التاريخ في ثقافة المتخصصين يعني (الزمن)، وقد تباينت الآراء حول تعريفه، واختلف المؤرخون حول معنى (تاريخ)، فالبعض اعتبره لفظا عربيا، والبعض الآخر يرى أنه كلمة وفدت إلينا من اللغات الساميّة وقد عُربت عن الفارسية، والتي وردت فيها بمعنى (ماء روز) أي بداية ظهور الهلال، بعدها انصرف المعنى إلى مجمل الأحداث التاريخية، وهو المعنى الذي استخدمه العرب للدلالة على معرفة أحداث الماضي، ومحاولة كشف وقائعه، وهي معان لا تختلف كثيرا عما ورد في الثقافات الأوروبية، التي استخدمت الأصل اليوناني (History)، وقد استخدمها الفلاسفة والمؤرخون الأوروبيون في تسجيل أحداث الماضي في محاولة لفهمه بعكس القصص والأساطير التي أسقطها المؤرخون الأوروبيون من حساباتهم منذ فترة مبكرة من عصر النهضة الإيطالية، ووضعوا فروقا واضحة ما بين الأساطير وبين التاريخ باعتباره مجالا فسيحا لدراسة سيرة الإنسان وأحواله في شتى مناحي الحياة، بعد أن تبين لهم حقيقة تلك الأساطير التي شاعت في أوساط العامة والدهماء خلال العصور الوسطى، وقد كشفوا عن التاريخ بمعناه الحقيقي، وتبين لهم معناه وفلسفاته من خلال المؤرخين والفلاسفة الذين استقوا معارفهم من القراءة في الثقافتين الإغريقيّة واللاتينية، وقد تبين لهم ما ورد في هذا التراث من خرافات أضرت الناس في حياتهم وفي عقيدتهم.
أدرك ابن خلدون ( ١٣٣٢-١٤٠٦م ) أهمية التاريخ، ليس باعتباره قصصا وحكايات وإنما باعتباره علما يتحرى معرفة الحقيقة، ويرصد مكمن الخطأ والصواب في مسيرة الحضارة الإنسانية، حيث يقوم على النظر والتحقيق ورصد الظواهر الإيجابية والسلبية والتعرف على مختلف النشاط الإنساني، وتسجيل الظواهر السلبية والإيجابية والكشف عن أسبابها، والتاريخ كما يراه ابن خلدون علم أصيل عريق قوامه الحكمة التي تعني في الثقافة العربية أسمى درجات المعرفة، ولعل ابن خلدون هو أول من قال بهذا، حتى قبل المؤرخين الأوروبيين حينما أدرك المعنى الحقيقي للتاريخ، ليس باعتباره ترفا وإنما باعتباره ضرورة حضارية وإنسانية، المقصود منها معرفة مسيرة الحضارة الإنسانية، فضلا عن أهمية الوقوف على تاريخ عمران الأرض، وبهذا يكون الرجل قد سبق غيره في معرفة التاريخ كعلم، وإدراكه لأهميته الحضارية في خدمة البشرية.
يعد التاريخ بمثابة سجل يرصد الأحداث وليس الحوادث نفسها، لذا (فالتأريخ) مصطلح يعني صناعة التاريخ والوقوف على معرفة وقائع الماضي وتفسيره، وهي مهمة جليلة يتولاها العلماء وفلاسفة التاريخ الذين جعلوا منه علما يستهدف استعادة الماضي والنظر في الأفكار والسياسات التي يحققها البشر وفقا للمنهج العلمي الذي اصطلح عليه العلماء، وهناك فرق كبير بين كلمة التاريخ، وهو المعنى الذي يرصد الوقائع ويسجل الأحداث منذ الأزمان السحيقة، وبين كلمة (تدوين التاريخ)، وهو المصطلح الذي يُعنى بتفسير الوقائع وتحليلها ونقدها والسعي نحو معرفة العوامل التي تسيَّر حركتها، كما أن هناك فرقا بين مصطلح (تاريخ) ومصطلح (تأريخ)، فالأخير يُقصد به تسجيل الأحداث بكل وقائعها وجهد المؤرخين في تسجيل ودراسة هذا الماضي الذي ربما لا نملك عليه دليلا واضحا.
الإنسان هو صانع التاريخ وهو مؤسس الحضارة، ولولا الإنسان منذ وجوده على الأرض ما وجد التاريخ له مجالا، لذا بدأ تاريخ الحضارة الإنسانية منذ وجد الإنسان وتفاعله مع جميع المنجزات الحضارية، وهي محصلة لخبرات الإنسان وارتباطه بماضيه وبيئته الجغرافية والاجتماعية، لهذا تفاوتت الحضارة بين بني البشر رغم أنهم يعيشون على كوكب واحد، والاختلاف بين المجتمعات في صناعة التاريخ يعد أمرا محسوما بحكم الفروق الجغرافية والبيئية، ونلاحظ بشكل واضح أن الدول التي تقع على شواطئ البحار والمحيطات وطرق المواصلات كانت هي الدول التي أسست بشكل كبير كل الحضارات القديمة، حينما كان البحر والمحيط هما الوسيلتان الأهم في تبادل التجارة والاحتكاك بين الشعوب، بعكس ما يحدث في واقعنا المعاصر، فقد تنوعت وسائل الاتصال البري والبحري والجوي والإلكتروني، ولم تعد الجغرافيا عائقا في إشراك الجماعات الإنسانية في صناعة الحضارة.
غالبا ما يتردد في أدبيات الكتابات التاريخية وعبر وسائل الإعلام كلمة الدول المتحضرة، ويقصد بها الدول التي أقامت حضارات متعاقبة سجلها التاريخ ووثق قصص نجاحاتها، وهو قول يجافي الحقيقة، فكل الدول متقدمة أو متخلفة جميعها لها حضارة تختلف قوة أو ضعفا، لكنها جميعا، غنية أو فقيرة نامية أو متقدمة جميعها تملك حضارة، بما في ذلك الدول الفقيرة، فهي تملك من الحضارة ما يعينها على معاشها في مأكلها ومشربها ومسكنها وسبل عيشها، وغالبا إذا ما أتيح لها أن تحظى بحكم رشيد فإنها تتسابق في اللحاق بالدول المتقدمة، والأمثلة على ذلك كثيرة في عالمنا المعاصر.
العامل الأهم في صناعة التاريخ والحضارة الإنسانية هو الإنسان الذي يملك العقل والتفكير الحر المنظم، الذي يعول عليه في صناعة التاريخ أو الحضارة، وفي عالمنا المعاصر تجاوزت المجتمعات الرشيدة الجمود الفكري والمفاهيم الدينية والاجتماعية الخاطئة، وأخضعت كل شيء للنقد والتحليل، بعد أن قطعت الإنسانية شوطا كبيرا في صناعة تاريخها وحضارتها، وراحت الدول والشعوب تتسابق نحو المعارف الجديدة والقواعد الحاكمة للدول التي نهضت والأخرى التي تراجعت، فضلا عن إعلاء قيمة الإنسان باعتباره الصانع الحقيقي للحضارة، رغم ما يروج له بعض الأوروبيين بأن شعوبا بذاتها مؤهلة لصناعة حضارتها وتاريخها، بينما هناك أجناس أخرى لا تملك مقومات الإندماج والتكيف واستيعاب منجزات الحضارة المعاصرة، وقد تبين من الواقع المعاش أن انفراد جنس بذاته في صناعة الحضارة هو قول يجافي الواقع، بعد أن كانت شعوبا تُصنف وفق أعراقها وألوانها وأجناسها ودينها باعتبارها شعوبا عصية على التقدم، وقد تبين من الواقع خلال نهايات القرن الحادي والعشرين وبداية القرن الثاني والعشرين أن كثيرا من هذه الدول قطعت شوطاً عظمياً في صناعة تاريخها وحضارتها، وهي حقيقة تفند مقولات البعض بهذا الشأن.
إن القول بتفاضل الأجناس وتباينها بالذكاء والكفاءة والقدرة على بناء الحضارات كان سببا كافيا لوقوع الكثير من المآسي التي أدخلت البشرية في أُتون صراعات، فالحقيقة العلمية المؤكدة أن كل الأجناس متحضرة، وكل الشعوب تملك مقوماتها الحضارية كبيرة أو متواضعة، ومن الخطأ الذي روج له المستعمرون دائما فكرة الفروق بين من تقدموا أو تخلفوا، فلكل جماعة إنسانية تاريخها وحضارتها بصرف النظر عن مستوى تلك الحضارة، ولعل من المؤكد أن الدول ذات الحضارات الكبيرة كانت سببا في ضعف وإفقار الدول الضعيفة.
وعلى الرغم من الفوضى القائمة الآن في العالم المعاصر، والدخول في صراعات إقليمية ودولية وتفاقم المشاكل بين من روجوا لفكرة أنهم صناع الحضارة، وبين دول فقيرة راحت تنهض وفق ظروفها الاجتماعية والسياسية المعقدة، لكن المحصلة النهائية أن الحضارة الإنسانية هي فعل جماعي يشترك فيه المتقدمون والمتخلفون، لأن الجميع مشتركون في الجماعة الإنسانية صانعة التاريخ والحضارة.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحضارة الإنسانیة صناعة التاریخ فی صناعة بین من
إقرأ أيضاً:
المرض الخبيث يتفشى .. فمتى تستفيق الشعوب العربية؟
بدأ سرطان الشرق الأوسط يتفشى في الجسم العربي، بعد أن كان محصوراً في كبدِ الأمة العربية (فلسطين)، لأن الأطباء الذين كانوا يداوونه ويمنعونه من الانتشار، انتقلوا إلى جوار ربهم شهداءَ ومضحين.
عندما اختفى هؤلاء الأطباء وأصبحوا خارج غرفة العمليات، استغيبهم هذا المرض وبدأ يوزع خلاياه جنوبًا وشمالاً وشرقاً، ولا دواء يقف في وجهه.
(راشيتات) كثيرة وُصِفَت من قبل أطباءٍ دوليين، يسعون في سرهم للقضاء على المريض لا على هذا المرض.
المستشفى العالمي أصبح مشرحة جثثٍ يغلب عليها العظام والجماجم الصغيرة الحجم لأنها تخص طفولةً منكوبةً.
ملامحُ عبثٍ في سورية أصبحت واضحةً، والعابثون واضحون أيضاً. المروجون لهذا العبَثِ واضحون والمتفرجون على العبثِ واضحون هم أيضاً. والذين سيطاولهم العبثُ وهم غاشون بالتأكيد واضحون.
أما ما هو غير واضحٍ فهو متى ستستفيق الشعوب العربية لتقف بوجه هذا العبث والعابثين.
تفلُّت أمني في معظم أنحاء سورية وآخرها في جرمانا في ضواحي العاصمة دمشق ذات الغالبية الدرزية، حيث هددت إسرائيل على لسان عدة مسؤولين فيها بمنع السلطة السورية الحالية من الدخول إلى هذه المنطقة، منصِّبةً نفسها في الظاهر شرطي المنطقة، بينما عبثها واضحٌ والغرض منه التوسع رويداً رويداً.
حلم “إسرائيل” الكبرى بدأ يتحقق ولا مانع لدى الجيش “الإسرائيلي” من دخول العاصمة دمشق والسيطرة على معبر المصنع الحدودي بين سورية ولبنان وذلك بحجة أو بأخرى، فها هي لبست ثوب الحامي لدروز سورية كما فعلت في جنوبها.
تقسيم سورية هدف استراتيجي أساسي لدى “إسرائيل”، وفي حال نجح فستنتقل العدوى إلى كل دول الجوار وبشكل متسارع، لكي تكبر “إسرائيل” وتتوسع.
مسؤولون “إسرائيليون” صرحوا بأنهم تلقوا الضوء الأخضر من الرئيس ترامب للبقاء في عدة نقاط في لبنان، لم يعرف عددها حتى الآن وإلى أي مدى ستصل.
أمريكا شريك أساسي في العدوان على لبنان وفي المجالات كافة، فهي تضغط على السلطة السياسية في التعيينات الإدارية المرتقبة لاستكمال حصار المقاومة وابتزازها بورقة إعادة الإعمار مقابل تدفيعها أثماناً باهظة في السياسة.
التعيينات الإدارية هي من أولويات الحكومة اللبنانية التي نالت الثقة منذ أيام بمعدل 90 صوتاً، فمن ذا يكون قائد الجيش المرتقب؟ ومن سيكون حاكم مصرف لبنان؟ ومن سيكون المدير العام للأمن العام؟ وماذا عن الجسم القضائي وكثير من وظائف الفئة الأولى الشاغرة منذ سنوات والتي يتخطى عددها المئة وثلاثين وظيفة؟ وهل ستكون أمريكا هي الآمر الناهي في هذا المجال؟
فريق لبناني يتماهى مع هذا الحصار، وهدفه تجريد المقاومة من سلاحها وجعل لبنان عارياً لا يستطيع ردع “إسرائيل” عن أي عدوان تقوم به، لا بل يجاهر بالسعي للسلام مع إسرائيل وبالتطبيع!
الجواب جاء واضحاً على لسان النائب أبو فاعور الذي قال بصريح العبارة موجهاً الرسالة للقاصي والداني بأنه أبعد ما يمكن أن نصل إليه في العلاقة مع “إسرائيل” هو اتفاقية هدنة على غرار هدنة 1949، فالرؤوس الحامية في لبنان عليها أن تكف عن تكبير حجرها، لأن ذلك سيؤدي إلى اقتتال داخلي ولا يراهن أحد على السلام أو التطبيع مع “إسرائيل”. آلاف الشهداء روت دماؤهم أرض الوطن منذ النكبة حتى اليوم لنصل إلى سلام أو تطبيع مع هذا الكيان؟!
ضغط أمريكي على كل المنطقة تجعل هيمنتها لا منازع فيها. زلنسكي مُسح بكرامته الأرض في البيت الأبيض. استُدعي للتوقيع على اتفاقية المعادن الأوكرانية فوصل بهم الأمر لتفتيش ثيابه.
درسُ كرامة لقنه الأمريكيون لزيلنسكي. هذا الدرس الذي شاهده العالم سيكون درساً لكل حلفاء أمريكا، بمعنى أن تعاملنا مع الرؤساء حلفائنا سيكون على هذا النحو، فكل زعيم عربي أو أجنبي يجب أن يأخذ العبرة من مشهد ذل زيلنسكي!
مرحلة سوداء تنتظر منطقتنا، ستظهر معالمها في الخطوات القادمة التي ستقدم عليها “إسرائيل” في المنطقة، لنرى ولادة طفلة الصهاينة التي طال انتظارهم لها، وهي “إسرائيل الكبرى”!.