الاستثناء الإسرائيلي وخطره على الديمقراطية وحقوق الإنسان
تاريخ النشر: 2nd, June 2024 GMT
ما تزال الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ نحو سبعة أشهر، تثير العديد من الأسئلة على مختلف المستويات: الأخلاقية والسياسية والعسكرية والقانونية؛ إذ إننا أمام حدث نموذجي؛ لجهة الأسباب والذرائع التي قام عليها، ولجهة الفاعلين المنخرطين فيه، ولجهة ضحاياه وتكلفته الإنسانية، ولجهة الأسلحة المستخدمة فيه، ولجهة ما أفرزه من ردود أفعال متنوّعة جدًّا على مختلف المستويات.
فهو حدثٌ انطوت فيه صورة نظام العالم الحديث ببُناه السياسيّة والعسكرية والقانونية والإنسانية والأخلاقية. ومن ثم شكّلت الحرب الجارية على غزة امتحانًا صعبًا للنظام الدولي برمته، كما أنها اختزلت مأساة أمة لنحو ثلاثة أرباع القرن، وكشفت عن موازين القوى وعن موقعنا في العالم الذي تَشَكل بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد أدى العنف الإسرائيلي الفائق والمنفلت إلى ظهور حركة احتجاج واسعة داخل العديد من الجامعات الأميركية وبعض الجامعات الأوروبية، ولكنها قوبلت بأعمال عنف وقمع واعتقال، مارسته السلطات في أنظمة ديمقراطية، الأمر الذي أثار أسئلة نقدية حول أربعة أمور رئيسة:
الأول: التشابه بين النظام الديمقراطي والنظام غير الديمقراطي، حين تتعارض مصالح النخب الحاكمة والمؤثرة في صنع القرار، مع النظام العام أو القانون أو المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. الثاني: موقع المعتقدات الدينية من سياسات الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية؛ فقد حضرت بعض نصوص الكتاب المقدس والعقائد الدينية المسيحية الصهيونية بقوة لدعم إسرائيل في حربها على غزة. الثالث: الحدود التي يمكن لحرية التعبير أن تقف عندها، فلطالما قيل – غربيًّا – إن حرية التعبير حق أساسي لا يقيده شيء، ومن ثم اعتُبرت هذه الحرية منجزًا غربيًّا لا يُدانى، وأحدَ الأسس التي قام عليها النظام الديمقراطي. ونحن نذكر جيدًا كيف ضُحي – في سبيل حرية التعبير – بحُرمة الإسلام وأمته في أزمات الرسوم الكاريكاتيرية التي تكررت مرات. الرابع: مصير الإرادة الشعبية التي هي أحد أسس النظام الديمقراطي، والتي قام على صيانتها أمران: آلية الانتخاب التي تترجم الإرادة الشعبية عن طريق اختيار المواطنين مَن ينوب عنهم، وآلية الاحتجاج السلمي والضغط الشعبي التي تصحح بها فئات من الشعب أي انحراف قد يطرأ على ممارسة من وكلوهم بإدارة شؤونهم ومصالحهم والتعبير عن إرادتهم.وتقود هذه الأسئلة إلى سؤال آخر حول "عالمية" الديمقراطية وحقوق الإنسان في منظور الساسة الغربيين أنفسهم؛ لأن الاستثناء الإسرائيلي يكاد يضرب منظومة القيم الغربية والنظام الدولي ومؤسساته معًا؛ فإسرائيل التي ترفض الخضوع لأي معيار أو قانون من خارجها، تضرب بكل المؤسسات الدولية والقوانين والمبادئ الخُلقية، عُرضَ الحائط، لتظهر الاستثناءَ الوحيد الذي لا يجري عليه إلا قانونه هو فقط، ثم تجري بعد ذلك محاولة دؤوبة لإحاطة هذا الاستثناء الإسرائيلي بقداسة قانونية وأخلاقية؛ إذ يتم الدمج بين العداء للسامية (أي لليهود كعرق أو ديانة) وبين انتقاد سياسات إسرائيل، وهكذا يصبح العالم كله يدور في حلقة مفرغة؛ لأنه سيدافع حينها عن الشيء ونقيضه؛ لأن المطابقة بين انتقاد إسرائيل وتهمة العداء للسامية تعني استعمال القانون نفسه لنسف أسسه التي قام عليها وهي: المساواة والتعميم!.
ومن المثير للاهتمام أن أحداث العنف والقمع التي أثارت الأسئلة السابقة، والتي بدأت باعتقال عشرات من طلاب جامعة كولومبيا الأميركية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، كان وراءها جهات ومؤسسات خاضعة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، وقد كشفت بعض الصحف الغربية عن جوانب من ذلك.
فبالإضافة إلى التسريبات التي تمت عن مجموعة الواتساب بين عمدة نيويورك وبعض رجال الأعمال الصهاينة، ثمة موقع أطلق عام 2014 تحت اسم مشروع الكناري (Canary Mission)، كان له دور في اعتقال طلبة كولومبيا وبعض الأساتذة المنتقدين لإسرائيل. يتتبع هذا الموقع الأشخاص والمجموعات المنتقدة لإسرائيل والداعمة لفلسطين. يجمع بياناتهم ثم ينشرها ويحرض ضدهم ويكيل لهم التهم التي ترجع إلى مقولات ثلاث: العداء للسامية، والترويج لكراهية اليهود، والإرهاب أو دعم منظمات إرهابية. وهذه المقولات أو التهم تعيدنا مجددًا إلى الأسئلة المثارة سابقًا، ولكنها تضعنا – أيضًا – أمام مشكلتين مركزيتين:
الأولى: تحويل مقولة العداء للسامية إلى أداة قمع سياسي تقضي على حرية التعبير في النظام الديمقراطي الأميركي والأوروبي. الثانية: أن مكونيّ المال والنفوذ السياسي اللذين خرج من رحمهما جماعات الضغط القائمة على دعم فكرة الاستثناء الإسرائيلي، يهددان النظام الديمقراطي وقيمه، والنظام الدولي أيضًا. فبفضل اللوبي الصهيوني صارت إسرائيل دولة مارقة لا تخضع لأي قانون وتستخدم -في الوقت نفسه- كل القوانين لخدمة الفكرة الصهيونية وقمع اليهود المعارضين لها.يمثل مشروع الكناري مثالًا نموذجيًّا لتأكيد مقولة الاستثناء الإسرائيلي والأخطار المتنوعة التي تمثلها. فهو يعتمد على وسائل مشكلة من الناحيتين: القانونية والأخلاقية، تشمل جمع المعلومات الشخصية عن الأفراد المستهدفين ونشرها بشكل علني على الإنترنت، مما يؤدي إلى تشويه سمعتهم والتأثير على حياتهم المهنية والشخصية.
فقد نشر الموقع ما يسميه "القائمة السوداء" ضمّن فيها أسماء الطلاب والأساتذة المشاركين في الاحتجاجات ضد الحرب على غزة، واتهمهم بعدد من التهم، من بينها العداء للسامية ودعم منظمات إرهابية، وبث الكراهية ضد اليهود، فضلًا عن أنه جرى في بعض الأحيان الاتصال ببعض المحتجين والتضييق عليهم وتهديدهم، والمطالبة بفصل الطلاب والأساتذة، والدعوة إلى منع توظيفهم مستقبلًا، بل بلغ الأمر إلى إرسال ملفات الطلبة والأساتذة المحتجين إلى الجهات الأمنية في إسرائيل.
وهذا يعني أننا أمام حركة منظمة لخنق حرية التعبير داخل الجامعات، وإقصاء كل من له موقف سياسي نقدي تجاه إسرائيل من فضاء الجامعة وسوق العمل معًا، في الحاضر والمستقبل.
يسعى مشروع كناري – كما هو واضح- إلى تعميم فكرة الاستثناء الإسرائيلي وأن إسرائيل ليست مجرد مشروع سياسي أو دولة كسائر دول النظام الدولي الحالي، بل هي عقيدة دينية، ولذلك سعت إسرائيل – باستمرار – إلى تعريف نفسها بأنها "دولة يهودية"، لأن ذلك سيعني – وبشكل لن يقبل الجدل إن تمّ- أن أي نقد أو عداء لإسرائيل الدولة سيكون عداء لليهود كجماعة دينية وعرقية، ومن ثم العداء للسامية!
وقد جرى تجريم العداء للسامية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه جزءًا من مكافحة العنصرية والتمييز، وإذا ما تم الاعتراف بيهودية إسرائيل فسنكون أمام تقنين حالة الاستثناء الإسرائيلي وشرعنة الخروج على النظام الدولي وقوانينه، وعلى كل المبادئ الأخلاقية التي طالما تبجحت بها دول الغرب. فأي انتقاد لما تقوم به إسرائيل الدولة وحكوماتها المتعاقبة سيعتبر مهددًا لسلامة اليهود أو مؤيدي إسرائيل، وتحريضًا على الكراهية تجاه اليهود أو تشويهًا لسمعة اليهود أو إسرائيل أو مؤيديها، وقد كال مشروع كناري تلك التهم للمحتجين ضد الحرب على غزة!
وتنطوي فكرة الاستثناء الإسرائيلي -في الواقع- على تحديين رئيسين:
الأول: جماعات اليهود الناقدة للسياسة الإسرائيلية، والتي كان كثير منها جزءًا من حركة الاحتجاج الطلابي في الجامعات الأميركية، وهذا التحدي يكذّب دعوى التطابق بين إسرائيل كدولة، واليهود كجماعة دينية وعرقية، ومن ثم سيكذّب دعوى العداء للسامية. الثاني: أن إسرائيل الدولة التي تقدم نفسها – باستمرار – على أنها دولة ديمقراطية، وتَمُور بالكثير من الحركية والنقد الداخلي للحكومات المتعاقبة من قبل أحزاب المعارضة فيها، من الممكن أيضًا أن ينسحب عليها مقولة العداء للسامية؛ إذا ما طابقنا بين انتقاد سياسات إسرائيل والعداء للسامية؛ لأن من سيمثل إسرائيل في تلك الحالة هو الحكومة، وسيصبح معارضوها معادين لإسرائيل الرسمية، ومن ثم سيكون على أصحاب دعوى "الاستثناء الإسرائيلي" صياغة استثناءات أخرى للاستثناء الإسرائيلي!تقود مقولة الاستثناء الإسرائيلي إلى أخطار عديدة تمس الأفراد، ففي حالة مشروع كناري – وهو مثال نموذجي هنا – نحن أمام استباحة تامة لمحظورات أخلاقية وقانونية لأغراض سياسية، وبدعم من اللوبي الصهيوني. من أبرز تلك المحظورات:
أولًا: انتهاك خصوصية الأفراد من خلال نشر صورهم وعناوينهم وبياناتهم الأكاديمية والمهنية، الأمر الذي عرضهم – أو بعضهم على الأقل – لمخاطر كبيرة. ثانيًا: التشهير؛ لأن مشروع كناري يكيل التهم لمنتقدي الحرب الإسرائيلية على غزة، ويعممها من دون أي سند قانوني، وهذا سيلحق الضرر بالمحتجين على الصعيدين: الشخصي والمهني، بل سيؤدي إلى نبذهم اجتماعيًّا وسياسيًّا من مجتمعاتهم أو مؤسساتهم الأكاديمية أو المهنية، مما يؤثر سلبًا على فرصهم المستقبلية. ومن شأن ذلك أن يقيد حرية التعبير وأن يقمع الأصوات المعارضة، وهذا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية التي تقوم عليها المجتمعات الحرة.تشكل مقولة الاستثناء الإسرائيلي وتطبيقاتها على مختلف المستويات، بدءًا من النظام الدولي ومؤسساته، وانتهاء بمشروع كناري، تحديًا كبيرًا للنظام الدولي نفسه وللمبادئ الأخلاقية والقانونية المتعلقة بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات النظام الدیمقراطی العداء للسامیة النظام الدولی وحقوق الإنسان حریة التعبیر التی قام على غزة ومن ثم
إقرأ أيضاً:
تحقيق للوموند: أزمة عميقة تضرب النظام الدولي بسبب حرب غزة
قالت صحيفة لوموند إن الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين تسهم في تفاقم أزمة النظام العالمي الذي ولد بعد عام 1945، وبشرت بقيام تحالفات جديدة رأت أنها بدأت تظهر، ولكنها حذرت من تمزق حقيقي بالنسبة للعدالة الجنائية الدولية.
ورأت الصحيفة -في تحقيق مطول بقلم فريديريك لوميتر وفيليب ريكار- أن شن إسرائيل حربها على قطاع غزة ردا على هجمات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت نعمة أرسلتها السماء إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بصرفها الاهتمام عن الحرب في أوكرانيا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فايننشال تايمز: تغير خريطة الشرق الأوسط تحد كبير للغربlist 2 of 2تايمز: عندما يتعلق الأمر بالقيم البريطانية الأمر جد معقدend of listومع أن الحرب في غزة مكنت موسكو من كسر عزلتها جزئيا داخل هيئات الأمم المتحدة، فقد شكلت عدوانا كبيرا ثانيا على القانون الدولي، نظرا للعدد القياسي من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، حيث منعت واشنطن داخل مجلس الأمن، مشاريع القرارات التي دعت إلى وقف إطلاق النار في القطاع الفلسطيني الذي تم تدميره بطوفان من نيران الجيش الإسرائيلي.
وبعد مرور عام، ما تزال الحرب في غزة مستمرة وتهز المنطقة بأكملها، فالضربات التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المنطقة تضع إسرائيل في موقع قوة، في مواجهة حماس وحزب الله في لبنان وحتى في سوريا، حيث فاجأ سقوط الدكتاتور بشار الأسد حتى حماته الروس والإيرانيين، توضح لوموند.
إعلانويبدو أن شرقا أوسط جديدا بدأ يتشكل -حسب الصحيفة- في وقت ضعف بالنسبة لإيران وروسيا على عكس تركيا القوية، بينما الدول العربية راكدة، وإسرائيل توشك أن تفرض سلامها على جيرانها، فقد غزت المنطقة العازلة مع سوريا ودمرت جميع سلاحها تقريبا، ولا يستبعد أن تضرب إيران، وبالفعل قال نتنياهو إن "دولة إسرائيل تؤكد مكانتها كمحور للقوة في المنطقة"، وهو ما لم يكن كذلك منذ عقود.
نقطة الانهيارلكن هذه الحرب وتداعياتها المتعددة تتجاوز الإطار الإقليمي وتثقل كاهل العلاقات الدولية، فهي مثل الحرب في أوكرانيا، تسهم في تفاقم تجزئة العالم، لأن مقتل أكثر من 45 ألف مدني فلسطيني وخضوع رئيس وزراء إسرائيلي لمذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، والدعم الأميركي غير المشروط رغم الانتقادات اللاذعة لذلك من قبل العديد من الدول الناشئة، كلها أمور تؤدي إلى تفاقم أزمة النظام المتعدد الأطراف كما ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ونقلت لوموند عن الصحفي أنتوني السمراني، رئيس تحرير صحيفة لوريان لو جور اللبنانية، قوله إن "غزة ليست مجرد حرب بل هي نقطة الانهيار، وهي المسمار الأخير في نعش النظام الدولي الذي بدأ يضعف منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001". وأضاف في مقال له "حرب غزة ليست الأكثر إستراتيجية ولا الأكثر دموية، لكن قوتها الرمزية ليس لها ما يعادلها. هذا الصراع يمزق العالم والمجتمعات، وهو يجعل الحوار مستحيلا بين الشمال والجنوب، وحتى داخل هذه الفضاءات".
ومن المفارقة أن الأمم المتحدة التي هي رمز النظام العالمي، كانت طوال عام 2024، مسرحا لتفككها، حيث وصف نتنياهو من داخلها، عدد قرارات الجمعية العامة للمنظمة التي تدين إسرائيل التي بلغ مجموعها 174 قرارا، بأنها "مزحة"، ورأى أن المنظمة ليست أكثر من "مهزلة تستحق الازدراء"، ولم يكد ينهي خطابه حتى أصدر الأمر بتصفية زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله ودفن الهدنة في لبنان معه، كما تقول الصحيفة.
إعلانوتقول المحامية الأسترالية تيرانا حسن، مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش غير الحكومية، إن الرد على الحرب في أوكرانيا أظهر للعالم ما يمكن فعله عندما تنتهك دولة ما التزاماتها الدولية، إذ تم استخدام جميع الأدوات لحشد الحماية الدولية ومعاقبة موسكو ومنح اللجوء للأوكرانيين ودعم تحقيقات العدالة الدولية، وهذا يتناقض بشكل صارخ مع الطريقة التي استجابت بها هذه الدول نفسها للحرب في غزة، حيث لم يسمع إلا الصمت والإدانات الضعيفة، وبالتالي يبدو أن الدول الغربية تنظر إلى المعايير الدولية على أنها قائمة انتقائية.
انتقادات غير كافيةيشترك في هذه الملاحظة عدد لا بأس به من الدول "الناشئة"، يقول الصحفي الهندي برخا دوت في صحيفة هندوستان تايمز إلى أن "النظام القائم على القواعد الذي يتم الاستشهاد به كثيرا لا يمكن أن يكون نظاما يطبق المبادئ بشكل انتقائي".
وقد قال جيل يابي، الرئيس المؤسس لمركز أبحاث واتي في السنغال، للصحيفة: "في رد الفعل على الحرب في أوكرانيا، لاحظنا اختلافات واضحة تماما بين الغربيين وبقية العالم، لكن الحرب في غزة عززت الشعور بوجود نظام دولي لا يمنح نفس الأهمية لحياة الإنسان حسب بلده. قانون الأقوى شوهد في غزة، دون أي انتقادات أو عقوبات من حلفاء إسرائيل".
ويلاحظ الدبلوماسي الفرنسي جان ماري غيهينو، النائب السابق للأمين العام للأمم المتحدة والمسؤول عن عمليات حفظ السلام، هذا الأمر بمرارة، قائلا "حتى عندما غزت الولايات المتحدة العراق قامت بجميع أنواع التحريفات القانونية لمحاولة إظهار أنها تحترم القانون، أما إسرائيل فلا تبذل جهدا في هذا المجال، فهي تهاجم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وتعلن أن الأمين العام للأمم المتحدة شخص غير مرغوب فيه".
وفي ظل هذه الظروف، فإن استمرار الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية في دعم إسرائيل دون تحفظ، لا يمكن أن يبقى دون عواقب، يقول جان ماري غيهينو "تنتقد العديد من الدول الغرب لأنه يقدم لهم المحاضرات حول حقوق الإنسان والقانون الدولي فيما يتعلق بأوكرانيا، في حين أنهم يتوخون الحذر الشديد الآن بعد أن تنتهك إسرائيل حقوق الإنسان على نطاق واسع في غزة"، تبرز لوموند.
إعلانويقول القاضي وعالم السياسة الهندي براتاب بهانو ميهتا إن "الحرب في غزة دمرت ما تبقى من سلطة قليلة في الغرب أو في القانون الدولي"، ويخلص إلى القول "ها هي الديمقراطيات التي تقود النظام الدولي إلى تدميره: إسرائيل من خلال وحشيتها للصراعات، والولايات المتحدة من خلال تواطئها وتسترها".
وفي الولايات المتحدة -تتابع لوموند- انتقد أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيون سياسة إدارة الرئيس جو بايدن لعدم قدرتها على إجبار نتنياهو على وقف الأعمال العدائية أو فتح وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وقد سلطت المظاهرات هناك وفي أوروبا، الضوء على الانزعاج الذي يعاني منه جزء من الرأي العام الغربي.
حرب النفوذومن جهتها، لا تتردد موسكو وأنصارها في استغلال الوضع، تقول تيرانا حسن "من السهل على روسيا والصين استخدام الاتهامات بازدواجية المعايير من أجل التشكيك في النظام الدولي"، خاصة أن "الغرب فقد تمامًا حسه الأخلاقي" في نظر براتاب بهانو ميهتا، وأن مجموعة بريكس التي تضم الصين وروسيا والهند، على جاذبيتها، تظهر أشكالا متطرفة من المعاملات خالية من أي معايير أخلاقية.
ويقول أرانشا غونزاليس، عميد كلية الشؤون الدولية في جامعة سيانس بو، للوموند إن الحريق المشتعل في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول يتجاوز بكثير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. هذه ليست معركة بين الشمال والجنوب، بل هي حرب نفوذ بين القوى المتوسطة، وخاصة إسرائيل وإيران، في ظل غياب شرطي أميركي قادر على التأثير على حليفتها.
وتابع جان ماري غيهينو: "مع توقف الأمم المتحدة عن أداء دورها، ستسعى الدول إلى الحصول على الطمأنينة والحماة، والتحالفات، والأغلبية العظمى من بلدان العالم تفضل ألا يظل ميثاق الأمم المتحدة مجرد قصاصة من الورق، لأن هناك الكثير من الأسماك الصغيرة التي لا ترغب في أن تأكلها الأسماك الكبيرة".
إعلان نزع الهيمنة الغربيةوفي علامة على أن ميزان القوى يتغير، فإن ما يسمى ببلدان "الجنوب العالمي" تشعر الآن بالثقة الكافية لاستخدام الأدوات التي كان الغرب يحتكرها فعليا حتى الآن ضد الغرب. والدليل على ذلك الشكوى المتعلقة بالإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
"وفي هذا الصدد، فإن غزة تمثل تغييرا حقيقيا في قواعد اللعبة"، يقول فينسان هوليندر من جامعة باريس الثانية، موضحا أن مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو تظهر ذلك، ومن خلال إسرائيل فإن الغربيين وخاصة الولايات المتحدة هم الذين يتم توجيه الاتهام إليهم.
ويرى جان موريس ريبير، السفير الفرنسي السابق في نيويورك وموسكو وبكين أنه "من الواضح أن صحوة العدالة الدولية أخبار جيدة، لأن ميزة القضاة هي التذكير بوجود قواعد القانون حتى في خضم الصراع، عندما لم يعد الدبلوماسيون قادرين على فرضها، ويجب على العدالة الدولية أن تثير مسألة المسؤولية الشخصية للقادة، بل وأن تدرس مفهوم جرائم الإبادة الجماعية".
غير أن هذا -أيضا- يقسم العالم حسب السفير "ففي حين أن الوضع في أوكرانيا يجمع بين الدول الأوروبية وعدد قليل من الدول الأخرى بدعم من الولايات المتحدة، فإنه لا يثير التعبئة في القارات الأخرى، كما أن الوضع في فلسطين يثير التزام غير الأوروبيين ولكنه يقسم الأوروبيين ويثير رد فعل أميركي سلبي للغاية".
وخلص تحقيق لوموند إلى أنه نظرا لحجم الضرر، سوف يستغرق الأمر سنوات ليس فقط لإعادة بناء القطاع الفلسطيني المدمر، بل -وأيضا- لإعادة بناء نظام متعدد الأطراف يتمتع بالمصداقية لا يبدو أن أي قوة قادرة على الحفاظ عليه.