مواقفك وكلماتُك لا تُنسى
تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT
د. صالح الفهدي
كان أبو عامر محمد بن أبي عامر، حمَّارًا، ينقلُ البضائع للناسِ على حِماره، فقال ذات يومٍ لصاحبيه الحمَّارَين: ما أُمنياتكما التي تريدانها مني إن أصبحت في يوم من الأيام خليفة المسلمين في الأندلس؟ فقال الأول: أتمنى منك كذا وكذا وعدَّد له ما يطلبه من الأموال وغيرها وأن يجعله رئيسًا للحمَّارين، أمَّا الثاني: فضحك وسخر منه وقال: أنتَ حمَّارٌ فكيف يصبحُ الحمَّار خليفة للمسلمين، وأضاف هازئًا: إن أصبحت خليفةً فأركبني حمارًا واجعل وجهي إلى قفاه ونادي عليَّ في المدينة وأنت تدور بي!
دارت الأيام وأصبح أبوعامر محمد بن أبي عامر حاكمًا للدولة العامرية في الأندلس يكنَّى بالحاجب المنصور، فتذكَّرَ صاحبيه الحمَّارين وطلبهما إلى القصر، وسألهما عن أمنياتهما قبل ثلاثين عامًا، فقال الأول دون تردُّدٍ ما تمنَّى من الأموال وغيرها، فأمر له بها، فيما تردَّد الثاني بما تمنَّى فأصرَّ عليه الحاجب المنصور الذي كان حمَّارًا مثله، فقال عن خوفٍ وتردُّد ما تمنَّى في أن يُركبه حمارًا على قفاه وينادى به في الأسواق، وهكذا أمرَ له الحاجب المنصور!
وذكرَ لي أحد الأصدقاء الكويتيين قصَّةً؛ حيث يقول: في الإجازة الصيفية للمدارس وكنتُ لا أزالُ حينها طالبًا في المدرسة، اقترحتُ على والدي أن أستغلَّ الباص لنقل العمالة الوافدة إلى إحدى القواعد العسكرية؛ حيث يعملون هناك في مختلف المِهن، وحين اقتربتُ من بوابة القاعدة العسكرية سخرَ منِّي الجنديَّانِ اللذان كان يحرسانِ البوابة، ورفضا دخولي من المنفذ، وعاملاني باستهزاءٍ وقسوة، وطلبا أن أتجه إلى بوابة بعيدةٍ، وكان حديثهما إليَّ فيه من الهزء والسخرية ما آلَمَ نفسي، ثم دارت الأيام وتخرَّجتُ من المدرسة، واتجهت إلى الترشيح وأصبحتُ ضابطًا، ثم تدرجتُ في الرُّتب العسكرية حتى أصبحتُ قائدًا للقاعدة نفسها التي يحرسُ فيهما الجنديان! وهناك طلبتُ أن يؤتى بالباص خارج البوابة ويوقَف بمسافةٍ منها، فاتجهتُ إليه ولبستُ ملابس أقرب إلى تلك الملابس التي لبستها يوم أن كنتُ طالبًا أسوق الباص، فقد كنت أعلم أن الحرَّاس لا زالوا هُم أنفسهم، فلما اقتربتُ بالباص من حاجز البوابة، سألتُ الحرَّاس: هل تعرفون صاحبَ هذا الوجه؟ تفرَّس الجند وجهي، وأدُّوا لي التحيَّة، وتذكروا الموقف القديم، وبدأوا بالتأسف والاعتذار مني، وعندها ألقيتُ عليهم نصائح فحواها أنَّ الكلمات والمواقف تبقى في ذاكرة الإنسان، وأنَّ عليهم أن يُحسنوا الكلمات والمواقف دائمًا ليبقى ذكرهم الطيب في نفس الإنسان يذكرهم به بامتنان وعرفان.
الكلمات والمواقف التي تبدُر من إنسانٍ نحو إنسانٍ آخر لا تكادُ تُنسى، أكانت حسنة أم سيئة، مُفرحةً أم مُحزنة، محفِّزةً أم مُحبطة، فمهما طالت الآماد، وتوالت السنون ستظلُّ الكلمات والمواقف راسخة في نفس الشخص الذي قُصِدَ بها، ومن ذلك أن أحد الناس قال لي: أنَّ فُلانًا ألقى عليَّ كلمة مؤلمةً منذ أربعين عامًا لم أنسها، بل أن صداها لازال في نفسي!.
وفي ذات السياق قالَ أحدهم لصاحبٍ له: أنتَ متكبِّر!، فردَّ الآخر عليه لاحقًا في أبياتٍ شعريةٍ، يقول في مطلعها:
لا لستُ بالعاصي ولا المتنطِّعِ
أَبدًا ولستُ بصاحبٍ ذي مطمعِ
لا أعرفُ الكِبْرَ الذي تصفونهُ
قسمًا، وأحلفُ أَنني لم أدَّعِ
بين النزاهةِ والتكبُّرِ عالمٌ
أَبعادُهُ مثل الفضاءِ الأَوسعِ
حتى يقول في قصيدته:
إني لأسبل للكرامةِ سترها
حتى وإن طَرَقَ التنكُّرُ مسمعي
لي مذهبٌ حرٌّ يصونُ نزاهتي
وفضيلتي وأعيشُ غيرَ مقنَّعي
وأذكرُ أنَّ أحدهم كانَ مسؤولًا في إحدى الوزارات عن موظَّفٍ وكان يعاملهُ معاملةً فظَّةً قاسية، فلمَّا خرجَ ذلك الموظف، ترشَّحَ لمجلس تشريعي، ثم جاءه الحظُّ فعيِّنَ وزيرًا في الوزارة نفسها، حينها طلبَ ذلك المسؤول التقاعدَ فورًا، ولو كانت مواقفه حسنة مع موظفه لأكرمه الموظف الذي أصبح وزيره، ولكنه خشي أن ينتقم منه، فقرر أن يفرَّ بنفسه، بغضِّ النظر عن ما سيقابلهُ به موظفه الوزير!
الشاهدُ أن الأيام دُول، وأنَّ كلماتك ومواقفك ستذكرُ لك أـو عليك، فإن كانت لك ذُكرتَ بخيرٍ، وإن كانت عليك ذُكرتَ بسوء، أنتَ حَكم نفسك، وأنتَ معلمها، فاختر لنفسك ما تودُّ أن تلقاه، وتسمعهُ.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قلق بريطاني من أن يقول ترامب شيئا لا ينبغي له أن يقوله
نقلت صحيفة "أي نيوز" البريطانية عن مصادر أن مسؤولين في أجهزة الأمن البريطانية سعوا للحصول على تطمينات بشأن كيفية استخدام وتوزيع المعلومات الاستخباراتية من قِبل نظرائهم الأميركيين، في ظل قلق متصاعد بسبب سياسة الرئيس دونالد ترامب الخارجية.
وتحدثت الصحيفة عن مخاوف من استخدام معلومات حساسة كأداة تفاوض من قِبل ترامب، أو تمريرها عن غير قصد خلال مفاوضاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقالت مصادر للصحيفة إن "الأمر يتعلق بمسؤولين من الجانبين سيناقشون ما يمكن مشاركته وما لا يمكن مشاركته مع ترامب.. ما يثير القلق هو أنه قد يقول شيئا لا ينبغي له أن يقوله".
ونقلت عن مصدرين مطلعين أن مناقشات غير رسمية جرت بين مسؤولين بريطانيين وأميركيين لتهدئة المخاوف، والحفاظ على اتفاقية طويلة الأمد لتبادل المعلومات الاستخباراتية.
وتحدث مسؤول استخباراتي أميركي عن محادثات غير رسمية، تهدف لإبقاء خطوط الاتصالات الحيوية مفتوحة خلال ما سماها بفترة عدم اليقين المتزايد.
وقال مسؤول استخباراتي أميركي سابق إن أحداث الأيام القليلة الماضية، لا سيما رفض الدعم الأمني طويل الأمد لأوكرانيا، ستجعل أعضاء تحالف "العيون الخمس" يعيدون تقييم هيكل علاقتهم مع الولايات المتحدة.
إعلانويضم تحالف "العيون الخمس" الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وتأسس عام 1941، ويسمح لأعضائه بمشاركة المعلومات الاستخباراتية السرية للغاية للتصدي للتهديدات الأمنية.
وأضاف المسؤول السابق "التقارب الظاهر مع روسيا ورفض أوكرانيا والكذب الصريح بشأن جذور النزاع الأوكراني ستؤدي بلا شك إلى زعزعة هذه العلاقة الحيوية. والأسئلة الأساسية هي: هل يمكن الوثوق بنا؟ هل نحن حلفاء؟".
وقال مسؤول استخباراتي أميركي ثانٍ إنه إذا كان يعمل لصالح الاستخبارات البريطانية، فسيحجب "أي شيء حساس" عن الإدارة الأميركية الحالية.
وتنامت المخاوف أيضا من أن يُنظر إلى التعاون الاستخباراتي الأميركي على أنه ورقة مساومة في أي مفاوضات تجارية في ظل الشعور العام بالقلق إزاء عدد من تعيينات ترامب في المناصب الأمنية الرئيسية.
تعاون مستمرفي المقابل، قال متحدث باسم الحكومة إن تبادل المعلومات الاستخباراتية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة عزز أمن كلا البلدين لعقود عديدة وسيستمر التعاون تحت الإدارة الأميركية الجديدة.
وأكد مسؤول بريطاني سابق أنه سيكون هناك مهنيون يعملون خلف الكواليس لضمان عدم تأثير الأحداث السياسية على العلاقة الأمنية الحيوية طويلة الأمد بين وكالات الأمن في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وقال جون فورمان، الملحق الدفاعي البريطاني في موسكو حتى عام 2022، إن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر سيحتاج إلى الاستمرار في توضيح "المصلحة المتبادلة" للعلاقة القائمة بين الاستخبارات والدفاع لإقناع ترامب بأن تحالفا أعمق سيعزز الأمن الوطني لكلا البلدين.
وأضاف فورمان "يعتمد النظام بأكمله على الثقة، وقد استمر على هذا النحو منذ الحرب.. إذا انهارت هذه الثقة، فستؤثر على الأمن الوطني للمملكة المتحدة والولايات المتحدة. العلاقة تسير في كلا الاتجاهين ولا يمكن لأوروبا أن تحل محلها".
إعلان