أنظمة العمل المرنة.. ما لها وما عليها
تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT
بحلول وانتهاء جائحة كورونا (كوفيد 19) توسع الحديث عن ضرورات الاتجاه إلى تبني أنظمة العمل المرنة، وقد يعود ذلك إلى عدة عوامل؛ منها اضطرار قطاع واسع من مؤسسات العمل حول العالم (حكومية وخاصة) إلى تبني نظم العمل عن بعد؛ وهو ما أفرز لدى بعض المؤسسات والدول تجارب إيجابية من ناحية العلاقة بين هذه الأنماط من العمل وبين مستويات الإنتاجية من ناحية، وتحسن جودة حياة الموظفين من ناحية أخرى.
نقصد هنا بأنظمة العمل المرنة مجمل التسهيلات التي تتيح تغيير شكل/ أشكال من النظم التقليدية للعمل، المرتبطة بالحضور في ساعات محددة بحكم النظام، أو التواجد الجسدي لتقديم الخدمات وأداء الأعمال في مكان محدد، ومن هذه التسهيلات: العمل عن بعد، تقليص عدد ساعات العمل، تقليص أيام العمل، تخفيف كلفة التنقل في محيط العمل من خلال استخدام الاجتماعات الافتراضية وما شابهها من آليات، بالإضافة إلى أنظمة العمل متناوبة الفترات مثل تقسيم فترات خدمة المراجعين طوال اليوم بدلًا من الاكتفاء بدوام رسمي محدد. في الواقع وللحكم على هذه التسهيلات عمومًا لابد من الانتباه إلى محدد مهم وهو (سياق التطبيق)؛ فحين الحديث عن التطبيق على المؤسسات الخاصة (الشركات مثلًا) فإن السياق يختلف عن التطبيق على الحكومات؛ ذلك أن المؤسسات الخاصة تعتبر بيئة تجريبية يمكن التحكم في كافة عناصرها، وطبيعة نظم العمل فيها، والتقسيمات، ونوعية اتصالها بالمجتمع، وأساليب الإدارة المتبعة تتيح قياس التأثير والتجربة المباشرة على كافة العمليات والأداء بشكل واضح في سياق زمني محدود. أضف إلى ذلك فإن عامل تأثير الثقافة المؤسسية يمكن التحكم فيه وفق النظم والإجراءات المتبعة داخل هذه المؤسسات. أما في حالة التطبيق على الحكومات فهناك مجموعة متعددة من العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار منها: نوعية المؤسسة في اتصالها وعلاقتها بالمستفيدين - حجم الحكومة - دورات وفترات تقديم الخدمة - تماثل التقسيمات الإدارية في الهياكل الحكومية المختلفة - تمركز الحكومة من لامركزيتها - درجة الانتقال الرقمي وإمكانية تقديم خدمات متكاملة عن بعد - درجة اعتمادية المؤسسات على بعضها - درجة اعتمادية المعاملات الحكومية على عدد منافذ تقديم الخدمة - طبيعة الهياكل الوظيفية داخل كل مؤسسة - وضوح أدوار العاملين بشكل دقيق (وظائف فنية - وظائف إشرافية) - والعامل الأهم في تقديرنا هو مدى وجود مؤشرات واضحة ودقيقة لقياس الأداء و (الإنتاجية) داخل المؤسسة من ناحية، وداخل الحكومة ككل من ناحية أخرى. ونعتقد أن هذا مؤشر يتوجب الانتباه إليه وتحديثه بشكل مستمر؛ ذلك أن الكثير من سياسات العمل يفترض أن تقوم عليه أو تأخذه في الاعتبار في وضع الإجراءات والنظم.
يبدو من الجيد الاستفادة مما وصلت إليه التجارب الدولية المماثلة، ولكن مع عدم إهمال طبيعة السياق الاقتصادي من ناحية حجم الاقتصاد وطبيعته ومستوى تدخل الدول في العمليات الاقتصادية وسواها من العوامل، إضافة إلى السياقين الثقافي والاجتماعي، قد تعزز أنظمة العمل المرنة الاستقرار والاندماج الاجتماعي، وقد تقوي الروابط الاجتماعية والأسرية، وقد تمنح المربين فرصًا أفضل للاقتراب من الأبناء تعليميًا وسلوكيًا وترفيهيًا ومعرفيًا، وقد تحسن من فرص اهتمام الموظفين بالصحة والسلامة الشخصية، وبالتالي تنعكس على جودة الحياة، وتتيح وقتًا أفضل للتعلم المستمر والتطوير الذاتي، وتنشط الطلب على أنشطة اقتصادية معينة مثل أنشطة الترفيه الشخصي والعائلي، وأنشطة السياحة الداخلية، والطلب على الخدمات التقنية ومنتجاتها، والطلب المرتبط بإعادة تصميم المنازل كبيئات داعمة للعمل المرن، وقد تكون (نظريًا) مساحة العمل المرن تدفع للمزيد من الإنتاج بالنسبة للأفراد نظير التخلص من قيود الوقت والمكان والرسمية، وقد يعزز انتساب الأفراد لأنظمة عمل مرنة الطلب على السوق المحلية وإعادة توجيه القوى الشرائية نحو منتجات وخدمات مختلفة. ولكن تبقى كل هذه المسائل (افتراضات) في ظل عدم وجود بيانات أساسية (Baseline) يمكن الانطلاق منه والقياس لاحقًا عليه، بما في ذلك مؤشرات الإنتاجية التي نبهنا إليها، وما طبيعة القيود الحالية المفروضة على تحسين أنماط وجودة الحياة وهل أنظمة العمل تشكل جزء منها؟ وما طبيعة الوضع الراهن للقدرة على التوفيق بين العمل والحياة الشخصية لدى الموظفين الحكوميين؟ وهل ستسهم فعلًا سياسات العمل المرنة في التغيير في هذه المعادلة.. وقائمة طويلة من الأسئلة التي يمكن الانطلاق منها إلى محاولة قياس التغير المحتمل. تبدو المسائل المرتبطة بالانتقال للرقمي للحكومة، ومسائل جودة شبكات الاتصالات في عموم البلاد، والثقافة الرقمية للمجتمع، وثقافة نقل المهام Handover ضمن الثقافة المؤسسية، والثقة ومستويات التمكين بين الرتب الوظيفية والتقسيمات الإدارية عوامل أخرى لا يمكن إهمالها ضمن تخطيط الانتقال إلى سياسات العمل المرنة.
كل الاعتبارات سابقة الذكر لا تعني أن الانتقال بهذا القدر من التعقيد، ولا تقلص أو تحد من أهميته في الوضع الراهن خاصة مع ضغوط الحاجة لتحسين مستويات جودة الحياة، والعوارض المتصلة بالظروف المناخية وقيودها، وحالات تطرف الطقس، والبحث عن مستويات رضا وولاء وظيفي عالية داخل الحكومات. لكن ما نريد التأكيد عليه هو أنه بقدر ما يكون الانتقال مخططًا ومدروسًا ليس فقط كـ (اعتبار مالي واقتصادي)، وإنما متشعب الاتجاهات، كلما كانت النتائج مخططة وذات عائد على مستوى تحسين الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. أيضًا لا بد أن يشمل تخطيط الانتقال اختيار البديل المناسب في السياسات، هل من الأجدر أن نقلص الساعات؟ أم نقلص الأيام؟ أم نوسع نطاق العمل عن بعد؟ أو ما هي الترتيبات التي يمكن أن يكون جدواها أكثر فاعلية لتحقيق أهداف السياسة العامة. وقد تكون التسهيلات المختلطة بين عدة خيارات بديلًا مناسبًا في حد ذاته، بشرط اختيار سياقات ومؤسسات العمل التي يمكن أن تتبناها وتطبق عليها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جودة الحیاة من ناحیة عن بعد
إقرأ أيضاً:
حول المقارنة بين الثورة السورية والثورة الليبية
استمعت إلى مقارنة عقدها أحد المهتمين بالشأن العربي والإسلامي بين الثورة السورة والثورة السورية والتي كان ملخصها أن الثورة السورية نضجت فيما كان التطور السريع في مسار الثورة الليبية سببا في عدم نضوجها، وقد يفهم من هذه المقارنة المتعجلة أن فرص نجاح الثورة السورية أكبر في مقابل إخفاقات ماتزال تواجهها الثورة الليبية.
الحكم بنضج الثورة السورية لأنها استمرت نحو 13 عاما يحتاج إلى وقفة، والبداية بالسؤال عن مفهوم النضج، وهل بالفعل توفر في الحالة السورية، إذ لا يكفي أن نعتبر الزمن وحده عاملا لتقعيد أساسات الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومفهوم وشكل الدولة، وفق ما هو قائم ومعلوم، مفروض على أي مسعى للتغير.
بالمثل قد يكون من قبيل التسرع الحكم بأن تجربة المعارضة في إدارة المناطق التي كانت تخضع لها قبل سقوط نظام بشار أساس متين وناجع لإدارة الدولة السورية بعد الثامن من ديسمبر، فالفروقات كبيرة والظروف مختلفة على كافة الصعد المحلية والدولية.
السيطرة على دمشق والتحكم في مفاصل الدولة نقل المعارضة من الظل والزوايا المحدودة التي لا تشكل أهتماما كبيرا لكثيرين، إقليميا ودوليا، إلى دائرة الضوء وإلى التدافع والضغوط والاحتواء، وهذا أمر ليس باليسير، ويتطلب حالة فردية وجماعية قوية لمجابهته، واللقاء الذي جمع ساسة أمريكيون مع الشرع يوم أمس هو مثال للظروف المختلفة، والضغوط الكبيرة التي ستواجهها المعارضة والتي قد تكون على حساب رؤيتها ومشروعها ومواقفها.
الانتقال الصحيح والتحول الراشد من الثورة إلى الدولة له اشتراطاته ومتطلباته ومقوماته، في مقدمتها وضع المجموع القائم على الثورة ومدى استعداده لإدارة عملية الانتقال بكفاءة، وهنا يبرز عامل الاتفاق على المشروع ومضامينه التي في حال غيابه تصبح الحالة الثورية مرشحة للاستمرار وقابلة للتشظي، والأهم أنها ستكون عرضة للتدخل وربما مساعي التوظيف من قبل المتربصين. أؤكد أن نقاشي هدفه التنبيه إلى حالة التفاؤل التي أرى أنها مفرطة في تقييم الثورة السورية وأنها قد تكون مختلفة عما واجهه غيرها من الثورات خاصة الحالة الليبية، والتنبيه إلى أن التحديات كبيرة وكبيرة جدا، وأن ما هو متاح ومرئ يجعل حالة التفاؤل غير واقعية وقد تكون من بين أسباب الفشل.
الانتقال الصحيح والتحول الراشد من الثورة إلى الدولة له اشتراطاته ومتطلباته ومقوماته، في مقدمتها وضع المجموع القائم على الثورة ومدى استعداده لإدارة عملية الانتقال بكفاءة، وهنا يبرز عامل الاتفاق على المشروع ومضامينه التي في حال غيابه تصبح الحالة الثورية مرشحة للاستمرار وقابلة للتشظي، والأهم أنها ستكون عرضة للتدخل وربما مساعي التوظيف من قبل المتربصين.
قد يكون من المبكر تقييم المجموع القائم على إدارة عملية الانتقال، وبرغم التقدير لمواقف وتصريحات الشخصية الأبرز في هذا المجموع وهو الشرع، إلا إن ملامح المشروع الذي ستدار على أساسه عملية الانتقال والتحول في سوريا ما تزال غير واضحة، وهناك بعض المؤشرات على أنه لن يكون مشروعا يضم الجميع، أو أهم القوى السياسية والفكرية والمجتمعية، وهذا تحدي قد يصعب تجاوزه.
التعدد العرقي والديني والسياسي وحتى الجهوي في سوريا حاضر وتم اللعب عليه خلال العقود الماضية بشكل خلف أثار كبيرة وخطيرة في المجتمع السوري، والانتقال من الحالة السلبية إلى التعايش الحقيقي يتطلب عملا جبارا ورؤية واستراتيجية، وشرط ذلك أن تعبر سوريا عنق الزجاجة على المسار السياسي وعلى مستوى تحديد شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم والعدالة الانتقالية وغيرها من أسياسات الانتقال الراشد، وفي حال تعثر المسار السياسي فستعمل الاختلافات العرقية والدينية والعرقية والجهوية في اتجاه مضاد، ويتيسر توظيفها من قبل المتربضين.
ملف العسف والقهر والعنف الذي استخدمه النظام السابق يمثل تحدي كبير لسوريا الجديدة، وبرغم وجود مؤشرات على ضبط النفس واحتواء ردود الفعل التي كان من المتوقع أن تكون حادة، إلا إن هذا الملف قد يشكل بؤرة توتير كبيرة في ثنايا السير والانتقال، وأقصد هنا عودة بقايا النظام السابق للواجهة من جديد إما لدوافع نبيلة من المتصدرين للثورة، أو خوفا من تهميش هذه الفئة التي تنتسب إلى قطاع واسع من المجتمع السوري، أو تحت ضغوط المجتمع الخارجي الذي له فلسفته أو حتى أغراضه التي لا تتوائم مع المشروع الذي قد تتبناه قوى الثورة السورية، وبالتالي فإن عودة هؤلاء إلى الواجهة ستكون سببا لخلاف حاد بين مكونات الثورة.
البوصلة عندي في تقييم الثورة السورية بعد سقوط النظام هو في مدى تماسك مجموعها واتفاقه، فهذا هو الضمانة الحقيقة لتطورها والسد المنيع أمام التحديات الداخلية والخارجية، أما إذا ظهرت بوادر الخلاف بين مكوناتها الرئيسية، فإن العوامل السابقة الذكر ستعمل بشكل سريع إلى نقل الخلاف إلى نزاع ثم صراع. الجيوبولتيك السوري ربما يمثل أكبر تحدي لسوريا الثورة ولمشروع الانتقال إلى الدولة المستقرة والقوية التي تتماهي مع النفس العربي والإسلامي والقضايا الكبرى للأمة العربية والإسلامية، ولنتذكر أن سوريا تشاطر الكيان الصهيوني الحدود، هذا الكيان الذي يمر بلحظة تاريخية وفق مشروعه، وواجه تحدي لم يعرفه منذ عقود، ولديه من الكيد والخبث والأدوات ما يمكنه من إفساد المشروع الثوري السوري من خلال اللعب على بذور الاختلاف والتناقض، ويقف خلف الكيان الصهيوني دول كبرى.
مفهوم الانتقال من الثورة إلى الدولة في سوريا بالنسبه للكيان وحلفائه من الغرب والعرب أن يتخلى السوريون، وفي مقدمتهم قادة الثورة، عن النفس الثوري والايديولوجي، والقيم العليا والمبادئ الرئيسية، ويكونون براغماتيون شأنهم منحصر في التنمية والاعمار والعيش المادي الرغيد والذي يستلزم التطبيع مع دولة إسرائيل وتحول السلطة الجديدة إلى ذراع إضافي لتأمينها.
البوصلة عندي في تقييم الثورة السورية بعد سقوط النظام هو في مدى تماسك مجموعها واتفاقه، فهذا هو الضمانة الحقيقة لتطورها والسد المنيع أمام التحديات الداخلية والخارجية، أما إذا ظهرت بوادر الخلاف بين مكوناتها الرئيسية، فإن العوامل السابقة الذكر ستعمل بشكل سريع إلى نقل الخلاف إلى نزاع ثم صراع.