حاجةٌ قصوى إلى إيقافِ هذه الحربِ الَّتي تدورُ رَحَاها بين آثارِ وباءٍ ظاهرة وجائحةٍ أخرى “لا مفرَّ من وقوعِها”

 محمَّد خلف

ما دفعنا لكتابة هذا المقال -غيرُ حالةِ البؤس المُطبِقة ومرارةِ الفقد اللَّاصِقة في الحَلق من جرَّاءِ الحربِ الدَّائرة- أمران، أوَّلهما: تحذيرٌ من عالِمٍ بريطانيٍّ لحكوماتِ الدُّولِ بالاستعداد لدرءِ جائحةٍ “لا بُدَّ من وقوعِها”؛ وثانيهما: وقوفٌ غريزيٌّ مع الدَّعوة إلى الإيقافِ الفوريِّ لهذه الحرب.

إلَّا أنَّ أمراً ثالثاً متعلِّقاً بهما -وبكلِّ شيءٍ في الكون- يستحقُّ التَّناولَ بالتَّحليلِ الدَّقيق، لعلَّه يُساعِدُ المتقاتلينَ على إلقاءِ السِّلاح، ويحثُّ حكومةَ الأمرِ الواقع في السُّودانِ وغيرِه على الاستعداد، ليس لمواصلةِ الحرب وإحداثِ مزيدٍ من الاقتتال، وإنًّما لدرءِ الكارثة الَّتي تطرُقُ بعُنفٍ على الأبواب. هذا الأمرُ الثَّالث هو مفهومُ “الوَقفِ” نفسه، الَّذي يتجلَّى افتراضيَّاً على خلفيَّة الزَّمان الَّذي لا يتوقَّفُ وهلةً عنِ الجريان ولا يعودُ في عالَمِنا المُشاهَدِ أبداً إلى الوراء؛ فما من شيءٍ يحدُث في سياق هذا السَّهم المنطلق إلى الأمام إلَّا وكان المُتطلَّبَ العاجلَ للتَّعاملِ معه هو النقيضُ الكامل لجوهرِه (وليس لمتَّجهِه)، أي الوَقفُ (وهو لا يتمُّ  مُطلقاً، إلَّا  بوضعٍ افتراضي)؛ وكان من الممكن أن نبدأ بالكشف عن عمل هذا المفهوم في ثنايا العقل البشريِّ أو العلومِ الطَّبيعيَّة والرِّياضيَّات أو اللُّغاتِ الإنسانيَّة؛ ولكن، بما أنَّ الفصيلَيْنِ المتحاربَيْن يزعمانِ لنفسَيْهما تمسُّكاً بعروةٍ وُثقى، سنبدأُ بالقولِ الفصل: القرءانُ الكريم وتعاليمُ الدِّين الإسلامي وأركانُه الرئيسيَّة.

في سورتَي “مريم” و”آل عمران”، يسألُ زكريا ربَّه أن يمنحه وليَّاً يرثه ويرث من آل يعقوب؛ فلمَّا أتته بشارةٌ من الملائكة، سأل ربَّه مرَّةً أخرى أن يجعل له آيةً (بأنَّ البشارةَ صادقةٌ): “قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا”، في سورة “مريم”، الآية رقم “10”؛ (و”قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا”، في سورة “آل عمران”)، بمعنى أن تصومَ عنِ الكلام أو “تتوقَّف” عنه طيلة هذه المدَّة المحدَّدة؛ أي أنَّ “وقف” هذا النَّشاط اللُّغويِّ اليوميَّ الحيوي يتمُّ على خلفيَّة المدَّة الزَّمنيَّة التي تمَّ تحديدُها في الآيتين بثلاثةِ أيَّام. وهذه العلاقة بين أشياء العالم وخلفيَّاته (الَّتي أدركها الغشتالتيُّون) هي أمرٌ ضروريٌّ لإدراكِه في مجالِ الحقيقة، وإلَّا تماهى شكلُ الأشياءِ مع خلفيَّاتِها (كما ظهر مؤخَّراً في احتجاجِ البعضِ على ظهور صورة الملك تشارلز الثَّالث بزيِّه القِرمِزيِّ على خلفيَّةٍ قِرمِزيَّة)؛ أمَّا لدى الملكِ الحقِّ، فينتفي هذا القانون الأرضيُّ المحدود؛ لذلك، جاء وصفُه لمَثَلِ نورِه (وليس لنورِه ذاتِه) في السُّورة رقم “24” على خلفيَّةِ مشكاةٍ (أي أنَّ نورَه نفسَه لا يُمكِنُ النَّفاذِ إليه، بدليلِ الكُوَّةِ غيرِ النَّافِذة): ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (سورة “النُّور”، الآية رقم “35”).

يشتمل الرُّكن الأوَّل للإسلام (وهو الشِّهادة) على إقرارَيْن؛ الإقرارُ الأوَّل يحتوي على أبلغِ عبارةٍ في اللُّغةِ العربيَّة، وهي عبارة “لا إله إلَّا الله” (وتُسمَّى بالتَّهليل) الَّتي يُكتفَى بها أحياناً في الذِّكرِ والتَّسبيحِ وقيامِ اللَّيل؛ وهي عبارةٌ تصِلُ إلى أقصى درجاتِ البلاغة، لأنَّها جملةٌ كاملة مكوَّنة من أربعِ كلماتٍ من ضمنها اسم الجلالة، استُخدِمت فيها ثلاثةُ أحرفٍ فقط، هي الألف واللَّام والهاء؛ والإقرارُ الثَّاني قائمٌ على الأوَّلِ بأنَّ محمَّداً رسولُ “الله”، الاسم الأعظم المكوَّن من هذه الأحرفِ الثَّلاثة ذاتِها؛ ولولا وجودُ “وقفٍ” مُدرَجٍ بين الإقرارَيْن، لَما أمكن الانتقال من الأوَّل إلى الثَّاني، على خلفيَّة الزَّمن المتتابعِ دوماً إلى الأمام. ويتطلَّبُ إقامةُ الصَّلاةِ خمسَ مرَّاتٍ في اليوم “وقفَ” جميعِ الأنشطةِ ما عداها، ويتكثَّف ذلك “الوقفُ” في يوم الجمعة، حيث يتمُّ التَّشديدُ على ترك جميع الأعمال والمصالح الحيويَّة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (سورة “الجمعة” الآية رقم “٩”)؛ وإيتاءُ الزَّكاةِ مرَّةً كلَّ عام وفي الأعياد هي أن “يُوقِفَ” الفردُ مالاً لصرفِه على الفقراء، وكذلك هو دورٌ لديوانٍ لها ولمصلحةِ “الأوقاف” يتمثَّل في رصدِ مالٍ للفقراء؛ ورمضانُ صومٌ، أي “وَقفٌ” للمأكل والمشرب وسائرِ العاداتِ اليوميَّة المُستكرَهة، في الشَّهرٍ القمريِّ التَّاسع؛ أمَّا الحجُّ، فهو “وقوفٌ” بعرفة وبقيَّة “المواقف” -أي الأماكن المقدَّسة- مرَّةً واحدة في العمر لِمَن استطاعَ إلى ذلك سبيلا. ويتدرَّجُ هذا “الوقفُ” من محضِ تجريدٍ في “الشَّهادة” إلى تعيينٍ مخصوصٍ في “الحج”، عبر الصَّلاةِ والصِّيام وتخصيصِ حصَّةٍ من المالِ للفقراءِ والمساكين وستَّةِ أوجهٍ أخرى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (سورة “التَّوبة”، الآية رقم “60”).

ويُطالَبُ المؤمنُ بأن يقولَ الحقَّ (وهو الخيرُ) أو لِيَسكُتَ عنِ الكلام؛ وما نُريدُ قولُه في هذا المقال هو تأكيدُ الحاجةِ القصوى لإيقافِ الحرب؛ فالشَّعبُ المغلوبُ على أمرِه “يُريدُ دولةً لا مزيد”، لوقفِ النَّزيف والنُّزوح، وتأمينِ أماكنَ للنُّجوع، تمهيداً للاستعداد لصدِّ جائحةٍ مًحتَّمةِ الوقوع؛ فإنْ وقعت بالفعل تحت ظلِّ ضبابِ الحروب، فلن تترك شخصاً واهِناً على ظهرِ البسيطة، ناهيك عن دولةٍ تلفُظُ بالكادِ أنفاسَها الأخيرة. ففي (25 مايو) الماضي، قال السِّير باتريك فالانس، المستشار العلمي السَّابق للحكومةِ البريطانيَّة، إنَّ حدوثَ جائحةٍ أخرى “أمرٌ لا مناصَ من وقوعِه”، وحثَّ الحكومةَ المُقبِلة (في أعقاب الانتخابات العامَّة في “4 يوليو”) على التَّركيز على الاستعدادات، مُكرِّراً ما قاله لقادةِ “مجموعة السَّبع” (“جي سيفن”) في عام (2021) بأن تكونَ حكوماتُها أسرعَ بكثير، وأن تكونَ أكثرَ توافقاً؛ كما طالبها بأن تستعِدَّ لذلك مثلما تستعِدُّ لخوضِ الحروب. وفي بلدٍ يخوضُ حرباً لم يكن مستعِدَّاً لها أصلاً، سيكون التَّصدِّي للجائحة أمراً عسيرا، ناهيك عنِ التَّوافقِ والتَّنسيقِ مع الحكوماتِ الأخرى لمجابهتها، بوجودِ دولةٍ متهالِكة أنهكتها الحربُ وحكومةِ أمرٍ واقع سِمةُ قادتِها المُكابَرة وليس قول الحقِّ؛ فيما لا نقرأُ ولا نسمعُ من طرفي الصِّراع سوى حملاتٍ مكثَّفة من التَّضليل. وقد ظنَّ الطَّرفانِ في البدء أنَّ الحربَ مجرَّدُ معادلةٍ صفريَّة، سيفوزُ بها عاجلاً واحدٌ منهما لِيُملِيَ شروطَه على الخاسر؛ ولكنَّ الإحساسَ الغريزيَّ لدى عامَّة النَّاس كان وما زال مع “الوقفِ”، مدعوماً بعاطفةٍ دينيَّة لإرساء الصُّلح؛ أمَّا ما تكشَّف لاحقاً، وما يتأكَّدُ يوماً بعد يومٍ أنَّ هذه الحربَ أصبحت منذ مدَّةٍ طويلة معادلةً لاصفريَّة، الجميعُ فيها خاسرٌ، خصوصاً الفقراء والمساكين؛ ولا يربحُ على هامشِها سوى فئةٌ ضالَّة وأفرادٌ محدودون، هم تُجَّارُ الحربِ وسماسرتُها؛ فإذا حلَّتِ الجائحة، لن ينجوَ حتَّى هؤلاء؛ فاوقفوها فوراً، يرحمكمُ الله.

 

 

الوسومالجيش والدعم السريع القرآن الكريم ايقاف الحرب جائحة كورونا حرب السودان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش والدعم السريع القرآن الكريم ايقاف الحرب جائحة كورونا حرب السودان هذه الحرب من وقوع ه على خلفی

إقرأ أيضاً:

القاهرة الإخبارية: الأجهزة الأردنية تحبط مؤامرة داخلية وتعلن حالة تأهب قصوى في عمّان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أفادت مراسلة قناة القاهرة الإخبارية، آية السيد، من العاصمة الأردنية عمّان، أن هناك تطورًا أمنيًا بارزًا أعلنته دائرة المخابرات العامة الأردنية، موضحةً أن البيان الأولي أشار إلى إحباط مخطط تخريبي داخل المملكة، جرى تتبعه استخباراتيًا منذ عام 2021، وأدى إلى القبض على 16 شخصًا وُصفوا بالضالعين في محاولات لزعزعة الأمن وإثارة الفوضى

 لم يُفصح حتى الآن عن طبيعة هذه الخلية أو خلفيات عناصرها

وأضافت خلال مداخلة مع الإعلامي أحمد أبو زيد، على قناة "القاهرة الإخبارية"، أنه لم يُفصح حتى الآن عن طبيعة هذه الخلية أو خلفيات عناصرها أو أماكن القبض عليهم، لكن هناك مؤشرات على أن نشاطهم شمل محاولات لتصنيع عبوات ناسفة وربما صواريخ محلية.

 المشهد الداخلي يشهد الأردني توترات ملحوظة

وأكدت آية أن هذا التطور الأمني جاء في وقت يشهد فيه المشهد الداخلي الأردني توترات ملحوظة، خاصةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لوحظ تصاعد خطاب الفتنة ومحاولات إثارة الانقسامات، ما دفع عددًا من المسؤولين الأردنيين، أبرزهم رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز، إلى توجيه اتهامات إلى "الذباب الإلكتروني" المدعوم خارجيًا بالسعي لإضعاف الجبهة الداخلية.

 العاصمة عمّان تشهد انتشارًا أمنيًا ملحوظًا

كما أضافت أن العاصمة عمّان تشهد في الوقت الحالي انتشارًا أمنيًا ملحوظًا، مشيرةً إلى أنه رغم شُحّ التفاصيل، فإن المراقبين يتوقعون أن يحمل المؤتمر الصحفي المرتقب قرارات سياسية وأمنية حاسمة، قد تشمل الإعلان عن أسماء موقوفين، أو تنفيذ حملات اعتقال أوسع، وربما إصدار قوانين أو قرارات حكومية جديدة تهدف إلى ضبط المشهد السياسي والأمني.

 ضبط خلية مشابهة في منطقة ماركا العام الماضي

وأشارت إلى أن هذه ليست الحادثة الأولى من نوعها، حيث شهد العام الماضي ضبط خلية مشابهة في منطقة ماركا بالعاصمة، كانت تحاول تصنيع متفجرات، ما يعكس استمرار محاولات العبث بالأمن الأردني الداخلي، ورغم أن البيان الأمني لم يُفصح عن المواقع الجغرافية التي تم فيها تنفيذ عمليات التوقيف الأخيرة، فإن حالة الترقب في الشارع الأردني تؤكد أن التطورات المرتقبة قد تحمل تغيرًا ملموسًا في السياسة الداخلية خلال المرحلة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • النيابة تأمر بسرعة ضبط وإحضار سائق متهم بقتل شاب بالسلام
  • غروسي من طهران: الدبلوماسية ضرورة قصوى في الوقت الراهن
  • اتفاق تاريخي في منظمة الصحة العالمية لمواجهة أيّ «وباء»
  • تبسة: جهاز أمني خاص و حالة تأهب قصوى بسبب الأمطار
  • النفط ينخفض مع تقييم الأسواق آثار الحرب التجارية
  • 200 ضابط شرطة إسرائيلي سابقين يطالبون بوقف الحرب وتبادل أسرى
  • الهجرة الدولية: ثلثا سكان السودان في حاجة ماسة للمساعدات الغذائية
  • القاهرة الإخبارية: الأجهزة الأردنية تحبط مؤامرة داخلية وتعلن حالة تأهب قصوى في عمّان
  • حالة تأهب قصوى في عمّان والأجهزة الأردنية تحبط مؤامرة داخلية.. تفاصيل
  • الأمم المتحدة: 13 مليون نازح ولاجئ في السودان خلال عامين من الحرب