«كرة القدم مجاز الحياة»
(الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر)
«الحياة مجاز كرة القدم»
(الفيلسوف الإيطالي جوفيني)
(1)
منذ تعلقت عيناي بأقدام لاعبي منتخب البرازيل الأسطوري في بطولة كأس العالم 1982، وأنا ترسخ في ضميري ويقيني طوال السنوات التي عشقت فيها لعبة كرة القدم وتابعتها شغوفا مبهور الأنفاس، أنها لعبة الحياة ومجازها الفريد، وتمثيلها الأروع في تشابك المصائر وتعقد المسارات والركض خلف الكرة هنا وهناك طيلة المباراة سعيا لإحراز الأهداف والنقاط والبطولات والكؤوس!
ولم أدعِ أبدًا -ولا أدعى أبدًا- أنني ناقد رياضي متخصص أو محلل كروي متفرغ؛ إنما فقط محب ومشجع ومتذوق للعبة جماعية جميلة تقوم على تضافر عناصر عدة؛ أولها احترام المجهود والبذل في الملعب، وثانيها أنها تعطيك بقدر ما تحترمها وبقدر التعب الذي تقدمه!
وثالثا أنها تجسد أفضل تجسيد معنى "الدراما" بكامل ما تعنيه من قدرة على الحركة والانتقال من الفعل إلى رد الفعل والتحكم في الإيقاع من سرعة أو إبطاء وصولا إلى لحظة الذروة أو "التنوير"، بل إن ناقدًا سينمائيا قديرًا بقيمة محمود عبد الشكور يرى أن مباراة كرة القدم، لو تأملتها بعمق، يمكن أن تنقل إلى متذوق الأدب والفن والدراما معناها البسيط والعميق: "البداية والوسط والنهاية"، فكل مباراة لها أبطال، وكلما كان الطرفان متكافئين ازداد الصراع، وصولًا إلى "ذروة" و"تأزم"، كما حدث بعد هدف الكونغو الشهير في مباراة الحسم للمنتخب المصري في التصفيات المؤهلة للعب في بطولة كأس العالم 2018 بروسيا، ولا يمكن الوصول إلى النهاية السعيدة، إلا بهدف الفوز، على طريقة محمد صلاح، فالممثلون هم اللاعبون، والمخرجون هم المدربون، والجمهور يحيط خشبة المسرح من الجهات الأربع، والملايين يتفرجون أيضًا أمام الشاشات.
(2)
ولم أكن أعلم -كما علمت فيما بعد- أن كرة القدم أصبحت أكبر من كونها لعبة جماهيرية تستحوذ على وجدان الملايين، وأعمق من مجرد منافسة يجني لاعبوها ومدربوها والأندية التي تحضنهم من ورائهم الملايين والملايين، حتى صارت صناعة ضخمة عابرة للقارات ولها اتحاد دولي يدير اللعبة ويضع قوانينها ولوائحها وقراراته نافذة على دول وحكومات العالم أجمع!
لكن وفي السنوات العشر الأخيرة تعاظم اهتمامي بكرة القدم أيضا من "منظور ثقافي"، فقد صارت الكرة موضوعًا لكبار الفلاسفة والكتاب والمفكرين الذين نظروا إليها باعتبارها "تمثيلًا" رائعًا لتعقيدات وتشابكات الاقتصاد والسياسة والإعلام والتأثير الجماهيري، ومن ثم فقد صدرت عشرات الكتب في العالم بكل اللغات تتناول وتعالج ظاهرة كرة القدم، وتاريخ اللعبة وتطورها وعلاقتها بتاريخ الرياضة البدنية عموما، ثم باعتبارها ظاهرة خصبة قابلة للتحليل الثقافي والفلسفي والسياسي والاجتماعي..
ولأن كرة القدم، كما يقول المؤرخ والمنظر الألماني كلاوس تسايرنجر، كانت تحرك الجماهير منذ العشرينيات، أدرك السياسيون -على اختلاف مشاربهم- أنها فرصة للدعاية السياسية، كان الناس يتابعونها في المدرجات مباشرة، أثناء المباريات، وبعد ذلك من خلال وسائل الإعلام، وغالبًا في التقارير الإخبارية المصورة على الشاشة الكبيرة (السينما). وظن السياسيون أن بمقدورهم أن يتقربوا إلى الناس بشكلٍ لا يثير الشبهة من خلال تلك اللعبة البريئة..
(راجع كتاب «كرة القدم ـ تاريخ ثقافي» للألماني كلاوس تسايرنجر، وترجمة أيمن شرف، عن دار الترجمان)
(3)
ضمن هذا الإطار يأتي هذا الكتاب الرائع على صغر حجمه، الصادر أخيرًا عن دار ريشة للنشر والتوزيع بالقاهرة بعنوان «عالم مو ـ عندما يركل الفلاسفة الكرة» لأستاذ الفلسفة المصري الدكتور ياسر قنصوه، الذي قدم في هذا الكتيب (يقع في 154 صفحة من القطع الصغير أو قطع الجيب)، ما يمكن تسميته "شذرات فلسفية في ظاهرة مو العالمية"!
وقد صدر المؤلف كتابه باستهلالين نصين هما اللذان أوردناهما في صدر هذا المقال؛ لبيان عمق النظرة التي رأى بها مفكرون وفلاسفة هذه اللعبة! وكأن مؤلف الكتاب يستمد مشروعية قراءته الفلسفية أو تأملاته الفكرية حول اللعبة من خلال النظر إلى موهبة فردية تألقت بشدة في السنوات العشر الأخيرة على مستوى اللعبة في العالم أجمع وفي أشهر دوريات كرة القدم وأقواها وأكثرها إثارة ومتعة؛ أقصد هنا الدوري الإنجليزي (البريميرليج).
للفيلسوف الألماني الشهير شيللر مقولة شهيرة يعلن فيها أنه «لا يلعب الإنسان إلا حين يكون إنسانًا بمعنى الكلمة، ولا يكون إنسانًا تمامًا إلا حين يلعب».. وقد استوقفت هذه العبارة بمغزاها العميق أستاذ الفلسفة والفكر المعاصر ياسر قنصوه الذي تأمل العبارة مفكرًا في ظاهرة اللعب الإنساني، وكيف أن اللعب هو الفضاء الحر للعقل البشري.
فما من نموذج للعب يجسد الحياة كما كرة القدم، ومن هنا يطرح مؤلف الكتاب سؤاله الفلسفي "الإشكالي": هل يدور لعب كرة القدم داخل رؤوسنا أم خارجها؟
ومن هذا السؤال تجيء أسئلة أخرى منحت هذا العمل المكتوب صورة غير تقليدية لعالم كرة القدم، والذي قدم لنا رواية جميلة ما زلنا نستمتع بقراءتها منذ سنوات بعنوان «مو» -يقصد هنا اللاعب المصري العالمي محمد صلاح المحترف بنادي ليفربول الإنجليزي- إنه عالم نص مدهش كان جديرًا بكتابة جديدة وغير مألوفة من حيث الفكرة والأسلوب، حيث تتيح هذه «الشذرات» الفلسفية والأدبية الفرصة للقارئ أن يتأمل بعمق، ويشاركنا الحوار الخصيب حول عالم كرة القدم -الذي هو الحياة بأسرها- عالم «مو».
(4)
يستهل الدكتور ياسر تأملاته أو شذراته الفلسفية حول ما أسماه «عالم مو» بافتراضٍ منطقي مؤداه:
ماذا لو كان السؤال من الصغر عن الفروسية (ركوب الخيل) أو الرماية أو تلك الممارسات التي ورد ذكرها ليس بوصفها ممارسة رياضية أو ألعاب، لكن بوصفها أدوات للحرب والقتال منذ القدم، وإن كانت الآن مجالًا للمسابقات ويشاهدها الجمهور، وتختلف عن كرة القدم في أمرين:
الأول: أن هذه الألعاب الآن ليس لها هذا التأثير الطاغي مثل كرة القدم.
الثاني: أنها في النهاية ألعاب فردية وليست جماعية، بينما هذه اللعبة المستحدثة (كرة القدم) تمثل عالم الجماعية وروح التعاون والفريق، كما تجسد قيمة وعظمة المهارة الفردية، إنها تجسد عالم الفريق، وتألق الفرد (النجم) في آن معًا.
في عالم الساحرة المستديرة ليس لحديث الليل والنهار من آخر! كما أن الاستدارة الكروية ليست مصادفة، بل حدث يثير أسئلة فلسفية وإنسانية تدعونا لإجابات مدهشة وعميقة، فقد جاء التصميم كالكرة الأرضية بعالمها الرحب، حيث الصراع والانتصار والهزيمة، والانكسار والإحباط، والعودة من جديد أو روح «الريمونتادا» (الريمونتادا: كلمة إسبانية قديمة، وتعني التعافي والعودة بقوة بعد الهزيمة) وقد تلخص الاستدارة الكروية مفهوم العدالة! فيما يرى ياسر قنصوه!
(5)
هكذا يحلل قنصوه مفهوم العدالة الذي يبدو منطبعًا في شكل الكرة ذاته، إذ إن كل نقطة على سطح الكرة تبعد بنفس المقدار الذي تبعده كل نقطة أخرى عن مركز الكرة، وربما تكون الصورة تصورًا كرويًا أمثل للعدالة بأن الكل متساوِ في حظوظ الفوز باللعب.. لكنه يتساءل في الوقت ذاته: هل ثمة عدالة بالفعل، على أرض الواقع (الملعب) بالنسبة لكرة القدم؟!
إنها مجموعة من الأسئلة تثير الجدل والنقاش حول فكرة المساواة أو حق تكافؤ الفرص أو المدخل الإنساني لتحقيق العدالة. فهل تعني معاملة الأندية والمنتخبات واللاعبين وفقًا لفكرة المساواة على القدر نفسه من الطريقة ذاتها؟ وهل يمكن أن يتعامل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) (FIFA) مع ريال مدريد، برشلونة، بايرن ميونيخ.. إلخ، كما يعامل الأندية الأخرى الصغرة في بلدان العالم المختلفة؟
بغض النظر عن لوائح «الفيفا» أو حتى الاتحادات القارية أو المحلية فإن ثمة عاملين أساسيين يحطان فكرة العدالة خارج حدود الملعب، ومتى سقطت العدالة خارجه، فإن ثمة مجاملات، تحيزات، ضغوطات قد تحدث على أرض الملعب، والعملان هما: الجمهور، الأموال (ميزانية النادي) حتى داخل حدود الملعب، الجلوس في المقصورة، الدرجة الأولى، الدرجة الثالثة، تتلاشى العدالة في الجلوس والأمان.
هذا الكتاب على صغره يثير من الأسئلة والتأملات ما يستدعي تسجيل البحث واقتراح إجابات في مساحات تمثل أضعاف حجم الكتاب.. بكثير!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کرة القدم
إقرأ أيضاً:
بويول أسطورة برشلونة: مونديال الأندية سيكون احتفالية كروية
أعرب كارليس بويول، أسطورة نادي برشلونة ومنتخب إسبانيا لكرة القدم، عن رغبته في العودة بالزمن إلى الوراء، للمشاركة في بطولة كأس العالم للأندية، بشكلها الجديد، الذي يضم 32 فريقا في العام المقبل بالولايات المتحدة.
وخلال مسيرة حافلة بالنجاحات، توج بويول بكل شيء تقريبًا يمكن تحقيقه في عالم كرة القدم سواء مع الفريق الكتالوني أو منتخب بلاده.
وحصل المدافع المعتزل مع برشلونة الذي لعب له لمدة 15 عامًا، قضى منها 10 أعوام كقائد للفريق، على 12 لقبا محليا، بالإضافة لثلاثة ألقاب في دوري أبطال أوروبا، ولقبين بمونديال الأندية، كما تألق مع منتخب إسبانيا في الفوز بكأس الأمم الأوروبية عام 2008، وفي تتويجه الوحيد بكأس العالم بعد عامين في جنوب إفريقيا.
ورغم هذه الإنجازات، شهدت مسيرة بويول أيضًا بعض الفترات الصعبة، لاسيما المباراة التي خسرها برشلونة صفر / 1 أمام إنترناسيونال بورتو أليجري البرازيلي في نهائي مونديال الأندية عام 2006 باليابان، التي مازالت عالقة في ذهن اللاعب الإسباني.
وتحدث بويول للموقع الألكتروني الرسمي للاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، قائلًا: "في أول عام شاركت فيه (في مونديال الأندية)، تعرضنا للخسارة. أتذكر أننا لعبنا ضد إنترناسيونال. وأعتقد أنه عندما كنت صغيرًا، خسر برشلونة أمام ساو باولو البرازيلي (في كأس القارات للأندية عام 1992)".
أضاف بويول "أتذكر كل هذا بخيبة أمل كبيرة لعدم قدرتي على تحقيق الهدف. وفي وقت لاحق، أتيحت لي الفرصة للمشاركة في هذه البطولة مرة أخرى، وفزت بها مرتين، وهذا ما جعلني سعيدا حقا".
وبالفعل، ثأر بويول وبرشلونة من هذه الهزيمة، عقب فوزهما بنسختي كأس العالم للأندية عامي 2009 و2011، ليصبح أول فريق يفوز باللقب مرتين، وفي تتويجه الأخير باللقب، تغلب الفريق الإسباني على سانتوس البرازيلي في النهائي الذي ضم في صفوفه نيمار، حينما كان لاعبا شابا، حيث حصل آنذاك على الكرة البرونزية في تلك النسخة تقديرا لجهوده.
وبينما يبدو أن نيمار، الذي خاض أكثر من 150 مباراة مع برشلونة، مستعد للمشاركة مع فريقه الحالي الهلال السعودي، في كأس العالم للأندية الجديدة العام المقبل، فإن برشلونة الذي يعشقه بويول لن يكون حاضرا.
وتحدث بويول عن برشلونة، الذي فشل في التأهل للمونديال، عبر مسار تصنيف الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) "أعتقد أن هذه فرصة لمشاهدة منافسة مذهلة. ولسوء الحظ، لن يشارك فريقي وإنه لأمر مؤسف، لكن هذه هي كرة القدم".
أكد بويول "يتعين علينا أن نعمل بجد للعب في البطولة التالية. وأنا متأكد من أن هذه ستكون احتفالية كروية رائعة، حيث سنتمكن نحن كمشجعين من الاستمتاع بمباريات مذهلة".
وتشهد كأس العالم للأندية، والتي ستقام خلال الفترة من 14 يونيو وحتى 13 يوليو 2025، مشاركة 32 فريقًا من جميع الاتحادات القارية الستة، حيث يتنافسون على المجد العالمي.
ويعتز بويول، الذي اعتزل عام 2014، بتتويجه بلقب بطولة العالم للأندية مع نادي طفولته، ويتمنى لو أتيحت له الفرصة للعب في النسخة الجديدة من البطولة.
وأكد بويول "كنت محظوظًا للغاية لأنني لعبت هناك مع فريقي المفضل على الإطلاق. الفوز أمر جيد دائما، بغض النظر عن الفريق الفائز. ولكن عندما يكون فريقك هو المنتصر، فإن ذلك يكون أفضل بشكلٍ مضاعف".
واختتم بويول تصريحاته، حيث قال "البطولة تتمتع بصيغة جديدة تماما وأود حقا العودة وتجربتها، لأنني متأكد من أنها ستكون حدثا رائعا ومثيرا للاهتمام للغاية".