لجريدة عمان:
2024-07-01@16:42:37 GMT

عبدالنبي .. الذي ليس عُمانيًّا

تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT

مدة طويلة قضاها عبدالنبي في عُمان، لا أذكر عدد السنين بالضبط، ولكن يكفي أن أقول إنه في ذاكرتي مذ كنتُ ألعب الكرة صبيًّا في مزرعتنا بالردة، وكانت الكرة تدخل أحيانا بالخطأ المزرعةَ المجاورة التي كان يعمل فيها، فيعيدها عبدالنبي بركلة قوية بعد أن يتراجع خطوات إلى الوراء ثم يَكُرُّ على الكرة راكضًا على طريقة البرازيلي روبرتو كارلوس.

لعلها 30 سنة أو أكثر تَنقّلَ فيها عبدالنبي بين أكثر من كفيل، لكنه ظلّ مقيمًا وعائلته في الردة إلى اليوم. خفيف الظل كان، ولا يزال. يتميز بذلك النوع من الظُرف الذي يأتي عفويًّا غير متكلف. ويمتاز عن أنور صميم، البنجالي الآخر المقيم في الردة منذ سنين طويلة، بالذكاء الاجتماعي، وسرعة التعلم، وإجادة اللغة العربية باللهجة العُمانية، ولذا فهو كثير الكلام، على عكس أنور الذي يظنه المرء من فرط صمته أخرس.

كل من نسِيَ عبدالنبي في الردة بسبب تراكم السنين، وكل من لم يعرفه سابقًا في عُمان، عرفه خلال الأيام الماضية، بعد أن انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في البترول، فيديو مدته دقيقة ونصف يظهر فيه عبدالنبي بالصورة وهو يدافع عن انتمائه إلى عُمان، بعد أن قرر ــ دون انتظار وثائق رسمية أو قرارات سيادية ــ أن يُصبح عُمانيًّا، بل واختار لنفسه اللقب العائلي الذي يحبّ. طوال مدة الفيديو يوبخه صوتان عُمانيان لا يظهران في الصورة، وبطريقة تقترب من التنمّر، على هذا الخيار. يخبره الأول أن أفراد القبيلة التي اختار أن يتسمّى بها غاضبون منه لأنه لا ينتمي إليها، وليس عُمانيًّا أصلًا، أما الآخر فيطلب منه بطاقته الشخصيّة ليتأكد من اسمه فيها، مضيفًا: «أنتم البنجاليين لستم عربا». هنا يردّ عبدالنبي: «لا حول ولا قوة إلا بالله. كيف ما عرب؟ قول لي». يرد عليه الصوت: «لأنك بنجالي»، فيتساءل عبدالنبي باستنكار: «أنت حالك رب موجود وأنا ما حالي رب؟!!».

تُحيلني هذه المناظرة على أسئلة الهُويّة الشائكة: ما الذي يحدد بشكل قاطع جازم انتماءنا إلى هذا الوطن أو ذاك، إلى هذه الأرض أو تلك، إلى أولئك القوم أو غيرهم؟ هل يكفي أن نولد في أرضٍ ما لنحمل اسمها؟ وهل تكفي ولادتنا بين جماعة من الناس كي نصير محسوبين عليهم؟ هل العربي فقط هو الذي يولد في بلد عربي؟ فماذا عن سيبويه الفارسي مثلًا، الذي نتعلم اللغة العربية من «كتابه»، أو البخاري (الخراساني) الذي حفظ لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟

يخبرنا سارتر في فلسفته الوجودية أن الإنسان محكوم بالحرية، وأنه ليس ثمة جوهر معين يحدد هويته، بل إن الإنسان هو من يحدد هويته من خلال اختياراته وأفعاله. وهذا ما فعله عبدالنبي بالضبط. لقد اختار. هذا كل ما في الأمر. إذ وجد أن البلد الذي آواه نصف عمره تقريبا، ووفر له الرزق والحماية، يستحق أن يعتبره وطنًا، دون أن يعني هذا تنكُّره لوطنه الأصلي الذي وُلِد وترعرع فيه.

يمكنني تشبيه عبدالنبي هنا - مع الفارق - بأمين معلوف؛ الأديب اللبناني الأصل، الذي هو اليوم واحد من أهم الشخصيات الثقافية الفرنسية. ينتمي معلوف؛ كما يخبرنا في كتابه «الهويات القاتلة» إلى أسرة تنحدر من جنوب الجزيرة العربية، استقرت في جبل لبنان منذ قرون، وانتشرت لاحقًا عبر الهجرات المتعاقبة في مختلف بقاع الأرض؛ من مصر إلى البرازيل، ومن كوبا إلى أستراليا. يبلغ الآن من العمر 75 عامًا، قضى 48 منها في فرنسا منذ وصوله إليها عام 1976م فارًّا من الحرب الأهلية في لبنان. آوته فرنسا واحتضنته، ووفرت له أسباب العيش الكريم، ومنحته جنسيتها، كما أنها كرمته بأهم جوائزها الأدبية: «غونكور»، ومنحته مقعدًا في الأكاديمية الفرنسية كان يشغله قبله كلود ليفي ستروس، وغيرها من التكريمات. من هنا أفهم رد إحدى شخصيات روايته «التائهون» على مقولة الرئيس الأمريكي جون كينيدي: «لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك» بجواب مؤثر سبق أن استشهدتُ به في مقال سابق: «من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديرًا، وقد انتُخِب للتو، في الثالثة والأربعين من العمر، رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية! أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تلقّي الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا الاستفادة من التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي، بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك، فما قيمة قول جون كينيدي؟ لا شيء يُذكر!».

وإذن، فإن الوطن لدى معلوف وعبدالنبي هو الذي ترفع رأسك فيه (بالعيش الكريم)، أكثر منه الذي يسقط رأسك فيه (بالولادة). الفرق أن الأول ذهب إلى فرنسا صحفيًّا، في حين جاء عبدالنبي إلى عُمان فلّاحًا في مزرعة العمّ سيف بن محمد. وحين أجدبت الأرض ولم يعد بالإمكان فلاحتها، بدّل مهنته والكفيل لكنه لم يترك المكان، بل إنه أحضر عائلته لتكون بجواره (أحد ابنيه يعمل في محل تجاري كبير بالردة، والآخر ما زال يبحث عن عمل). إن لسان حال معلوف وعبدالنبي هذان البيتان البليغان للشاعر علي بن الحسن البغدادي الشهير بــ«صَرَّ دُرّ»:

هذه الأرضُ أمُّنا وأبونا / حملتْنا بالكره ظَهرًا وبطنا..

إنما المرء فوقها فهو لفظٌ / فإذا صار تحتها فهو معنى.

وإذا كان أمين معلوف يرى في «الهويات القاتلة» أن «نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم» فإنني أزعم أن ما قدمه

عبدالنبي لعُمان خلال سنين مكثه فيها يفوق بأضعاف ما قدمه بعض العُمانيين الذين يتحدثون بحب الوطن في كل مناسبة، بينما هم لم يقدموا شيئا ، ولو كان الأمر بيدي لمنحته الجنسية دون تردد.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ستة مشاركين يتأهلون للمرحلة النهائية لمهرجان الأغنية العُمانية في نسخته الـ 12

"العُمانية": اعتمدت اللجنة الرئيسة لمهرجان الأغنية العُمانية في نسخته الثانية عشرة التي ستقام في محافظة ظفار من 11 – 14 أغسطس المقبل أسماء المتأهلين الستة إلى مرحلته النهائية وهم: عمر بن سالم الحسني، وعبد العزيز بن عجيب بن عرفه بيت كليب، وحامد بن سهيل الشامسي، ونهى بنت عبد الله المخينية وعائشة بنت حافظ بن أحمد بيت سويلم وسيف بن مسعود الغرابي.

وتسعى وزارة الثقافة والرياضة والشباب من خلال تنظيم هذا المهرجان إلى تحقيق عدد من الأهداف أهمها استقطاب المواهب الغنائية العُمانية، ورعايتها وتحفيزها والتركيز علـى إبداعاتهـا وإمكاناتها الفنية، والوصول إلى الجماهيـر حيث ما هــم، وتعزيز الشراكة بين الجهات الحكومية المختلفة والقطاع الخاص في إثراء الجوانب الثقافية والفنية، بالإضافة إلى العمل على تدوير المهرجان والخروج به من النمطية المعهودة، كما ستقام على هامش المهرجان ندوة للموسيقى والذكاء الاصطناعي.

جدير بالذكر أن هذه النسخة شهدت ارتفاعًا كبيرًا في عدد المشاركين حيث وصل في الفرز الأولي إلى 33 متسابقا ومتسابقة من مختلف محافظات سلطنة عُمان، وترأس لجنة الفرز الفنان العُماني محمد المخيني وعضوية كل من الملحن عبد الكريم مسلم والدكتور هيثم البوسعيدي والمايسترو هشام جبر والشاعر حسن المطروشي.

وقال سعادةُ السّيد سعيد بن سُلطان البوسعيدي وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب للثقافة رئيس اللجنة الرئيسة للمهرجان في تصريح له إن مهرجان الأغنية العُمانية أحد المهرجانات المهمة يشكل نقلة نوعية مهمة في مسيرة الأغنية العُمانية سواء للمطرب أو الملحن أو الشاعر، كما يلبي متطلبات المشهد الثقافي العُماني ويساير التطلعات والتطورات المتجددة في المشهد الفني.

وأضاف سعادتُه أنه منذ انطلاق مهرجان الأغنية العُمانية الأول عام 1994 استطاع أن يسهم في تطوير الأغنية العُمانية ويمنح الفنان العُماني قيمة مضافة على المستوى الفني، مشيرًا إلى أن المهرجان يلبي الطموحات والآمال المعقودة عليه من خلال استمرار الإبداع الفكري للعُماني في المجال الفني، واكتشاف المواهب والعناصر القادرة على رفده، إضافة إلى تجديد الدماء وإظهار جيل جديد من الفنانين في الساحة الفنية العُمانية.

ووضح سعادتُه أن عودة مهرجان الأغنية العُمانية في هذا العام تأتي إيمانا بأهمية هذا الحدث الفني الثقافي ودوره البالغ في النهوض بالمبدع العُماني في المجال الفني والموسيقي وتمكين وتشجيع ورعاية المبدعين في هذا المجال، ودعم الإنتاج الثقافي الفني ضمن توجهات وزارة الثقافة والرياضة والشباب نحو تحقيق الإستراتيجية الثقافية ومواءمتها مع الأهداف الوطنية والمؤسسية مع مختلف القطاعات.

جدير بالذكر أن أولى نسخ مهرجان الأغنية العُمانية انطلقت في ديسمبر 1994م وحقق الفنان أحمد الحارثي جائزة البلبل الذهبي، فيما حصد جائزة البلبل الفضي الفنان ماجد المرزوقي وحققت الفنانة فاطمة الفارسية جائزة البلبل البرونزي، وأقيمت آخر نسخة من المهرجان (الحادية العشرة) في نوفمبر 2015م، وفاز بجائزة البلبل الذهبي الفنان محاد المشيخي وحصد الفنان أحمد المخيني جائزة البلبل الفضي وحصل على البلبل البرونزي الفنان ناصر اليافعي.

مقالات مشابهة

  • البنك الوطني العُماني يطلق "أنفق واربح" لحاملي "بديل"
  • ستة مشاركين يتأهلون للمرحلة النهائية لمهرجان الأغنية العُمانية في نسخته الـ 12
  • عادل عسوم: إلى الذين أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
  • عُمان تحرضُ فضول الكوريين!
  • مؤشر بورصة مسقط يغلق منخفضا بنسبة 0.6 نقطة
  • فوتشيتش: الغرب يستعد لصراع مسلح كبير
  • الرئاسة الفلسطينية: (شرعنة) البؤر الاستيطانية تأتي في إطار حرب الإبادة الشاملة التي يشنها الاحتلال ضد الفلسطينيين
  • وحدة المجتمع.. ضرورة تنموية
  • غدا .. انطلاق برنامج الانضباط العسكري بمحافظة ظفار
  • ماني يصر علي الرحيل من النصر