانيا في معركة الإسماعيلية ملحمة خالدة
فى الخامس والعشرين من شهر يناير، يحتفل الشعب المصرى بعيد الشرطة كل عام فى ذكرى معركة الإسماعيلية المجيدة التى تجسدت فيها بطولات رجال الشرطة وقيم التضحية والفداء والاستبسال دفاعاً عن تراب الوطن، وكانت ملحمة كفاح ونضال ستظل على مر العصور شاهدة على نبل البطولة وشرف الصمود.
«الوطن» تُعيد سرد أحداث ملحمة الشرطة فى 25 يناير عام 1952، حيث سطرت الشرطة المصرية واحدة من ملاحمها الخالدة فى التاريخ المصرى، وهى معركة الإسماعيلية المجيدة، عندما تصدت قوات الشرطة المصرية بعددها وعتادها المتواضع لجيش بريطانيا العظمى، أكبر دولة فى العالم.
معركة الإسماعيلية مهدت الطريق أمام ثورة يوليو 1952 وأنهت الحكم الملكى فى مصر، ومن ثم فإن توثيق معركة الشرطة ضد الاحتلال فى الإسماعيلية حق أصيل للأجيال لترسيخ التضحيات والانتماء والولاء للوطن، وإلقاء الضوء على تضحيات القوات المسلحة والشرطة، وذلك من خلال تضمينها فى المناهج التعليمية للنشء ضمن خطة دعم الأمن الفكرى للأجيال الجديدة لمعرفة ما حدث فى ذلك اليوم التاريخى، ونستعرضه فى المشاهد التالية:
إلغاء معاهدة 1936قررت حكومة الوفد الاستجابة لمطلب الشعب بإلغاء معاهدة 1936، وأعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس، فى مجلس النواب، يوم 8 أكتوبر 1951، إلغاء المعاهدة التى فرضت على مصر الدفاع عن مصالح بريطانيا، وتصاعدت الأمور بعد أن قرر 91 ألف عامل مصرى مغادرة معسكرات البريطانيين للمساهمة فى حركة الكفاح الوطنى، والتجار يمتنعون عن إمداد المحتلين بالمواد الغذائية.
تتوتر الأجواء بين الشعب المصرى وقوات الاحتلال الإنجليزى، وتصل الأعمال الفدائية ضد قوات بريطانيا العظمى ذروتها، وتكبدت قوات الاحتلال خسائر فادحة، وسط اشتداد أعمال التخريب والأنشطة الفدائية وتصاعد وتيرتها ضد معسكراتهم وجنودهم وضباطهم فى منطقة القناة من خلال الفدائيين، وتكبدت قوات الاحتلال البريطانى خسائر لا تقدر بثمن، فى نفس الوقت ينسحب العمال المصريون من العمل فى معسكرات الإنجليز، ما أدى إلى وضع القوات البريطانية بمنطقة القناة فى حرج شديد، وأزعجت تلك الأفعال حكومة لندن، فهددت باحتلال القاهرة إذا لم يتوقف نشاط الفدائيين، غير أن الشباب لم يهتموا بهذه التهديدات ومضوا فى خطتهم غير عابئين بالتفوق الحربى البريطانى، واستطاعوا، بما لديهم من أسلحة متواضعة، أن يكبدوا الإنجليز خسائر فادحة.
إنذار للشرطة المصريةيستدعى القائد البريطانى بمنطقة القناة، «البريجادير إكسهام»، ضابط الاتصال المصرى، وسلّمه إنذاراً لتُسلِّم قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وترحل عن مبنى المحافظة ومنطقة القناة وتنسحب إلى القاهرة، وجاء هذا الإنذار بعد أن أدرك البريطانيون أن الفدائيين يعملون تحت حماية الشرطة، لذا خطط الاحتلال لتفريغ مدن القناة من قوات الشرطة حتى يتمكنوا من الانفراد بالمدنيين وتجريدهم من أى غطاء أمنى.
استمروا فى المقاومةيجلس وزير الداخلية فؤاد سراج الدين فى مكتبه، يتلقى اتصالاً من قائد قوات الشرطة فى الإسماعيلية، اللواء أحمد رائف، كان نصها:
- ألو.. حوّلنى على فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية.
- مين يا أفندم؟ أنا اللواء أحمد رائف، قائد بلوكات النظام فى الإسماعيلية.
- حاضر يا أفندم..
- معالى الوزير صباح الخير يا أفندم..
- صباح النور.. يا أفندم قوات الاحتلال البريطانى وجّهت لنا إنذاراً برحيل قوات البوليس عن مدينة الإسماعيلية، وإحنا يا أفندم رافضين وقررنا المقاومة ومنتظرين تعليمات سعادتك..
- حتقدروا يا أحمد؟..
- يا أفندم مش هانسيب الإسماعيلية حتى لو ضحينا بآخر نفس فينا..
- ربنا معاكم.. استمروا فى المقاومة.
حصار مبنى المحافظةاشتد غضب القائد البريطانى فى القناة، بعد رفض رحيل قوات البوليس، ويأمر قواته بمحاصرة قوات شرطة الإسماعيلية، تتحرك القوات، ويحاصر أكثر من 7 آلاف جندى بريطانى مبنى محافظة الإسماعيلية، والثكنات التى كان يدافع عنها 850 جندياً فقط، ما جعلها معركة غير متساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المحاصَرة.
ويقابل قائد قوات الاحتلال (إكسهام) اليوزباشى مصطفى رفعت، قائد بلوكات النظام الموجودة بمبنى محافظة الإسماعيلية، لإخلاء المبنى، وكان هذا نص المكالمة:
- إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سأبدأ أنا بالضرب، لأن تلك أرضى، وأنت الذى يجب أن ترحل منها ليس أنا.. وإذا أردتم المبنى.. فلن تدخلوه إلا ونحن جثث.. ثم تركه ودخل مبنى المحافظة.
داخل مبنى المحافظة يتحدث اليوزباشى مصطفى رفعت إلى جنوده وزميله اليوزباشى عبدالمسيح، وقال لهم ما دار بينه وبين (إكسهام)، فما كان منهم إلا أن أيّدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال، على الرغم من عدم التكافؤ الواضح فى التسليح، حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعاً ما.
قامت القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة كنوع من التخويف لقوات الشرطة، أدت إلى تدمير غرفة الاتصال «السويتش»، بالمبنى، وأسفرت عن استشهاد عامل الهاتف، بدأت بعدها المعركة بقوة، التى شهدت فى بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين.
الإصراريخرج اليوزباشى مصطفى رفعت، قائد قوة بلوكات النظام الموجودة داخل مبنى المحافظة، إلى ضابط الاحتلال البريطانى فى مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصرى، فتوقفت الاشتباكات ظناً من قوات الاحتلال أن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب الإتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، وفقاً لتقاليد الحرب الشريفة التى اعتاد عليها المصريون.
رفضت قوة الاحتلال واشترطت خروج الجميع أولاً والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت، وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، التى لم يغب عنها أيضاً أهالى الإسماعيلية الشرفاء، حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة، لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح لقوات الشرطة، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.
اشتباكات عنيفةتستمر الاشتباكات بشراسة، بدأت الذخيرة فى النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضاً مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعاً فاتحة كتاب الله والشهادتين، بمن فيهم الضابط المسيحى اليوزباشى عبدالمسيح، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشى مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال (إكسهام)، أملاً منه فى أن يؤدى ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه، وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من (إكسهام)، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشى مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشى رفعت إلا أن يبادله التحية وفقاً للتقاليد العسكرية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال (ماتيوس)، قائد قوات الاحتلال البريطانى فى منطقة القناة بالكامل.
خروج مذليتحدث الجنرال (ماتيوس) إلى اليوزباشى مصطفى رفعت، وقال له إنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وإنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدام البنادق التى معهم ووقوفهم أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطانى المتعددة، ولا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك، مع الموافقة على شروطه، وهى أن يتم نقل المصابين وإسعافهم بشكل فورى، وأن الجنود الذين سيخرجون من المبنى لن يرفعوا أيديهم على رؤوسهم، بل سيخرجون بشكل عسكرى يليق بهم، مع ترك أسلحتهم داخل المبنى، فوافق الجنرال (ماتيوس) على تلك الشروط، وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بها وهم فى طابور منظم.