لجريدة عمان:
2025-02-12@10:52:18 GMT

عبدالنبي .. الذي ليس عُمانيًّا

تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT

مدة طويلة قضاها عبدالنبي في عُمان، لا أذكر عدد السنين بالضبط، ولكن يكفي أن أقول إنه في ذاكرتي مذ كنتُ ألعب الكرة صبيًّا في مزرعتنا بالردة، وكانت الكرة تدخل أحيانا بالخطأ المزرعةَ المجاورة التي كان يعمل فيها، فيعيدها عبدالنبي بركلة قوية بعد أن يتراجع خطوات إلى الوراء ثم يَكُرُّ على الكرة راكضًا على طريقة البرازيلي روبرتو كارلوس.

لعلها 30 سنة أو أكثر تَنقّلَ فيها عبدالنبي بين أكثر من كفيل، لكنه ظلّ مقيمًا وعائلته في الردة إلى اليوم. خفيف الظل كان، ولا يزال. يتميز بذلك النوع من الظُرف الذي يأتي عفويًّا غير متكلف. ويمتاز عن أنور صميم، البنجالي الآخر المقيم في الردة منذ سنين طويلة، بالذكاء الاجتماعي، وسرعة التعلم، وإجادة اللغة العربية باللهجة العُمانية، ولذا فهو كثير الكلام، على عكس أنور الذي يظنه المرء من فرط صمته أخرس.

كل من نسِيَ عبدالنبي في الردة بسبب تراكم السنين، وكل من لم يعرفه سابقًا في عُمان، عرفه خلال الأيام الماضية، بعد أن انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في البترول، فيديو مدته دقيقة ونصف يظهر فيه عبدالنبي بالصورة وهو يدافع عن انتمائه إلى عُمان، بعد أن قرر ــ دون انتظار وثائق رسمية أو قرارات سيادية ــ أن يُصبح عُمانيًّا، بل واختار لنفسه اللقب العائلي الذي يحبّ. طوال مدة الفيديو يوبخه صوتان عُمانيان لا يظهران في الصورة، وبطريقة تقترب من التنمّر، على هذا الخيار. يخبره الأول أن أفراد القبيلة التي اختار أن يتسمّى بها غاضبون منه لأنه لا ينتمي إليها، وليس عُمانيًّا أصلًا، أما الآخر فيطلب منه بطاقته الشخصيّة ليتأكد من اسمه فيها، مضيفًا: «أنتم البنجاليين لستم عربا». هنا يردّ عبدالنبي: «لا حول ولا قوة إلا بالله. كيف ما عرب؟ قول لي». يرد عليه الصوت: «لأنك بنجالي»، فيتساءل عبدالنبي باستنكار: «أنت حالك رب موجود وأنا ما حالي رب؟!!».

تُحيلني هذه المناظرة على أسئلة الهُويّة الشائكة: ما الذي يحدد بشكل قاطع جازم انتماءنا إلى هذا الوطن أو ذاك، إلى هذه الأرض أو تلك، إلى أولئك القوم أو غيرهم؟ هل يكفي أن نولد في أرضٍ ما لنحمل اسمها؟ وهل تكفي ولادتنا بين جماعة من الناس كي نصير محسوبين عليهم؟ هل العربي فقط هو الذي يولد في بلد عربي؟ فماذا عن سيبويه الفارسي مثلًا، الذي نتعلم اللغة العربية من «كتابه»، أو البخاري (الخراساني) الذي حفظ لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟

يخبرنا سارتر في فلسفته الوجودية أن الإنسان محكوم بالحرية، وأنه ليس ثمة جوهر معين يحدد هويته، بل إن الإنسان هو من يحدد هويته من خلال اختياراته وأفعاله. وهذا ما فعله عبدالنبي بالضبط. لقد اختار. هذا كل ما في الأمر. إذ وجد أن البلد الذي آواه نصف عمره تقريبا، ووفر له الرزق والحماية، يستحق أن يعتبره وطنًا، دون أن يعني هذا تنكُّره لوطنه الأصلي الذي وُلِد وترعرع فيه.

يمكنني تشبيه عبدالنبي هنا - مع الفارق - بأمين معلوف؛ الأديب اللبناني الأصل، الذي هو اليوم واحد من أهم الشخصيات الثقافية الفرنسية. ينتمي معلوف؛ كما يخبرنا في كتابه «الهويات القاتلة» إلى أسرة تنحدر من جنوب الجزيرة العربية، استقرت في جبل لبنان منذ قرون، وانتشرت لاحقًا عبر الهجرات المتعاقبة في مختلف بقاع الأرض؛ من مصر إلى البرازيل، ومن كوبا إلى أستراليا. يبلغ الآن من العمر 75 عامًا، قضى 48 منها في فرنسا منذ وصوله إليها عام 1976م فارًّا من الحرب الأهلية في لبنان. آوته فرنسا واحتضنته، ووفرت له أسباب العيش الكريم، ومنحته جنسيتها، كما أنها كرمته بأهم جوائزها الأدبية: «غونكور»، ومنحته مقعدًا في الأكاديمية الفرنسية كان يشغله قبله كلود ليفي ستروس، وغيرها من التكريمات. من هنا أفهم رد إحدى شخصيات روايته «التائهون» على مقولة الرئيس الأمريكي جون كينيدي: «لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك» بجواب مؤثر سبق أن استشهدتُ به في مقال سابق: «من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديرًا، وقد انتُخِب للتو، في الثالثة والأربعين من العمر، رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية! أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تلقّي الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا الاستفادة من التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي، بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك، فما قيمة قول جون كينيدي؟ لا شيء يُذكر!».

وإذن، فإن الوطن لدى معلوف وعبدالنبي هو الذي ترفع رأسك فيه (بالعيش الكريم)، أكثر منه الذي يسقط رأسك فيه (بالولادة). الفرق أن الأول ذهب إلى فرنسا صحفيًّا، في حين جاء عبدالنبي إلى عُمان فلّاحًا في مزرعة العمّ سيف بن محمد. وحين أجدبت الأرض ولم يعد بالإمكان فلاحتها، بدّل مهنته والكفيل لكنه لم يترك المكان، بل إنه أحضر عائلته لتكون بجواره (أحد ابنيه يعمل في محل تجاري كبير بالردة، والآخر ما زال يبحث عن عمل). إن لسان حال معلوف وعبدالنبي هذان البيتان البليغان للشاعر علي بن الحسن البغدادي الشهير بــ«صَرَّ دُرّ»:

هذه الأرضُ أمُّنا وأبونا / حملتْنا بالكره ظَهرًا وبطنا..

إنما المرء فوقها فهو لفظٌ / فإذا صار تحتها فهو معنى.

وإذا كان أمين معلوف يرى في «الهويات القاتلة» أن «نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم» فإنني أزعم أن ما قدمه

عبدالنبي لعُمان خلال سنين مكثه فيها يفوق بأضعاف ما قدمه بعض العُمانيين الذين يتحدثون بحب الوطن في كل مناسبة، بينما هم لم يقدموا شيئا ، ولو كان الأمر بيدي لمنحته الجنسية دون تردد.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الشركات العمانية التقنية توقع اتفاقيات بنحو 9 ملايين ريال عُماني في الرياض

العُمانية: وقعت الشركات العمانية التقنية المشاركة في مؤتمر "ليب 2025" الذي أقيم بالعاصمة السعودية الرياض اليوم 4 اتفاقيات تعاون جديدة مع شركات دولية بقيمة إجمالية تصل لحوالي 4 ملايين و 300 ألف ريال عُماني.

وشهد اليوم الأول والثاني في مؤتمر ليب 2025 توقيع اتفاقيات بقيمة 4 ملايين و500 ألف ريال عُماني، وبهذا يقترب مجموع الاتفاقيات التي وقعتها الشركات العمانية مع شركات دولية منذ بدء مشاركتها في مؤتمر ليب 2025 من 9 ملايين ريال عُماني.

ووقعت شركة ركيزة العُمانية اتفاقية مع مجموعة الراجحي القابضة بقيمة 3.5 ملايين ريال عُماني في مجال تقنيات الزراعة الحديثة وحلول الزراعة المستدامة لتعزيز الابتكار، وتوسيع الأسواق، وتحقيق النمو المشترك، كما وقعت ركيزة العُمانية مذكرة تفاهم بقيمة سبعمائة وخمسين ألف ريال عُماني مع شركة فنتك سيس للتعاون في تطوير حلول التكنولوجيا المالية.

فيما وقعت شركة مدارك للابتكار العُمانية اتفاقية بقيمة ثمانية وثلاثين ألفًا وخمسمائة ريال عُماني مع شركة كيوي تيك (KiwiTech) في مجال التعاون في إنشاء مسرعات للشركات الناشئة.

وفي مجال الذكاء الاصطناعي، وقعت شركة سامبو للذكاء الاصطناعي مع شركة سايد أب بهدف الانضمام إلى تحالف التجارة الذكية، ووقعت شركة "مباشر" العُمانية المختصة في الشاشات الإعلانية الرقمية اتفاقية مع شركة ديلكو (DILKO) السعودية مذكرة تفاهم للإعلانات الخارجية الرقمية في سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية.

وأوضح محسن بن سالم العريمي رئيس قسم تحفيز الاستثمار في وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات أن أحد أهم أسباب نجاح مشاركة سلطنة عُمان في مؤتمر ليب 2025 هو تحسن البيئة الرقمية الجاذبة للاستثمار، والحوافز الاستثمارية، وتسهيل إجراءات تسجيل الشركات الأجنبية القادمة للاستثمار في سلطنة عُمان عن طريق صالة استثمر في عُمان.

وأضاف: أن نجاح الشركات العمانية في توقيع اتفاقيات مع شركات دولية بقيمة تقترب من 9 ملايين ريال عماني يعكس تطور الشركات التقنية الناشئة العمانية، وقدراتها التنافسية، وتميز الخدمات والحلول الرقمية التي تبتكرها وتقدمها للأسواق الإقليمية، كما أنه يعكس نجاح أهداف مشاركة سلطنة عُمان في هذا المعرض وهي دعم توسع الشركات التقنية الناشئة العمانية للأسواق الدولية، واستقطاب الاستثمارات الرقمية الدولية إلى سلطنة عُمان.

مقالات مشابهة

  • تحولات القطاع المصرفي العُماني: مفتاح الاستثمار وخلق الوظائف
  • المسرح العُماني: إبداع بلا صناعة!
  • الشركات العمانية التقنية توقع اتفاقيات بنحو 9 ملايين ريال عُماني في الرياض
  • تحيات جلالة السُّلطان إلى الرئيس الجزائري نقلها رئيس جهاز الاستثمار العُماني
  • تعاون بين البنك الوطني العُماني و"دار جلوبال" لدعم وتمويل مشروع "عايدة السياحي"
  • وفد رسمي عُماني يزور الجزائر
  • ماني يقترب من الرحيل عن النصر
  • 47 شركة تقنية حكومية وخاصة تُعزِّز الحضور العُماني في مؤتمر "ليب 2025" بالرياض
  • مجلس الشورى العُماني يصدر بيانا بشأن رفض التهجير القسري والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية
  • شاهد.. ساديو ماني نجم النصر السعودي يشارك في اعتناق شخص للإسلام