حاجةٌ قصوى إلى إيقافِ هذه الحربِ الَّتي تدورُ رَحَاها بين آثارِ وباءٍ ظاهرة وجائحةٍ أخرى “لا مفرَّ من وقوعِها”
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
محمَّد خلف
ما دفعنا لكتابة هذا المقال -غيرُ حالةِ البؤس المُطبِقة ومرارةِ الفقد اللَّاصِقة في الحَلق من جرَّاءِ الحربِ الدَّائرة- أمران، أوَّلهما: تحذيرٌ من عالِمٍ بريطانيٍّ لحكوماتِ الدُّولِ بالاستعداد لدرءِ جائحةٍ "لا بُدَّ من وقوعِها"؛ وثانيهما: وقوفٌ غريزيٌّ مع الدَّعوة إلى الإيقافِ الفوريِّ لهذه الحرب.
في سورتَي "مريم" و"آل عمران"، يسألُ زكريا ربَّه أن يمنحه وليَّاً يرثه ويرث من آل يعقوب؛ فلمَّا أتته بشارةٌ من الملائكة، سأل ربَّه مرَّةً أخرى أن يجعل له آيةً (بأنَّ البشارةَ صادقةٌ): "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا"، في سورة "مريم"، الآية رقم "10"؛ (و"قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا"، في سورة "آل عمران")، بمعنى أن تصومَ عنِ الكلام أو "تتوقَّف" عنه طيلة هذه المدَّة المحدَّدة؛ أي أنَّ "وقف" هذا النَّشاط اللُّغويِّ اليوميَّ الحيوي يتمُّ على خلفيَّة المدَّة الزَّمنيَّة التي تمَّ تحديدُها في الآيتين بثلاثةِ أيَّام. وهذه العلاقة بين أشياء العالم وخلفيَّاته (الَّتي أدركها الغشتالتيُّون) هي أمرٌ ضروريٌّ لإدراكِه في مجالِ الحقيقة، وإلَّا تماهى شكلُ الأشياءِ مع خلفيَّاتِها (كما ظهر مؤخَّراً في احتجاجِ البعضِ على ظهور صورة الملك تشارلز الثَّالث بزيِّه القِرمِزيِّ على خلفيَّةٍ قِرمِزيَّة)؛ أمَّا لدى الملكِ الحقِّ، فينتفي هذا القانون الأرضيُّ المحدود؛ لذلك، جاء وصفُه لمَثَلِ نورِه (وليس لنورِه ذاتِه) في السُّورة رقم "24" على خلفيَّةِ مشكاةٍ (أي أنَّ نورَه نفسَه لا يُمكِنُ النَّفاذِ إليه، بدليلِ الكُوَّةِ غيرِ النَّافِذة): " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (سورة "النُّور"، الآية رقم "35").
يشتمل الرُّكن الأوَّل للإسلام (وهو الشِّهادة) على إقرارَيْن؛ الإقرارُ الأوَّل يحتوي على أبلغِ عبارةٍ في اللُّغةِ العربيَّة، وهي عبارة "لا إله إلَّا الله" (وتُسمَّى بالتَّهليل) الَّتي يُكتفَى بها أحياناً في الذِّكرِ والتَّسبيحِ وقيامِ اللَّيل؛ وهي عبارةٌ تصِلُ إلى أقصى درجاتِ البلاغة، لأنَّها جملةٌ كاملة مكوَّنة من أربعِ كلماتٍ من ضمنها اسم الجلالة، استُخدِمت فيها ثلاثةُ أحرفٍ فقط، هي الألف واللَّام والهاء؛ والإقرارُ الثَّاني قائمٌ على الأوَّلِ بأنَّ محمَّداً رسولُ "الله"، الاسم الأعظم المكوَّن من هذه الأحرفِ الثَّلاثة ذاتِها؛ ولولا وجودُ "وقفٍ" مُدرَجٍ بين الإقرارَيْن، لَما أمكن الانتقال من الأوَّل إلى الثَّاني، على خلفيَّة الزَّمن المتتابعِ دوماً إلى الأمام. ويتطلَّبُ إقامةُ الصَّلاةِ خمسَ مرَّاتٍ في اليوم "وقفَ" جميعِ الأنشطةِ ما عداها، ويتكثَّف ذلك "الوقفُ" في يوم الجمعة، حيث يتمُّ التَّشديدُ على ترك جميع الأعمال والمصالح الحيويَّة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (سورة "الجمعة" الآية رقم "٩")؛ وإيتاءُ الزَّكاةِ مرَّةً كلَّ عام وفي الأعياد هي أن "يُوقِفَ" الفردُ مالاً لصرفِه على الفقراء، وكذلك هو دورٌ لديوانٍ لها ولمصلحةِ "الأوقاف" يتمثَّل في رصدِ مالٍ للفقراء؛ ورمضانُ صومٌ، أي "وَقفٌ" للمأكل والمشرب وسائرِ العاداتِ اليوميَّة المُستكرَهة، في الشَّهرٍ القمريِّ التَّاسع؛ أمَّا الحجُّ، فهو "وقوفٌ" بعرفة وبقيَّة "المواقف" -أي الأماكن المقدَّسة- مرَّةً واحدة في العمر لِمَن استطاعَ إلى ذلك سبيلا. ويتدرَّجُ هذا "الوقفُ" من محضِ تجريدٍ في "الشَّهادة" إلى تعيينٍ مخصوصٍ في "الحج"، عبر الصَّلاةِ والصِّيام وتخصيصِ حصَّةٍ من المالِ للفقراءِ والمساكين وستَّةِ أوجهٍ أخرى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (سورة "التَّوبة"، الآية رقم "60").
ويُطالَبُ المؤمنُ بأن يقولَ الحقَّ (وهو الخيرُ) أو لِيَسكُتَ عنِ الكلام؛ وما نُريدُ قولُه في هذا المقال هو تأكيدُ الحاجةِ القصوى لإيقافِ الحرب؛ فالشَّعبُ المغلوبُ على أمرِه "يُريدُ دولةً لا مزيد"، لوقفِ النَّزيف والنُّزوح، وتأمينِ أماكنَ للنُّجوع، تمهيداً للاستعداد لصدِّ جائحةٍ مًحتَّمةِ الوقوع؛ فإنْ وقعت بالفعل تحت ظلِّ ضبابِ الحروب، فلن تترك شخصاً واهِناً على ظهرِ البسيطة، ناهيك عن دولةٍ تلفُظُ بالكادِ أنفاسَها الأخيرة. ففي (25 مايو) الماضي، قال السِّير باتريك فالانس، المستشار العلمي السَّابق للحكومةِ البريطانيَّة، إنَّ حدوثَ جائحةٍ أخرى "أمرٌ لا مناصَ من وقوعِه"، وحثَّ الحكومةَ المُقبِلة (في أعقاب الانتخابات العامَّة في "4 يوليو") على التَّركيز على الاستعدادات، مُكرِّراً ما قاله لقادةِ "مجموعة السَّبع" ("جي سيفن") في عام (2021) بأن تكونَ حكوماتُها أسرعَ بكثير، وأن تكونَ أكثرَ توافقاً؛ كما طالبها بأن تستعِدَّ لذلك مثلما تستعِدُّ لخوضِ الحروب. وفي بلدٍ يخوضُ حرباً لم يكن مستعِدَّاً لها أصلاً، سيكون التَّصدِّي للجائحة أمراً عسيرا، ناهيك عنِ التَّوافقِ والتَّنسيقِ مع الحكوماتِ الأخرى لمجابهتها، بوجودِ دولةٍ متهالِكة أنهكتها الحربُ وحكومةِ أمرٍ واقع سِمةُ قادتِها المُكابَرة وليس قول الحقِّ؛ فيما لا نقرأُ ولا نسمعُ من طرفي الصِّراع سوى حملاتٍ مكثَّفة من التَّضليل. وقد ظنَّ الطَّرفانِ في البدء أنَّ الحربَ مجرَّدُ معادلةٍ صفريَّة، سيفوزُ بها عاجلاً واحدٌ منهما لِيُملِيَ شروطَه على الخاسر؛ ولكنَّ الإحساسَ الغريزيَّ لدى عامَّة النَّاس كان وما زال مع "الوقفِ"، مدعوماً بعاطفةٍ دينيَّة لإرساء الصُّلح؛ أمَّا ما تكشَّف لاحقاً، وما يتأكَّدُ يوماً بعد يومٍ أنَّ هذه الحربَ أصبحت منذ مدَّةٍ طويلة معادلةً لاصفريَّة، الجميعُ فيها خاسرٌ، خصوصاً الفقراء والمساكين؛ ولا يربحُ على هامشِها سوى فئةٌ ضالَّة وأفرادٌ محدودون، هم تُجَّارُ الحربِ وسماسرتُها؛ فإذا حلَّتِ الجائحة، لن ينجوَ حتَّى هؤلاء؛ فاوقفوها فوراً، يرحمكمُ الله.
algassas@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على خلفی
إقرأ أيضاً:
كيف سينعكس اتفاق غزة على العلاقات بين الفصائل الفلسطينية؟
بعد 16 شهرا كاملة من حرب الإبادة الجماعية المدمرة للشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، نجح الوسطاء من مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية في إقرار اتفاقية بين الاحتلال الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية تضمن تبادل المحتجزين والأسرى ووقف إطلاق النار وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية.
ويتساءل البعض عن مدى انعكاس هذه الاتفاقية على العلاقات بين الفصائل الفلسطينية وبعضها البعض والمصالحات الفلسطينية - الفلسطينية.
القاهرة ستبذل مجهود كبير من أجل المصالحة الفلسطينية الفلسطينيةالدكتور أيمن الرقب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس أكد على ضرورة دعوة الفصائل الفلسطينية مرة أخرى للاجتماع في القاهرة وأن تتحدث بشكل منفتح حول شكل وآلية ترتيب قطاع غزة بعد الحرب.
وتوقع الرقب أن تبذل القاهرة جهدا كبيرا من أجل إتمام هذا الأمر ويتم تجاوز الأزمات الداخلية وترتيب البيت الفلسطيني من الداخل ووضع استراتيجيات واضحة فلسطينية لشكل اليوم الثاني لوقف الحرب في غزة وتجديد الشرعيات الفلسطينية بشكل ديمقراطي وفتح مسارات سياسية للحديث عن دولة فلسطينية.
وأشار في تصريح لـ«الوطن»، إلى أن عدم وجود مشروع سياسي يعني أن المواجهات قد تعود مرة أخرى وأن نعود للتدمير والدمار والاشتباكات، مطالبًا بتحويل كل هذه الدماء لتكون بوابة لمشروع سياسي، معتبرًا أنه جهدا يجب أن يٌبذل فلسطينيا أولًا ثم عربيا ودوليًا.
17 عام من الخلاف الفلسطيني يجب أن ينتهيأما الدكتور عبدالمهدي مطاوع المحلل السياسي الفلسطيني فقد أكد أن تجربة الـ 17 عاما من الخلافات بين الفصائل الفلسطينية والتي أوصلت الفلسطينيين لهذه المرحلة يجب أن تنعكس على مراجعة شاملة تقوم بها حماس وحلفائها من الفصائل، بناءً عن هذه التجربة المريرة التي ارتهنوا فيها كل شيئ لمحاور يحكمها مصالح غير مضمونة.
وطالب «مطاوع»، الفصائل الفلسطينية بأن تنضوي في البيت الفلسطيني وأن تبتعد عن هذا الارتهان حتى لا تتكرر مأساة حرب غزة مرة أخرى، معتبرًا أن صفقة هزيلة مثل هذه لا توازي حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني في هذه الحرب، مشددًا على أنها ضرورية لإيقاف شلالات الدم.