عبد الله علي إبراهيم
روعت طوائف كبيرة من السودانيين بمقتل الملازم أول (معاش) محمد صديق إبراهيم، على يد "الدعم السريع" يوم الـ18 من مايو الماضي، عند مصفاة الجيلي شمال الخرطوم. وصدم الناس الفيديو الذي بثته العناصر التي قتلته، محاطاً بهم ينال الصفع من يدهم. وكان الصفع لأنه لم يجب عن سؤالهم وعن كيف وجدهم ووقع في أسرهم.

وتوقعوا كلمة راضية منه عنهم. ولكنه قال "في أية ناحية؟" وصارت عبارته وسماً طغى في الوسائط. وليست هذه مرة صديق الأولى التي يصدر فيها عن يقين شجاع في وجه الزعزعة عن عبارة تسري مسرى النار في الهشيم كما سنرى.
وانتاب الروع لمقتل صديق من على ضفة القوات المسلحة التي ضحى بجانبها، ومن هم على ضفة "الدعم السريع"، أو بين ذلك قواماً بمن فيهم الإسلاميون. ومرد ذلك لأن سيرة الضابط مذ لمع اسمه في ثورة ديسمبر2018 تقاطعت مع هذه الطوائف جميعاً، فلا تملك أي منها إلا أن تواطئ طوراً من سيرته القصيرة الحافلة. فكان أيقونة الثورة على نظام "دولة الإنقاذ" وجيشها، بما في ذلك قوات "الدعم السريع"، واستشهد في صف الجيش ضد "الدعم السريع". فاستنفد المواقف جميعاً.
وسطع نجم صديق في ثالث يوم لاعتصام الحراك ضد حكم الرئيس المخلوع عمر حسن البشير (1989-2019) أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم في التاسع من أبريل (نيسان) 2019. فخرج في قلة من الضباط ليحول دون الاعتداء على المعتصمين ممن تربص بهم الجيش و"الدعم السريع"، لإنهاء حشدهم بأي سبيل. وتحقق لهم ذلك في ليلة من رمضان قبيل العيد (الثاني من يونيو 2019)، فأوسعوهم ترويعاً وقتلاً أمام بوابات القيادة العامة. ووقف صديق وسط الحشد المروع الذي عشم من اعتصامه أن يخرج من الجيش من يرجح كفة ميزان القوى لصالحه، ليكون الواحد الذي يشكل أغلبية. وناشد صديق في كلمته إخوانه من شباب القوات المسلحة أن يخرجوا لإعلاء كلمة الحق والوقوف إلى جانب الشعب. وعلت الهتافات من حوله إلى عنان السماء "سودانا فوق فوق سودانا فوق. استلمها أنت (أي خذ بزمام الأمر)" ليرد صديق بأنهم لم يخرجوا لاستلام السلطة، وإنما لحماية المعتصمين، وأن يظلوا في وقفتهم تلك حتى يسقط النظام. وجاء بالعبارة التي خلدته في ذاكرة الثورة "الرهيفة تنقد" من أدب الفروسية السودانية. أي أن النظام لو وجد وهناً فينا فلينفذ منه ويقضي علينا، ولكن هيهات.
وبالطبع، لم يسعد الجيش بـ"تمرد" صديق. ولم يحل انتصار الثورة في الـ19 من أبريل 2019 دون إحالته للتقاعد في فبراير (شباط) 2020، في كشف ضم ضباطاً آخرين وقفوا مع المعتصمين بصورة أو أخرى. وردت "لجان المقاومة" على ذلك الإجراء بحق صديق، بموكب "رد الجميل" الذي قدم مذكرة إلى مجلس السيادة بمطلب إصلاح القوات المسلحة وإعادة صديق ورفاقه إلى مواقعهم فيها. وبرر الجيش قراره بحق صديق ببيان قال فيه، إنه كان خالف قوانين الخدمة بالقوات المسلحة ولوائحها. وذكر له اعتداءه على أفراد من الشرطة بقسمها بحي الحاج يوسف الشعبي حيث يسكن. وكان صديق قد أمر سائق حافلة بأن يتوجه إلى قسم الشرطة ليفتح بلاغاً ضده لرفعه قيمة التذكرة دون مبرر. ولما لم تقبل منه الشرطة البلاغ، أو ماطلت، اشتبك معهم، فأخذوه إلى القيادة العامة بعدما اتضح لهم أنه أحد منسوبيها. وفي حديث لـ"الجزيرة" قال صديق إن الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان جنح لإعادته بعد أن أثار عليهم تضريج موكب "رد الجميل" بالدم الثائر، حتى قرر مجلس الأمن والدفاع فتح تحقيق في ملابساته. وأضاف أن دولة الإنقاذ العميقة التي لا تزال ذات سطوة هي التي تقف وراء إحالته إلى المعاش. وزاد أن البرهان اعتذر له عن الإجراء بحقه، لأنه لم ير كشف الإحالات إلا بعد صدوره. وعرض عليه العودة إلى الخدمة. فاستنكر محمد عليه ألا يعرف عن إحالته إلى المعاش، وهو الذي لا يقع شيء في الجيش دون علمه كقائد عام، ورفض العرض.
ولم يسمع أحد عن صديق منذ إحالته إلى المعاش واضطراب أحوال الثورة التي انتهت بالانقلاب على حكومتها الانتقالية في الـ25 من أكتوبر 2022، واندلاع الحرب بين القوات المسلحة وقوات "الدعم السريع" في الـ15 من أبريل 2023. ولكنه ظهر على فيديو بتاريخ الثاني من ديسمبر 2023 ليعلن من بلدته شندي في ولاية نهر النيل قراره الاستنفار إلى جانب القوات المسلحة، بعد أن فشل في العودة إليها من باب نفرة الضباط المعاشيين، التي نادت لها هي نفسها لتعزيز صفوفها. فقال إنه اتصل بعد اندلاع الحرب بالفرقة السابعة في القيادة العامة لاستيعابه ضابطاً في خدمة الحرب، فردوه لأن الأمر ما احتاج بعد، وسيستدعونه متى اتفق لهم ذلك. ثم لبى استدعاء نفرة الجيش لضباطه المعاشيين للعودة إلى الخدمة. فبلغ لوحدته التاسعة من سلاح المظلات بقاعدة وادي سيدنا، فانتظر 90 يوماً أبلغوه بعدها أن القيادة العامة لم توافق على إنزاله طابوراً في حين أذنوا لغيره بالعشرات. فانفعل وقال لرئيس شعبة في القيادة إن "على الوطن السلام إن كنتم تملكون صكوك الوطنية توزعونها بالاسم على الناس". وقال إن "الفات مات، ونحن ولاد الليلة"، فاعتبر نفسه منذ اليوم الثاني من ديسمبر 2024 مستنفراً ضمن قوات المقاومة الشعبية كرجل سوداني، قبل أن يكون ضابطاً.
وبدا أنه على خلاف مع الجيش في التزامه الدفاع عن مواقعه، والامتناع عن الهجوم على مواقع "الدعم السريع". وقال إما كان الجيش رجالاً مهاجمين أو "علي الطلاق" ستخرج القوى الوطنية من كل فج في البلد، إما رفعوا راية السودان أو سقطوا شهداء. وقال إن دعوة "لا للحرب" دعوة عاطلة، لأنه لم يتفق لها أين الحق في هذه الحرب، وأين الباطل. وأضاف أن حث أهلها للجيش على الجلوس إلى التفاوض لا يليق والأموال نهب "الدعم السريع" والنساء أسرى. وتوجه إلى البرهان بشيء من الإنذار، فقال إنه إن لم يغير خطته حتى الأول من يناير 2024 بالهجوم على "الدعم السريع"، (في مقابل خطة الدفاع المتبعة)، في كل منطقة بالسودان، سيكون هو أول من يخرج من شندي في الهجوم على مصفاة الجيلي، التي يحتلها "الدعم السريع". فهو جاهز. فإذا طلعت القوات المسلحة للهجوم في أول يناير كان معها، وإذا قعدت لن يكون من القاعدين. وسيأتي يوم أول يناير وسيرى الناس قراره "والله لو فضلت أنا بس محمد صديق، وأعوذ بالله من كلمة أنا، أطلع من شندي وأهاجم المصفاة". وعاد إلى عبارته الأثيرة "والرهيفة تنقد".
ليس صعباً تصور الإرباك الذي أحدثه مصرع صديق في خطاب الحرب القائمة. فعابر للضفاف مثله يزلزل سدنتها بين واقف مع الجيش أو واقف ضده، حتى لا نقول مع "الدعم السريع". فقل من الكتاب من ذكر له المأثرتين. فمن مع الجيش في ضفة الحرب ذكر له استشهاده بيد "الدعم السريع" في حين غض المناوئون للجيش حتى عن ذكر وقفته مع الثورة التي ينسبونها لأنفسهم، لأن ذكرها لا يستقيم مع مصرعه في ركب الجيش. وهناك من أطلق العنان يخيط المأثرتين معاً، مجازفاً كيفما اتفق.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوات المسلحة القیادة العامة الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

الجيش السوداني يقترب من استرداد القصر الرئاسي .. قال إنه صدّ هجوماً كبيراً شنته «الدعم السريع» في شمال كردفان

اقترب الجيش السوداني من استرداد القصر الرئاسي في وسط الخرطوم، الذي تسيطر عليه «قوات الدعم السريع» منذ بداية الحرب في أبريل (نيسان) 2023. وتتقدم قوات الجيش باتجاه القصر من عدة محاور، بينما استردّت قواته، المسماة «متحرك الصياد»، مدينة أم روابة؛ ثانية كبرى مدن ولاية شمال كردفان في غرب السودان. كما أعلن الجيش صد هجوم «قوات الدعم السريع» على مدينة أو روابة، الأربعاء، وألحق بها «خسائر فادحة»، وأن طيرانه الحربي «يلاحق القوات الهاربة».

ومنذ عدة أيام، يواصل الجيش هجماته على مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع» في محاور مختلفة، حيث أحرز تقدماً سريعاً.

وقال شهود في الخرطوم إن قوات قادمة من مقر القيادة العامة للجيش تخوض قتالاً شرساً مع «قوات الدعم السريع»، وتتقدم في شارعَي «الجمهورية» و«الجامعة» باتجاه القصر الرئاسي الذي يبعد عن مقر قيادة الجيش نحو كيلومترين. وتوقعت مصادر أن يسترد الجيش القصر الرئاسي في وقت قريب، إذا واصل تقدمه بوتيرته الحالية.

ووفقاً لشهود ومنصات للتواصل الاجتماعي، فإن قوات الجيش دخلت حي «العزبة» في مدينة بحري، إحدى مدن العاصمة الثلاث، بعد أن استردت حي «دردوق» وحي «نبتة»، واقتربت من حي «الشقلة» في منطقة شرق النيل بمدينة بحري. كما حقق الجيش تقدماً في منطقة أم بدة بمدينة أم درمان.

تقاسم العاصمة المثلثة

ويتقاسم طرفا الحرب مناطق متداخلة في العاصمة المثلثة «الخرطوم الكبرى» التي تتكون من مدينة الخرطوم، ومدينة أم درمان، ومدينة بحري. وكان الجيش قد أعلن، يوم الأربعاء، بسط سيطرته على جسر «المك نمر» من جهة مدينة بحري، ويتقدم نحو وسط المدينة. لكن «قوات الدعم السريع» لا تزال تسيطر على أحياء كافوري، وكوبر، وشرق النيل، وسوبا، وغيرها، مع وجود جيوب مقاومة ببعض المناطق الأخرى.

وفي مدينة الخرطوم، استعاد الجيش سيطرته على أحياء الرميلة، والحلة الجديدة، وبعض أنحاء حي جبرة، بينما تسيطر «قوات الدعم السريع» على المنطقة الواقعة شرق مقر «القيادة العامة» للجيش وعلى مطار الخرطوم، وأحياء الصحافة والخرطوم 2، والخرطوم 3، وامتداد الدرجة الثالثة، وأركويت، والرياض، والطائف، والمنشية، والجريف، والبراري.

كما لا تزال «الدعم السريع» تسيطر على الأحياء الجنوبية من مدينة الخرطوم، بما في ذلك السوق المركزية وأحياء السلمة، وسوبا، ومايو، وعد حسين، والكلاكلات، وتمتد سيطرته حتى شرق ضاحية جبل الأولياء.

وفي مدينة أم درمان، استطاع الجيش استرداد أجزاء كبيرة من المدينة، باستثناء جنوبها وغربها، بينما تبقت بعض أحياء محلية أم بدة، والسوق الشعبية، والمربعات، والشقلة، وصالحة، وتمتد جنوباً حتى ضاحية جبل الأولياء من جهة الغرب.

معارك الغرب

وفي ولاية شمال كردفان، ذكر شهود أيضاً أن قوات الجيش، القادمة من جهة الشرق باتجاه مدينة أم روابة، ثانية كبرى ولايات شمال كردفان، حققت تقدماً مكّنها من استرداد المدينة من سيطرة «قوات الدعم السريع». من جانبه، أعلن الجيش، على صفحته في منصة «فيسبوك»، أن قواته المدعومة بالطيران الحربي دحرت هجوماً كبيراً شنته «قوات الدعم السريع» على المدينة، يوم الأربعاء، وألحقت بها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، في معركةٍ استمرت أكثر من خمس ساعات.

وأضاف الجيش أن الطيران الحربي يلاحق ما تبقّى من «قوات الدعم السريع» الفارة، لكن هذه القوات الفارة «استهدفت أحياء المدينة وبعض مراكز الإيواء بالقصف المدفعي»، نتج عنه مقتل ثلاثة مواطنين وجرح ثمانية.

وتبعد مدينة أم روّابة عن العاصمة الخرطوم بنحو 300 كيلومتر، وهي مركز تجاري مهم وسوق كبيرة للحبوب الزيتية، كما أنها تُعد ملتقى طرق حديدية وبرية تربط ولايات غرب السودان وجنوب كردفان بالخرطوم وبميناء بورتسودان.

كمبالا: الشرق الأوسط: أحمد يونس  

مقالات مشابهة

  • حميدتي يعترف بخسارة قوات الدعم السريع مناطق لصالح الجيش (شاهد)
  • حميدتي يعترف بخسارة قوات الدعم السريع مناطق لصالح الجيش
  • الدعم السريع يعترف بالانتكاسات ويتعهد بطرد الجيش من الخرطوم  
  • السودان.. حميدتي يقر بخسارة "الدعم السريع" مناطق لصالح الجيش
  • الجيش السوداني يقترب من استرداد القصر الرئاسي .. قال إنه صدّ هجوماً كبيراً شنته «الدعم السريع» في شمال كردفان
  • مقتل القائد بالدعم السريع جلحة.. بسلاح الجيش أم ببندقية أهله؟
  • الجيش يشن هجومًا على الدعم السريع في محيط أم روابة غربي البلاد
  • الجيش السوداني يقترب من القصر الرئاسي وسط انسحابات مستمرة لقوات الدعـ ـم السريع
  • في قبضة الجيش السوداني.. عربة مدرعة ومنظومة حرب إلكترونية وتشويش على الطائرات المسيرة للدعم السريع
  • السودان: قصة ناجٍ من الموت بين مطرقة الدعم السريع وسندان الجيش