ترجمة: أحمد شافعي -

قبل أقل من عقد، وصف عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي جيمس سي سكوت الأمراض المعدية بأنها «أصخب الصمت» في المدونة الأثرية لما قبل التاريخ. فقد أتت الأوبئة على المجتمعات البشرية في الماضي السحيق وغيرت مسار التاريخ، لكن الآثار المتخلفة عنها لا تكشف شيئا عنها، وهو أمر يرثي له سكوت.

لكن، على مدار السنوات القليلة الماضية، تبدد الصمت بفعل بحث رائد يحلل الحمض النووي الميكروبي المستخرج من هياكل عظمية بشرية بالغة القدم.

وأحدث مثال لتلك البحوث يتمثل في دراسة تأسيسية تعرَّفت على ثلاثة فيروسات في عظام إنسان نياندرتال ترجع إلى ما قبل خمسين ألف سنة. ولا تزال هذه المسببات المرضية تؤثر على البشر: إذ تتسبب الفيروسات الغدية، والفيروسات الهربسية، وفيروس الورم الحليمي في نزلات البرد وقرحة الزكام، والثآليل التناسلية، والسرطان، على الترتيب. وقد يساعدنا هذا الاكتشاف في حل أعظم لغز في العصر الحجري القديم، وهو: ما الذي تسبب في انقراض إنسان نياندرتال؟ لقد وفرت لنا التطورات الحديثة في التكنولوجيا المستخدمة لاستخراج وتحليل الحمض النووي القديم رؤى مذهلة للعالم القديم. وباستثناء السفر عبر الزمن، يصعب أن نتصور تكنولوجيا قادرة على إحداث تغيير عميق في فهمنا لعصور ما قبل التاريخ.

جاءت التطورات الرئيسية الأولى في ثورة الحمض النووي القديم من مادة وراثية بشرية. إذ كشفت دراسة قامت بتحليل الحمض النووي من مواقع دفن في أنحاء بريطانيا أن الذين أقاموا ستونهنج هم مزارعون ذوو شعر داكن وبشرة زيتونية ينحدرون من الموقع الذي تحتله حاليا تركيا الحديثة، وأن أحفادهم ماتوا بعد بضعة قرون من ظهور حجر المغليث.

عندما قام فريق بقيادة سفانتي بابو الحائز على جائزة نوبل بتسلسل جينوم إنسان نياندرتال، أدركوا أن البشر المحدثين ذوي الأصول الأوروبية أو الآسيوية أو الأمريكية الأصلية ورثوا حوالي 2% من جيناتهم من إنسان نياندرتال. ثم تبين في أثناء الوباء أن العديد من متغيرات جينات النياندرتال الشائعة بشكل خاص بين سكان جنوب آسيا قد أثَّرت على الاستجابة المناعية لفيروس كورونا الجديد جاعلة حاملي الفيروس أكثر عرضة للإصابة بالمرض الشديد والموت. وإنه لمن الجموح في التفكير أن نعتقد بأن لقاءات حدثت منذ عشرات الآلاف من السنين بين سلالات مختلفة لا تزال تؤثر على صحة الأشخاص الذين يعيشون اليوم.

عندما يستخرج العلماء الحمض النووي البشري من الهياكل العظمية البشرية، فإنهم يلتقطون أيضا آثارا للميكروبات التي كانت موجودة في مجرى الدم في وقت الوفاة. وتركز بعض الأبحاث الأكثر إثارة للاهتمام في هذا المجال على بكتيريا يرسينيا بيستيس، وهي البكتيريا المسؤولة عن الطاعون. وقبل وقت غير بعيد، جاء أقدم دليل على بكتيريا واي بيستيس [Y pestis] من منتصف القرن الرابع عشر، عندما قتل الموت الأسود قرابة 60٪ من سكان أوروبا.

ونحن نعلم الآن أن الطاعون يرجع إلى أبعد من ذلك بكثير. فمنذ ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف عام، كان الطاعون منتشرا على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، ومن ذلك سومرست وكومبريا ـ مثلما أظهرت دراسة حديثة. وفي ذلك الوقت تقريبا، انخفض عدد سكان شمال غرب أوروبا بنسبة تصل إلى 60%. ومن المرجح أن يكون «الموت الأسود في العصر الحجري الحديث» قد أسهم في ذلك الانهيار الديموجرافي الذي تزامن مع اختفاء المزارعين الذين بنوا ستونهنج من بريطانيا ووصول مجموعة أخرى تسهم أكثر من أي مجموعة أخرى في الحمض النووي لبريطانيا الحديثة.

ويقدم الحمض النووي الميكروبي القديم أيضا رؤى محيرة للحياة الخاصة التي عاشها أسلافنا الموغلون في البعد. فقد اكتشف العلماء الميثانوبريفيبكتر [Methanobrevibacter oralis]، وهي كائن شبيه بالبكتيريا المسؤولة عن أمراض اللثة لدى البشر المعاصرين، وقد اكتشفوها في لويح متكلس على أسنان إنسان نياندرتال يبلغ عمره خمسين ألف عام. وبمقارنة سلالة ما قبل التاريخ مع السلالة المعاصرة، قدَّر الباحثون أن آخر سلف مشترك لهم قد عاش قبل حوالي مئة وعشرين ألف سنة. وبما أن هذا حدث بعد عدة مئات آلاف السنين من تباعد إنسان نياندرتال والإنسان العاقل -الهوموسابينز-، فلا بد أن الجرثومة انتقلت بين السلالتين. والطريقة الأكثر احتمالا لحدوث ذلك هي العلاقات الجنسية بين السلالتين.

من الصعب تقنيا استخراج وتحليل الحمض النووي الفيروسي من العظام القديمة. فبما أن الفيروسات أصغر كثيرا من البكتيريا، فإنها تحتوي على قدر أقل من المادة الوراثية، ولأنها أقل قوة، فإنها تتحلل بسرعة أكبر. ومن هنا إثارة الأخبار الحديثة الخاصة بقيام العلماء بسَلْسلة حمض نووي فيروسي عمره خمسون ألف عام.

وفي حين أن اكتشاف إصابة إنسان نياندرتال بالفيروسات الغدانية، والفيروسات الهربسية، وفيروس الورم الحليمي، لن يغير في حد ذاته فهمنا للماضي البعيد، فإنه يلمح إلى حل للغز العظيم في العصر الحجري القديم.

حتى قرابة سبعين ألف سنة مضت، عاش الإنسان العاقل في أفريقيا بينما كان بشر نياندرتال يسكنون في غرب أوراسيا. ثم تغير كل شيء. فهاجر أسلافنا شمالا، وانتشروا بسرعة في معظم أنحاء العالم. ولم يمض وقت طويل حتى اختفى إنسان النياندرتال.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما اقترح عالم الحيوان الألماني إرنست هيكل تسمية إنسان نياندرتال بـ»الإنسان الجاهل» لتمييزه عن «الإنسان العاقل» (الهوموسابينز)، ظل التفسير السائد لهذا التحول هو أن أسلافنا تفوقوا على السلالات البشرية الأخرى باستخدام قدراتهم المعرفية الأرقى. غير أن هذا القول بات أقل قبولا بمرور الزمن، وذلك بفضل تزايد الأدلة على أن بشر نياندرتال كانوا قادرين على القيام بجميع أنواع السلوكيات المتطورة، ومنها دفن موتاهم، وطلاء جدران الكهوف، واستخدام النباتات الطبية، والإبحار بين جزر البحر الأبيض المتوسط. ويشير اكتشاف الفيروسات البالغة من العمر خمسين ألف عام إلى تفسير بديل لزوال إنسان نياندرتال: وهو الأمراض المعدية القاتلة التي حملها الإنسان العاقل. فبعد انفصال بين السلالتين لأكثر من نصف مليون عام، يحتمل أن كل سلالة قد نشأت فيها مناعة لأمراض معدية مختلفة. ثم لما التقت السلالتان إثر هجرة الإنسان العاقل من أفريقيا، فإن مسببات الأمراض التي كانت تتسبب في أعراض غير ضارة لدى إحدى السلالتين كانت هي نفسها مميتة للسلالة الأخرى، والعكس صحيح. فلماذا إذن بقيت سلالتنا واختفت سلالة بشر نياندرتال؟ السبب بسيط. لقد كان أسلافنا نحن يعيشون بالقرب من خط الاستواء. ولأن المزيد من طاقة الشمس كان يصل إلى الأرض هناك، فقد كانت الحياة النباتية أوفر. وهذا يوفر موطنا لحياة حيوانية أكثر كثافة وتنوعا، تدعم بدورها المزيد من الميكروبات القادرة على القفز على حاجز السلالات وإصابة البشر بالعدوى. ويترتب على ذلك أن الإنسان العاقل في العصر الحجري القديم كان يحمل مسببات أمراض أكثر فتكا من إنسان نياندرتال.

ولا تقتصر ثورة الحمض النووي القديمة على تغيير فهمنا لعصور ما قبل التاريخ فحسب، ولكن لها أيضا آثارا مهمة على الحاضر. فلو كانت الأمراض المعدية قد لعبت مثل هذا الدور الحاسم في اختفاء إنسان النياندرتال وصعود الإنسان العاقل إلى السيطرة على العالم، فإن مسببات الأمراض أقوى بكثير مما كنا نتصور في أي وقت مضى. لقد كانت الجراثيم في صف أسلافنا قبل خمسين ألف سنة، أما نحن فقد لا يحالفنا مثل ذلك الحظ في المستقبل.

جوناثان كينيدي يعمل في تدريس السياسة والصحة العالمية في جامعة كوين ماري بلندن، وهو مؤلف كتاب «النشوء المرضي: كيف صنعت الجراثيم التاريخ».

عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إنسان نیاندرتال فی العصر الحجری ما قبل التاریخ الحمض النووی خمسین ألف ألف سنة

إقرأ أيضاً:

الميثاق التأسيسي نيروبي يضع الفأس علي اصل شجرة السودان القديم والساس المتين لمشروع السودان الجديد ؟!

الميثاق التأسيسي نيروبي ٢٢ /فبراير ٢٠٢٥ يضع الفأس علي اصل شجرة السودان القديم .. والساس المتين لمشروع السودان الجديد ؟!
بحول الله سوف أعالج هذا الحدث المفصلي في تاريخ السودان تحت رؤوس المواضيع التالية :
++ البرهان وحكومته في بورتسودان واجهات علنية للحركة الإسلامية التي طردت الجنوبيين وترفض السلام لان مصلحتها الحزبية الضيقة دائما مقدمة علي وحدة السودان !

++ ميثاق نيروبي التأسيسي يضع الفأس علي اصل شجرة السودان القديم - دولة ٥٦ :

++ تجارة الدين في السياسة السودانية لم تكن قاصرة علي تنظيم الاخوان المسلمين .. بل ان علمانيي النخب الشمالية هم من اتوا بالشريعة لإقصاء الجنوبيين وجبال النوبة !

++ قوانين سبتمبر ١٩٨٣ اتي بها نظام مايو العلماني الخارج من رحم احزاب يسارية علمانية !!

++ اللواء معاش برمة ناصر من منصة التاسيس بنيروبي يردد (بلسان حاله) مقولة الزعيم القومي انطون سعادة (الحياة كلها وقفة عز ) .

++ إبراهيم الميرغني : ( من شابه أباه في المواقف السياسية النبيلة فما ظلم ) ؟!

(١) البرهان وحكومته في بورتسودان واجهة للحركة الإسلامية التي طردت الجنوبيين واشعلت حرب ١٥ /البريل ٢٠٢٣ وظلت ترفض كل مبادرات السلام وشعارها :(يا نحكمكم يا نقتلكم !) .. البرهان هو من اجبر خصومه علي تأسيس حكومة موازية :

بغض النظر عن المآلات الفعلية التي ستؤول اليها الدولة السودانية واسوأ السيناريوهات مزيد من الانقسامات في الجسم السوداني .. فان الحركة الإسلامية السودانية هي المسؤولة عن هذا الوضع الكارثي البائس الجاري بالتراب السوداني منذ انقلاب الجبهة الإسلامية الاول في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ حتي انقلابها لثاني في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ .. فالحركة الإسلامية السودانية هي التي طردت الجنوبيين حين رفضت علمانية الدولة في مفاوضات مشاكوس ونيفاشا واجبرت الجنوبيين علي وضع (حق تقرير المصير ) كخيار بديل لرفض العلمانية التي تحقق المساواة بين السودانيين بغض النظر عن تنوعهم الديني .. حكومة الأمر الواقع الانقلابية في بورتسودان برئاسة البرهان هي التي اجبرت الدعم السريع وحلفائه العسكريين والمدنيين للتوجه نحو تكوين حكومة موازية لان الشعب السوداني كله يعلم ان البرهان هو مجرد واجهة للحركة الإسلامية السودانية التي لا تعترف بثورة ديسمبر المجيدة وتسعي للعودة للسلطة ولو أدّي ذلك الي قتل ثلثي الشعب السودان بدليل انها رفضت كل مبادرات السلام في جدة والمنامة وجنيف . البرهان هو الذي (فصل الدولة السودانية علي مقاس مناطق سيطرة الجيش بعملة خاصة ، وامتحانات الشهادة السودانية فقط في مناطق سيطرة الجيش .. كل هذه الممارسات الانفصالية دفعت خصومه لتأسيس حكومة موازية (والباديء اظلم ) .

(٢) ميثاق نيروبي ٢٢ / فبراير ٢٠٢٥ يضع الفأس علي اصل شجرة لسودان القديم - دولة ١٩٥٦ :

نحمد الله الذي مد أيامنا لنشهد ( ولادة السودان الجديد ) من مدينة نيروبي التي شهدت الحدث الأعظم في تاريخ السودان الحديث وهو التوقيع علي الميثاق التأسيسي لتشكيل حكومة موازية لحكومة دولة ٥٦ التي تحتضر منذ إشعالها لحرب ١٥ /إبريل وكانت تتوهم انها ستقضي علي قوات الدعم السريع خلال 4 ساعات او ايام ولكن خاب فألها ووقعت في شر أعمالها !!
ميثاق نيروبي الموقع عليه من قبل قوات الدعم السريع والحركة الشعبية شمال والجبهة الثورية وحزب الامة القومي - فضل الله برمة ناصر والحزب الاتحادي الأصل - إبراهيم الميرغني وكيانات مدنية مجتمعية لها وزنها الاجتماعي .. هذا الميثاق التأسيسي بما اشتمل عليه (العلمانية ومنع تكوين احزاب سياسية ذات مرجعية دينية ) قد وضع الفأس علي اصل شجرة (السودان القديم - سودان الدولة الدينية التي تستخدم الدين الإسلامي كغطاء لاحتكار السلطة والثروة وكأداة لممارسة سياسة فرق تسد بين مكونات المجتمع السواني .. هذا الميثاق التأسيسي هو الفأس لقطع شجرة السودان القديم - دولة ٥٦ - العنصرية .
ويلزمني في هذا المقام بيان اننا لا نعيب دولة ٥٦ وحدها وانما نتحمل مسؤوليتنا (كضحية) .. ونذكر بعضنا بمقولة مارتن لوثر كنج الذهبية : (لا يستطيع احد ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت له ) .. ونذكر بعضنا ايضا بمقولة أفلاطون : ( لو أمطرت السماء حرية لحمل بعض العبيد مظلات ) .. لم اريد جلد الذات .. وانما اردت فضيلة تحمل المسؤولية .. التي لا يقدر عليها إلا الراشدون سياسيا .
ميثاق نيروبي ٢٢ فبراير ٢٠٢٥ باتفاقه علي العلمانية البسيطة (علمانية الدولة كشخصيّة اعتبارية وليس علمانية المجتمع ) .. او العلمانية الجزئية كما يسميها د عبدالوهاب المسيري .. هذه الخطوة الجريئة والحاسمة في تاريخ السودان تعبر عن (رشد ) ووعي المهمشين الذي دشنه الشهيد الغائب الحاضر دكتور جون غرنق منذ ان اسس الحركة الشعبية لتحرير (شعوب ) السودان .

(٣) (تجارة الدين) لم تكن قاصرة علي (تنظيم الاخوان المسلمين وتخلقاته المختلفة ) وانما كانت القفطان الكاذب لكل نخب دولة ٥٦ .. كيف ؟!! علمانيو النخب الشمالية هم من استخدم الاسلام لاقصاء الجنوبيين وقهرهم :

أ - النخب الشمالية (من الجيلي حتي حلفا ) بغض النظر عن لافتاتها وأحزابها السياسية تدرك تماما انها اقلية في الدولة السودانية (لا يتجاوز عددهم مليون ونصف ) لذلك فان الديمقراطية الحزبية لا تنسبهم .. وقد وضح هذا الأمر منذ العشرة سنوات الاولي من الاستقلال حين بدأت الكيانات الاقليمية (مؤتمر البجة - نهضة دارفور - اتحاد ابناء جبال النوبة ) تظهر وتسحب البساط من تحت اقدام الحزب الاتحادي وحزب الامة .. وبات واضحا ان سيطرة النخبة النيلية الشمالية علي السلطة في المركز عبر الانتخابات مسألة مرهونة بوعي ابناء المناطق الطرفية خاصة في حزب الامة .. ففي الديمقراطية الثالثة (١٩٨٦ - ١٩٨٩ ) شهدت الساحة السياسية بروز كتلة (د مادبو / بكري عديل / د بشير عمر ) داخل حزب الامة .. باعتبارها كتلة (وعي ) داخل حزب الامة - صحيح نجح السيد الصادق في احتواء وتحجيم هذه الكتلة عن طريق سياسة فرق تسد بين نواب الغرب الاجتماعي انفسهم .. لذلك ننوه بمسؤولية المهمشين فيما جري لهم ! لذلك فان النخب النيلية الشمالية باختلاف أحزابها لا تعول أبدا علي الديمقراطية التعددية وانما تعول علي (الجيش وحده ودون غيره لحكم السودان ) .. ولهذا السبب يرفض البرهان ومن خلفه الحركة الاسلامية .. اي مساعي لوقف حرب ١٥ ابريل ٢٠٢٣ وتصر الحركة الاسلامية علي استمرار الحرب حتي القضاء علي الدعم السريع والجبهة الثورية المتحالفة معه .. لانها تري ان وجود البرهان وياسر العطا يشكل آخر فرصة لعودة الحركة الاسلامية للسلطة .

ب - ان اول من استخدم الإسلام ككرت رابح لقهر الجنوبيين وأبناء جبال النوبة هو نظام الفريق إبراهيم عبود (١٩٦٨ - ١٩٦٤ ) .. فقد مارس نظام ١٧ نوفمبر (سياسة الأسلمة القسرية للجنوبيين ) .. بل كانت مصلحة الشؤون الدينية في الجنوب لا تعترف بالمسيحية كديانة وطنية سودانية .. وكانت تري ان المسيحية اتت مع الاستعمار الإنجليزي ويجب ان تغادر جنوب السودان مع خروج الاستعمار الإنجليزي .. وكان نظام عبود يجاهر بان في السودان (من نملي الي حلفا ) يوجد دين واحد هو الاسلام ولغة واحدة هي العربية !! وما ينطبق علي الجنوب ينطبق علي منطقة جبال النوبة من سياسات الاسلمة القسرية والتعريب . شاهدنا من كل ما تقدم هو ان (نظام عبود العلماني ) هو اول من استخدم الدين في السياسة .. لذلك فان التوقيع علي ميثاق نيروبي التأسيسي والذي تضمن العلمانية هو (رد شرف للجنوبيين بأثر رجعي) الذين خضعوا لقهر دولة ٥٦ .

(ج) قوانين سبتمبر ١٩٨٣ الاسلاموية اتي بها النميري / نظام مايو ١٩٦٩ العلماني الخارج من رحم الاحزاب اليسارية السودانية ذات التوجه العلماني :

لقد اتي نظام مايو ١٩٦٩ في ظرف تاريخي هام لقطع الطريق علي حزبي الامة والاتحادي وجبهة الميثاق الاسلامي من تقنين (الدستور الاسلامي ) الداعشي لقهر الشعب السوداني كله ليس في الجنوب وجبال النوبة فحسب وانما للتصفية الجسدية للشيوعيين الجمهوريين برئاسة الشهيد محمود محمد طه الذي ظفروا به بعد تطبيق قوانين سبتمبر ١٩٨٣ . هذه القوانين اتي بها نظام مايو العلماني ليس حبا في دين الله .. وانما (لقهر القضاة المدنيين ) نكاية بهم علي إضرابهم الشهير الذي استمر لمدة ٣ شهور مما اجبر النميري علي الاعتذار لهم والانكسار أمامهم .. (فأسرها النميري في نفسه ) .. فاتي النميري بقوانين سبتمبر انتقاماً من القضاة المدنيين .. وكان هدفه هو ممارسة سياسة فرق تسد بين القضاة (بجعل القضاة الشرعيين في مرتبة اعلي من القضاة المدنيين ) .
وقد وصف النميري نفسه (علي الهواء مباشرة ) من راديو امدرمان قوانين سبتمبر (بالقوانين البطالة - اي المعيبة ) .. ورحم الله فقيدنا الصحفي الراحل هاشم كرار في الدوحة الذي كان يردد مقولة جعفر نميري (القوانين البطالة ) كلما اتت سيرة قوانين سبتمبر بإسلوبه الساخر .. فالتحية للأستاذ هاشم كرار في عليائه والتحية موصولة لاصدقائه البررة لاسيما (الصحفي محمد المكي والمهندس عبدالكريم الامين كيكي) الذين جملوا حياته وحزنوا عليه بعد وفاته .

٤ - ميثاق نيروبي التأسيسي : يضع الساس المتين (لمشروع السودان الجديد خلفا للدولة الدينية التي تتاجر بالإسلام ) :

لقد تألق القائد عبدالعزيز الحلو بحضوره الأنيق الي نيروبي للمشاركة في صياغة البيان التأسيسي .. وقد كان (مشروع السودان الجديد هو الرابح الأعظم في هذا المحفل السوداني العظيم .. وقد شاهدته (الحلو) وهو يتحدث من منصة التأسيس بإسلوبه المتفرد المميز .. ورغم ذلك قرأت في شخصه كل الآباء المؤسسين لمشروع السودان الجديد .. لاسيما الشهيدين دكتور جون قرنق والقائد يوسف كوة مكي فقد كان يوم ٢٢ فبراير ٢٠٢٥ هو يوم حصاد الزرع العظيم الذي زرعوه ورووه بدمائهم الطاهرة .. (السودان الجديد من شعار جميل الي ميثاق تأسيسي ) لحكم السودان .. سبحان الله (البعيش يا ما يشوف ) .

٥ - اللواء برمة ناصر في منصة التاسيس بنيروبي يردد بلسان حاله مقولة الزعيم القومي انطون سعادة (الحياة كلها وقفة عز ):
اسعدني الموقف المشرف الذي وقفه سعادة اللواء برمة ناصر زعيم حزب الامة القومي وهو يتحدث علي منصة التاسيس بنيروبي عن تأجيل التوقيع علي ميثاق التأسيس مرحبا بحضور القائد عبدالعزيز الحلو .. ورابطا تاخير التوقيع بمنح القائد الحلو الزمن المفتوح الذي يحتاجه للاطلاع .. ومذكرا الحضور بالمثل السوداني : ( الشخص الذي تلتفت اليه تتفقده وانت مسافر .. افضل تنتظره .. ولا تفوته .. أمهله ) كلك حكمة ونظر يا برمة ناصر .. شاهدتك وانت تتحدث علي منصة التاسيس وقد قرأت مسبقا مقالات بنات الصادق المهدي واحتجاجات بعض كوادر حزب الامة المناهضة لحضورك لمنصة التاسيس .. فقرأت في وجهك مقولة الزعيم القومي العروبي العلم انطون سعادة (الحياة وقفة عز ) . لقد علمت جبال النوبة الثبات والعزة والشموخ .. وجددت مواقف زعماء الغرب الاجتماعي (د ادم موسي مادبو / الراحل بكري عديل / د بشير عمر) وعلمت كوادر حزب الامة انك اكثر ثباتا من ٩٩ جبل في منطقة جبال النوبة واكثر ثباتا من جبل موية سقدي .. وأنك زعيم حقيقي وليس مجرد كمبارس للتنميط التضليلي .
٦ - ابراهيم الميرغني : (من شابه أباه فما ظلم ) .. لايق عليك التوقيع في ٢٢ / فبراير ٢٠٢٥ .. فقد دخل السيد محمد عثمان الميرغني التاريخ من اوسع أبوابه في ١٦ نوفمبر ١٩٨٨ حين وقع علي اتفاقية الميرغني / قرنق التي جعلت قضية السلام ووحدة السودان اهم من قوانين سبتمبر :

في صالة التوقيع علي الميثاق التأسيسي بنيروبي لم يتوقف الهتاف (عاش ابوهاشم ) .. وهو الهتاف الذي كانت تردده الجماهير الهادرة التي خرجت بمنتهي العفوية لاستقبال السيد محمد عثمان الميرغني وهو عائد للخرطوم بعد توقيع اتفاقية الميرغني / قرنق التي نصت علي (تجميد الذي يساوي الغاء قوانين سبتمبر ) تلك الهتافات الهادرة التي حجبها عن الاعلام السيد الصادق رئيس الوزراء آنذاك غيرة من غريمه الميرغني .. فالسيد الصادق ( كثير الكلام عديم الإنجاز ) بكل اسف لا يعمل ولا يسمح لغريمه ان يفعل .. فقد (ماطل في اجازة اتفاقية الميرغني / قرنق - بتوضيحاتها كما كان يقول ) حتي تمكنت الجبهة الاسلامية من انقلابها الذي كان معلوما لدي السيد الصادق عبر اجهزته الامنية وعبر التبليغ الحزبي الرسمي له عبر الاسلاموي احمد سليمان وقد تواطأ السيد الصادق مع انقلاب الإنقاذ بالصمت والامتناع عن فعل شيء رغم ان حزب الامة قد وقع علي ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي تلاه علي الملأ بمدينة ود مدني دكتور خالد ياجي الذي رحل عن دنيانا بالقاهرة في الايام القليلة الماضية .
اننا نردد مقولة : ان السيد محمد عثمان الميرغني مغفور له ما تقدم وما تأخر امام ميزان الحساب في السياسة السودانية يوم تنشر صحف الساسة السودانيين مغفور له بسبب توقيعه علي اتفاقية الميرغني / قرنق التي كانت ستغير مجري السياسة في السودان .. وميثاق التأسيس الذي جري توقيعه في نيروبي في ٢٢/ فبراير ٢٠٢٥ و شارك في توقيعه السيد ابراهيم الميرغني يحمل روح اتفاقية الميرغني / قرنق التي وقع عليها ابوهاشم شخصيا في ١٦ نوفمبر ١٩٨٨ .. ومن شابه أباه (في المواقف السياسية الحاسمة )فما ظلم .. لايق عليك هذا التوقيع يا ابن الأكابر .

ابوبكر القاضي
كارديف /ويلز / UK
الرابع من مارس ٢٠٢٥

aboubakrelgadi@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • تزامن لا بد من أن نرى فيه فرصة تاريخية: نصوم معًا مسيحيين ومسلمين لنتلزم معًا
  • الميثاق التأسيسي نيروبي يضع الفأس علي اصل شجرة السودان القديم والساس المتين لمشروع السودان الجديد ؟!
  • مقترح برلماني| زيادة تدريجية للإيجار القديم على 3 سنوات مع إلغاء التوريث
  • البابا تواضروس الثاني: "استثمر حياتك في السماء"
  • قداسة البابا تواضروس يواصل سلسلة ثنائيات في أمثال المسيح باجتماع الأربعاء
  • البابا تواضروس: "استثمر حياتك في السماء"
  • حالات رفع عداد الكهرباء القديم واستبداله بـ مسبق الدفع
  • استثمر حياتك في السماء.. عظة الأربعاء للبابا تواضروس
  • افتتاح فرع جمعية “إنسان” في المزاحمية
  • علي جمعة يكشف مفاجأة: لو كان دارون صح لماذا لم يتحول قرد إلى إنسان