لا أعتقد أن قضيه الدين والدولة تحتاج منا إلي مائدة مستديرة أو عقد مؤتمر دستوري لأن هذه القضية حصل حولها وفاق كان قد تمثل في تبني الدولة المدنية في مواجهه من ينادون بالدولة الدينية من جهة ومن ينادون بالدولة العلمانية من جهة ثانية. وكان قد اجمع علي ذلك كل الاحزب السياسية في مؤتمر القضايا المصيرية الذي نظمه التجمع بأسمرا منتصف تسعينات القرن الماضي مثلما أجمع علي تلك المبادئ دستور ٢٠٠٥ م الإنتقالي.
حيث جاء في مقررات مؤتمر القضايا المصيرية في هذا الشأن مايلي:
" ب- الدين والسياسة في السودان :
١- إن كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الاقليميه والدولية لحقوق الإنسان تشكل جزءا لا يتجزء من دستور السودان الدائم وأي قانون أو مرسوم أو قرار أو إجراء مخالف لذلك يعتبر باطلا وغير دستوري.
٢- يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسا علي حق المواطنة وإحترام المعتقدات والتقاليد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة ويبطل أي قانون يصدر مخالفا لذلك ويعتبر غير دستوري.".
كذلك جاء في دستور ٢٠٠٥م والمبادئ الموجهة مايلي
"الفصل الأول. الدولة والدستور
1. طبيعة الدولة
جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وهى دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان.
تلتزم الدولة باحترام وترقية الكرامة الإنسانية، وتُؤسس على العدالة والمساواة والارتقاء بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وتتيح التعددية الحزبية.
السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام."
وبذلك يتضح تماما أن دستور ٢٠٠٥م الذي اجمع عليه كل الوان الطيف السياسي بما في ذلك قيادات المؤتمر الوطني المحلول ، تضع حقوق المواطنة وليس أي شئ إخر ، كأساس للدستور وتعترف، بل وتعتمد التعددية السياسية في الدولة والمجتمع.
هذا التطور في الفكر السياسي السوداني يحب أن نعض عليه بالنواجذ وألا نلتفت إلي المزايدات من قبل فلول نظام الإنقاذ ، لان ذلك التوافق بين أحزاب ومكونات المجتمع السوداني كان نتاج مخاض ومعاناة وحروب ودماء وتضحيات عظيمه قدمها هذا الشعب وإستطاعت أن تنتشلنا من وحل ماعرف بإجماع العلماء " المتخيل" في الموروث الإسلامي حتي نتمكن من مواجهه تحديات الواقع الماثل.
وقد جاء توافق القوي السياسية السودانية علي التعددية السياسية وإحترام جميع الأديان والمعتقدات علي أساس أن حرية المعتقد تعتبر جزء عزيز من حقوق المواطنة، وكان هو الترياق للفكر السلفي الوهابي الذي إنتشر مع حقبة تصدير النفط في السعودية ودول الخليج إضافة، طبعا ،إلي مفهوم الحاكمية لله عند مؤسسي تنظيم الاخوان المسلمين الأم في مصر. بمعني آخر ، علينا أن ننتبه وان نكون حذرين تجاه خطورة الدوله الدينية، ولا أقول القيم الدينية الرفيعة.
إن النظرة السلفية الأحادية للناس والحياة والتي تري أن كل جديد مخالف بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ، قد كانت وما تزال، بمثابة " جرعة السم التي حقن بها السلفيون شرايين تاريخنا الحديث " .
طريقه التشبيه بعاليه مستعارة من الراحل المقيم الطيب صالح في رائعته " موسم الهجرة إلي الشمال".
طلعت محمد الطيب
talaat1706@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السلم الاجتماعي: مرحلة ما بعد الحرب
دكتور الوليد آدم مادبو
على فراشِ الموت
يرسمُ الوطن خارطةً جديدة.
لكن الخطوط ترتعش،
كأنها تخشى أن تكون بدايةً،
لنهايةٍ أخرى.
(قصيدة: وطن معلق على حافة النسيان للشاعر ادوارد كورنيليو)
في مرحلة ما بعد الحرب، تبرز أهمية السلم الأهلي والاجتماعي كأولوية قصوى لإعادة بناء المجتمع والدولة في السودان، لا سيما في دارفور، حيث مزقت الحرب النسيج الاجتماعي وأضعفت الثقة بين المكونات السكانية. ولأن الدولة المركزية ومؤسساتها الرسمية (superstructure) باتت عاجزة، أو غير موجودة عملياً، في أغلب مناطق النزاع، فإن العبء الأكبر يجب أن تتحمله الإدارات الأهلية، كجزء من البنية التحتية الاجتماعية (substructure) التي ما زالت تتمتع بشرعية اجتماعية وقدرة على الوساطة والتأثير المحلي.
يمكن لآلية تقودها الإدارات الأهلية، إذا ما توفر لها الإطار الأخلاقي والمنهجي السليم، أن تلعب دوراً محورياً في رأب الصدع، خصوصاً في ملف دار مساليت الذي أصبح جرحاً مفتوحاً قابلاً للاستغلال من قبل أطراف متعددة. فبينما تعمدت بعض النخب المركزية على مدار عقود إلى بث الفتن بين مكونات المنطقة، ها هي اليوم تعمل على تجنيد شباب المساليت لأغراض التعبئة القبلية، وليس من أجل نزع الألغام المجتمعية والسياسية التي ظلت الاستخبارات العسكرية تستزرعها بوعي ممنهج.
أما الجهات الغربية، فقد اختزلت ما جرى في دار مساليت في سردية الإبادة الجماعية، متناسية أن الجريمة وقعت نتيجة لصراعات مركبة غذتها الدولة المركزية وأدارتها ضمن سياسة “فرّق تسد”، فتمّت عسكرة الهوية وتسييسها من أجل إضعاف أي إمكانية لبناء تحالفات محلية قادرة على فرض معادلة حكم عادلة أو إحداث اختراقات تنموية ذات طابع جهوي.
ولا يغيب عن أي متابع لتاريخ دارفور السياسي والاجتماعي التداخل العميق بين السودان وتشاد، خاصة في البعد العسكري. ومع ذلك فإن زغاوة تشاد اليوم يتحفظون على دعم مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، لسببين اثنين: أولاً، إدراكهم أن النخب العسكرية في المركز تريدها حرباً قبلية تُضعف الزغاوة والزرقة معاً وتخرجهم من معادلة الحكم. وثانياً، لعلمهم أن جبريل ومني لا يمثلان الهامش بصدق، فقد قبض الأول ثمن صفقة أبوجا ورهن نفسه لتجار الحروب، بينما استخدم الثاني حركة العدل والمساواة كأداة لتنفيذ أجندة الإسلاميين، لا سيما خلال تحالفه مع خليل إبراهيم الذي أدخل دارفور في أتون صراع لصالح مركز الخرطوم، لا لصالح أبنائها.
اليوم، دفعت ذات الحركة الإسلامية بالكادر التنظيمي صالح عبد الله، رئيس مجلس شورى الزغاوة، بهدف توظيف فصيلي جبريل ومناوي واستخدامهما لتفجير صراع بين أهل دارفور، وهو صراع لا يخدم الزغاوة بل يخدم المركز، وتحديدًا يخدم "عصابة الإنقاذ" التي تسعى للهيمنة على أي محاولة لبناء كتلة سياسية جديدة تنطلق من الهامش.
ما لم تعمل النخب الواعية بقضايا الدولة وأسس البناء السياسي على رأب الصدع بين مستويات الحكم والسلطة، بين الـsuperstructure والـsubstructure، فإننا نخاطر بإعادة إنتاج دولة فاشلة. ومجرد انفصال دارفور أو أي إقليم آخر عن السودان لا يضمن بالضرورة الخلاص من أمراض الفساد والاستبداد، ما لم تكن هناك مراجعات حقيقية للمنظومة السياسية والقيمية التي زرعها نظام الإنقاذ وأدمنتها نخب ما بعد الإنقاذ.
الحذر كل الحذر من اختزال تحرير الفاشر في كونه مناجذة قبلية، بل هذه انتفاضة شعبية يجب أن تعقبها مساومة تاريخية تقيم لكل قبيلة وزنها من مساهمتها في التنمية والسلام الأهلي والاجتماعي. هنالك دور مهم يجب أن تقوم به نخب الرزيقات والزغاوة خاصة، سيما أنهما الكيانان اللذان تم استغلالهما وتوظيفهما من قبل المركز العروبي الإسلامي، ولذا فهما يتحملان مسؤولية أكبر في محاولتهما لخلق السلام ورتق النسيج الاجتماعي.
وإذا ما ورثت حكومة التأسيس القادمة نظام المحاصصة الراهن، فإنها ستخفق في استقطاب الكادر المؤهل القادر على بناء الدولة، وسندخل ذات الدائرة الشريرة التي غرقت فيها دولة جنوب السودان. لا بد من تجاوز معيار كبر القبيلة أو صغرها، والانحياز بدلاً من ذلك إلى معيار العدالة والمشروعية، وتأسيس بنية قاعدية تشجع على الانتقال التدريجي من الوعي القبلي إلى الممارسة المدنية.
وإذ تعمد بعض نخب المركز إلى الدفع نحو خيار الانفصال لإحساسها بأن الكفة الديمغرافية والاقتصادية لم تعد في صالحها، فإن المطلوب اليوم هو مقاومة هذا الاتجاه الضيق، والانخراط في مشروع وطني يغلّب الخيار المدني الديمقراطي. فغرب السودان يمتلك الموارد البشرية والمادية، لكن عليه ألا يركن فقط إلى منطق السلاح، بل أن يقود مسار التحول الديمقراطي، مسلحاً بالفكر والرؤية الأخلاقية والسياسية العميقة.
April 15, 2025
د. الوليد آدم مادبو
auwaab@gmail.com