و #المخفي_أعظم
د. #هاشم_غرايبه
لعل حادثة التخلي الطوعي عن محور فيلادلفيا لصالح الكيان اللقيط، كانت الأكثر إيلاما، إذ أكدت حقيقة ولاء النظام الحاكم في مصر لعدو الأمة الأول المتمثل في الغرب المستعمر ومخلبه (الكيان اللقيط)، والذي سأبين من خلال تسلسل الأحداث تاريخيا، كيف حقق النظام القطري في هذه المنطقة الأهم في الأمة، استجابة للدور الأساسي لمنظومة أنظمة (سايكس بيكو)، في منع عودة الأمة الى الدولة الإسلامية الجامعة، وإدارة الظهر لواجب أرض الكنانة القيادي في الأمة.
فلم يعد ممكنا إخفاء اتباع هذا النظام كباقي الأنظمة العربية، سواء الرجعية منها أو التقدمية، منهج المنافقين التاريخي، المتمثل بالعداء لمنهج الله عن قناعة، والولاء لمنهج الغرب المعادي، ابتغاء العزة لديه جراء تنفيذه تلك القناعة عمليا.
وهو مصريا استمرار متوارث لمنهج العسكر منذ انقلابهم على نظام الخديوية الخانعين للاستعمار البريطاني، والتزموا بتطبيقه في كل ألأنظمة الأربعة التي توارث العسكر فيها الحكم طيلة الإثنين والسبعين عاما الماضية، فلم يكن التغير الى النظام الجمهوري بدل الملكي تحررا وتحولا ديموقراطيا، بل تحولا من الولاء لبريطانيا الى الولاء لأمريكا.
كشف ذلك بداية اعتراف عبد الناصر أن السفارة الأمريكية هي الجهة الوحيدة التي كانت تعلم بموعد الانقلاب عام 1952، ثم أكده الانذار الأمريكي لدول العدوان الثلاثي عام 1956 الذي جرى لاستعادة مصر للاستعمار الأوروبي، وكان ذلك الإنذار حاسما في رد المعتدين وليس هزيمتهم من الجيش المصري.
الشعارات القومية والاشتراكية التي استخدمها نظام العسكر بعدها كانت حردا على رفض أمريكا لمشروع السد العالي مما اضطرهم لمغازلة المعسكر الشرقي مؤقتا، لكن ترتيبات هزيمة 67 كشفت حجم الاختراق للجيش المصري.
الصدمة التي أصابت عبد الناصر جراء اكتشافه ذلك أذهلته، فلم يعد الاصلاح ممكنا بعد إذ تبين جسامة أخطائه باتباع استشارات من اكتشف أنهم عملاء الغرب، فقد كان يعتقد أن مبالغتهم بالبطش بمعارضيه كانت دعما له، لكنها كانت تنفيذا لإملاءات المخابرات الأمريكية، بهدف قطع دابر طرفين تخشاهما: الشيوعيين العرب لأنهم مناصرون لعدوها المعسكر الشرقي، فمنذ حقبة المكارثية، اعتبرتهم عدوها الأول (مرحليا الى أن يتم القضاء عليهم)، والإسلاميين الذين هم العدو التاريخي الدائم، الذين رغم قبضة الأنظمة العربية الصارمة، فهي لا تركن لذلك فلو أفلتوا سيعيدون الأمة موحدة من جديد.
منح عبد الناصر “صلاح نصر” صلاحية تأسيس جهاز المخابرات المصري الذي تولى قمع هؤلاء، ووككل المستبدين العرب، ترتقي البطانة لديهم بناء على مدى التزلف والتملق، وليس الكفاءة والانجاز، فلم يعرف حقيقة أنه عميل للمخابرات الأمريكية، وأن بطشه بالمعارضين ليس إخلاصا له بل اتباعه الأوامر، إلا بعد هزيمة 67، ولات حين مندم، إذ لم يتح له الغرب الفرصة للتصحيح، فجاءوا بمن دربوه ضمن المدرسة ذاتها (السادات)، والذي أبلى لهم بأكثر منه تحت شعار (العلم والإيمان)، لتبرير الانفكاك عن المعسكر الشرقي، لكن أهم أنجازاته للغرب كانت تبديد انتصار عام 73، وهدم الحاجز النفسي أمام تقبل الكيان اللقيط، وعندما انتقم منه أحرار الجيش، جاءوا بفارسهم الثالث (مبارك)، الذي فاق من سبقوه في تحقيق منجزات للمخابرات الأمريكية، فأخرج الجيش المصري من العداء للكيان، وألحقه بأمن النظام لمحاربة الإسلاميين.
ونقم الشعب عليه لعمالته المكشوفة ولفشله الإداري ولنيته توريث الحكم، مثلما نقم على سلفه، فقامت الثورة عليه عام 2011 ، وعندما وجدت المخابرات الأمريكية أنه أصبح مستهلكا غير قابل للتدوير، أوعزوا للعسكر بإقالته وتشكيل مجلس عسكري الى حين اجراء انتخابات، لانتخاب أحدهم رئيسا، كانت صدمة الراعي الأمريكي أنهم لم يتمكنوا من تزوير الانتخابات كالعادة، فنجح إسلامي، فأسقط في أيديهم ولم يبق لهم من سيلة غير رشوة العسكر بمال عملائهم الخليجيين لتدبير انقلاب، فجاءوا بفارسهم الرابع، والذي يفترض أن يتفوق في إخلاصه عن كل الثلاثة الذين سبقوه.
من هذا الاستعراض المقتضب، يتبين لنا أنه كان من الغباء أن تنتظر الأمة خيرا من أنظمة مرتهنة بالقرار الأمريكي، وتسعى جهدها لتحقيق إملاءاته.
لذلك لأجل الإيهام بالحفاظ على سيادة البلد الذي تحكمه، كان إعلان النظام المصري أن احتلال محور فيلادلفيا خط أحمر، لكن على الواقع فقد وجدت قوات العدو المتقدمة لاحتلاله الإشارة خضراء، ولم يجرؤ حتى على مساءلة العدو عن إطلاقه النار على جنوده. مقالات ذات صلة
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
تحرير الخرطوم.. صفحة جديدة في سجل انتصارات الأمة
ليست الأحداث الكبرى في تاريخ الأمم مجرد وقائع عابرة تنتهي بانتهاء نشرة الأخبار أو باختفاء سطورها من الصحف، إنها علامات فارقة، تتجاوز لحظة الحدث ذاته، لتصوغ وعيا جديدا، وترسم مسارا مختلفا، وتعيد ترتيب المشهد التاريخي لصالح من امتلك الإرادة، ودفع الثمن، وثبت على المبادئ.
وفي هذا السياق، يأتي تحرير الخرطوم كعلامة فاصلة في المسار السوداني أولا، وفي سياق الانبعاث الإسلامي العربي ثانيا، وفي مسيرة الأمة الإسلامية جمعاء ثالثا.
إن ما جرى في الخرطوم ليس مجرد تطور عسكري في صراع داخلي بين مكونات السلطة أو بين أطراف النزاع السوداني، بل هو إعلان لولادة واقع جديد يعكس إرادة شعب يتطلع للحرية والعدالة، ويرفض مشاريع التبعية والتقسيم والارتهان، ويدرك أن تحرير العواصم لا يبدأ من فوهة البندقية فقط، بل من وضوح البوصلة وصلابة الإرادة.
لا نقرأ خبر تحرير الخرطوم بوصفه إنجازا عسكريا فحسب، بل كمقدمة موضوعية لصياغة عقد جديد من الحرية والسيادة، يعيد السودان، ومعه الأمة، إلى سياقها الطبيعي، كفاعل لا مفعول به، وصانع للمستقبل لا تابع لمشاريع الآخرين
ولذلك، فإن الانتصار الذي تحقق على أرض السودان لا يمكن فصله عن سياق إقليمي أوسع، بدأت تتشكل ملامحه من بعيد، منذ أن خرجت أفغانستان من تحت قبضة الاحتلال الأمريكي بعد أطول الحروب وأكثرها كلفة، وصولا إلى معركة طوفان الأقصى التي فجرت الوعي العربي والإسلامي من جديد، وليس انتهاء بصمود الثورة السورية رغم المجازر والتآمر العالمي.
هذه الانتصارات المتتالية، وإن اختلفت في شكلها الجغرافي أو طبيعتها السياسية أو خلفياتها المحلية، إلا أنها تتشابه في شيء جوهري: كلها تعبير عن يقظة الأمة، ورفضها لمقررات قرن كامل من الهزائم والانكسارات والتبعية.
القرن العشرون، الذي شهد سقوط الخلافة، واحتلال فلسطين، وتمزيق العالم الإسلامي إلى دويلات، وفرض أنظمة وظيفية مرتبطة بالمستعمر القديم والجديد، يوشك أن يُطوى بكل ما فيه. فالأمة، التي خضعت قرنا من الزمان، لم تمت، بل كانت تُعد نفسها بصبر طويل، حتى إذا آن أوان التغيير، انتفضت من جديد، وانطلقت في مسيرة استعادة مكانتها بين الأمم.
إننا اليوم، لا نقرأ خبر تحرير الخرطوم بوصفه إنجازا عسكريا فحسب، بل كمقدمة موضوعية لصياغة عقد جديد من الحرية والسيادة، يعيد السودان، ومعه الأمة، إلى سياقها الطبيعي، كفاعل لا مفعول به، وصانع للمستقبل لا تابع لمشاريع الآخرين.
لقد دأب أعداء الأمة -من صهاينة وغربيين ومستبدين محليين- على تكريس واقع التمزق والانكسار، وفرضوه عبر سياسات الإفقار والتجهيل والتقسيم والاحتلال الناعم والخشن، ولكنهم فوجئوا مؤخرا بأن الشعوب لم تعد تقبل بهذا الواقع، وأن صوت الإسلام لم يخفت، وأن روح الجهاد والمقاومة والحرية ما زالت حية في أوصال هذه الأمة.
ولذلك، فإن على العقل الإسلامي في هذه اللحظة الفارقة أن يدرك أن ما نعيشه ليس مجرد موجة مقاومة عابرة، بل هو فرصة تاريخية لإعادة بناء مشروع الأمة من جديد، ليس على مستوى الدولة فحسب، بل على مستوى الحضارة الكاملة، برؤيتها الفكرية، وهويتها المستقلة، وخطتها الاستراتيجية.
تحرير الخرطوم ليس هو النهاية، بل هو جرس الإنذار لبداية مرحلة جديدة يجب أن يستعد لها الجميع: العلماء، والدعاة، والمفكرون، والشباب، والنخب السياسية، والاقتصادية.
لقد أثبتت الأحداث أن الاحتلال والهيمنة والطغيان ليسا قدَرا مفروضا، وأن الاستقلال والحرية ليسا حلما مستحيلا.
أمامنا فرصة لتأسيس مشروع حضاري جامع، يعيد ترتيب أولويات الأمة، وينقلها من موقع التبعية إلى موقع القيادة، من خلال مشروع ينطلق من مساحات الانتصار التي تحققت، ويعالج مساحات الضعف التي ما تزال قائمة
نحن الآن أمام عقد قادم يجب أن يكون "عقد البناء الحضاري الإسلامي"، لا عقد الحروب الأهلية والتفكك والانقلابات، فأمامنا فرصة لتأسيس مشروع حضاري جامع، يعيد ترتيب أولويات الأمة، وينقلها من موقع التبعية إلى موقع القيادة، من خلال مشروع ينطلق من مساحات الانتصار التي تحققت، ويعالج مساحات الضعف التي ما تزال قائمة، ويجمع بين الإيمان والوعي، والتخطيط والعمل، والسيادة والتحالف، والتقوى والتقنية.
إن المطلوب الآن ليس الاحتفال بالنصر فقط، بل الاستعداد لما بعد النصر:
- كيف نحمي ثمار النضال؟
- كيف نمنع محاولات الالتفاف أو الارتداد؟
- كيف نحول النصر العسكري إلى مشروع انطلاقة شاملة؟
- كيف نبني الوعي الشعبي والسياسي والاقتصادي على أسس الاستقلال والسيادة الوطنية؟
هذا هو التحدي الحقيقي أمامنا.
نحن اليوم أمام بداية قرن جديد من عمر الأمة.. قرن يجب أن يكون قرن الإرادة، لا قرن التبعية.. قرن التحرير، لا قرن الاحتلال.. قرن المشاريع الإسلامية الحضارية، لا قرن الأنظمة الوظيفية المستوردة.. قرن قيادة الأمة، وليس لحاقها بركاب من لا يملك القيم ولا الرؤية ولا العدل.
فالتحية لأحرار السودان، والتحية لكل من قاوم فنهض، ومن استبسل فصمد، ومن آمن فانتصر.. ولْتكن الخرطوم اليوم شاهدا على أن هذه الأمة، إذا عرفت طريقها، لن تتأخر عن النصر، وإذا توحدت خلف مشروعها، فلن يقف أمامها أحد.