لا أخفى قلقا من سيناريوهات ما بعد العدوان على غزة، رغم اننى أتمنى ان تطوى اليوم قبل الغد صفحة تلك الملحمة الفلسطينية التي ابهرت و استحقت احترام و تعاطف الكثيرين. ذلك ان بعض سيناريوهات ما بعد الحرب تحاول بطرق شتى ان تحقق من خلال السياسة ما فشلت الحرب في بلوغه من اهداف.
صحيح ان الاحتيال و الخديعة من خصائص الحركة الصهيونة منذ برزت في نهاية القرن التاسع عشر، التى بشر بها تيودر هرتزل آنذاك في كتابه الشهير «الدولة اليهودية».
لكنى ازعم ان التاريخ الذى مر منذ تأسيس إسرائيل في كفة و التاريخ الذى بدأ في 7 أكتوبر 2023 في كفة أخرى مختلفة تماما، شكلا و موضوعا. (هذه الفكرة مهمة و تستدعى شرح مسوغاتها لأننا لا زلنا في مرحلة فهمها و ادراكها. و حذف المقارنة ب ١٩٤٨ لانك سبق و كتبتها اكثر من مرة و لانها ليست سبب الاختلاف عن ١٩٤٨) و اذا جاز لنا ان نتحدث عن تشابه بينهما فقد تقول بانه حادث في امرين. الأول ان الفلسطينيين قبل 1948 و اثناءها كانوا يدافعون عن ارضهم و فوقها و الثانى ان الجيوش العربية كان حضورها رمزيا و شكليا لذلك انهزمت في المعركة حينذاك. اما في 7 أكتوبر فان الفلسطينيين ظلوا يدافعون أيضا عن ارضهم و فوقها، في حين ان الجيوش العربية غابت تماما و وقفت متفرجة على المشهد.
يسوغ لنا ذلك ان نقول ان ثمة فرقا جوهريا بين تجربة الاحتلال طوال 76 عاما و بين ما حدث بعد «طوفان الأقصى» و بعد نحو ثمانية اشهر من القتال ادركت إسرائيل ان المشروع الصهيوني يواجه خطرا حقيقيا يهدد وجوده. و ذلك ليس كلامى وحدى، لان الإشارة الى هذه الخلاصة وردت في كلام رئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نيتياهو في تعليقه على قرار محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح، اذ نقلت عنه وكلات الانباء قوله: «من يطالب دولة إسرائيل بوقف الحرب فانه يطالبها بانهاء وجودها نفسها، و هو ما لن نوافق عليه». و تلك رسالة رددها بتسلائيل سموترش وزير المالية و عضو الكنيسيت عن البيت اليهودى اليمنى المتطرف، اذا تخلى الرجل عن الغرور و الانتفاخ الكاذب و صرح بان الاستجابة لقرار المحكمة الدولية تعد إيذانا بنهاية المشروع الصهيوني. و ليس ذلك فقط تعبيرا عن فزعه من القرار و انما هو تعبير عن ادراكه لأصداء الزلزال الذى لاحظه في اعقاب عملية طوفان الأقصى، و اصدؤها القوية التي لا زالت تتردد في ارجاء العالم حتى الان.
لا غرابة في التشاؤم الذى عبر عنه الوزير الاسرائيلي و هو ما لامسته من مقالة سابقة بعنوان «ان تصبح إسرائيل تاريخا» اشرت فيها الى علامات أفول المشروع الصهيوني بعدما انفضح امره امام العالم خلال حرب الإبادة على غزة، حين توالت شهادات الخبراء الإسرائيليين و غيرهم التي اعترفت بهزيمة الجيش الذى لا يقهر عسكريا و امنيا و استخباراتيا، إضافة الى تدهور سمعتها الاقتصادية و الأخلاقية و ضلوعها في جرائم الإبادة و غيرها من انتهاكات القانون الدولى و القانون الدولى الانسانى. و هي ذات التفاعلات التي دفعت ثلاث دولة أوروبية (اسبانيا، و ايرلندة و النرويج) الى اعترافها بدولة فلسطين، الامر الذى يساهم في عزلة إسرائيل دوليا و يعزز تراجع الرأي العالمي ازاءها. في الوقت ذاته ارتفعت اسهم فلسطين القضية و المقاومة و الشعب الصامد و الصابر. و كان للإدارة الامريكية تصيبها من الفضيحة بعدما انكشف امام العالم حجم التواطؤ و التأييد الذى تقدمه الى إسرائيل، لتتجاوز الشراكة بينهما الى التبنى و السعي المستمر لتمكين إسرائيل من مواصلة القتل و التهجير و التستر على جهود الإبادة.
حين دخلت الحرب شهرها الثامن ظهرت عوامل جديدة في المشهد. اذ ثبت ان إسرائيل لم تحقق شيئا من أهدافها الاستراتيجية. و ظهرت الشقوق داخل مجتمعها و تطورت مظاهرات اهالى الاسرى الذى ظلوا يطالبون بعقد هدنة مع حماس تطلق سراح اسراهم لديها، ثم اضافوا مؤخرا مطالبات باستقالة الحكومة و انتخاب رئيس جديد لها. و في هذه الأجواء ظهرت سيناريوهات ما بعد الحرب خصوصا ما رشح منها في الولايات المتحدة التي تقف في مربع الانحياز الصريح لإسرائيل.
التطور الاخر الهام ان الدور الأمريكي تراجع بصورة نسبية، فرغم انها لا تزال القوى الأكبر و الأعظم عسكريا، الا ان وزنها الاستراتيجي ضعف بدوره بصورة ملحوظة. آية ذلك انها لم تستطيع ان تكبح جماح المحاكم الدولية التي تمردت و اصدرت احكاما كشفت عن عدم رغبة المحافل القانونية الدولية للأمم المتحدة الاستمرار في منح إسرائيل حصانة مفتوحة الاجل، و لم تسطع واشنطن بكل ما تملكه من نفوذ ان تمنعها من ذلك. كما انها عجزت عن ممارسة ضغوطها لمنع جنوب افريقيا من اتهام إسرائيل بممارسة الإبادة بحق الفلسطييين في غزة، فضلا عن فشلها في ان تحول دون تمرد بعض دول أمريكا اللاتينية التنديد بالعدوان الإسرائيلي، أحدثها اعلان المكسيك طلب الانضمام رسمياً الى جنوب افريقيا في الدعوى التي تنظر امام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بانتهاك المعاهدة الدولية لمنع الإبادة.
و من مصادفات الاقدار ان الجسر العائم الى قامت واشنطن ببنائه بتكلفة 320 دولار بدعوى ادخال المساعدات الى القطاع انهارت أجزاء منه بعد مضى أسبوع من تشغيله، مما كان تعبيرا عن هشاشة الدور الأمريكي و ركاكة التعامل مع معطيات الواقع الفلسطيني على الأرض.
من نماذج السيناريوهات التي اعنيها ما نشرته مجلة «بوليتيكو» الامريكية ذات السمعة الرصينة التي نسبت معلوماتها الى أربعة مسئولين في إدارة الرئيس بايدن. و هناك أفكار أخرى قريبة تحدث عنها تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيد للسياسيات الإسرائيلية، و مقترحات ثالثة أعدتها جماعة بحثية تسمى تحالف فاندنبرج الذى يتكون بدوره من عدد من مؤيدى إسرائيل.
ربما كان كافيا لاستبعاد أمثال تلك الطروحات بسرعة ان ندرك انها خارجة من المطبخ الامريكى الذى هو بمثابة الشريك و الكفيل للدولة الإسرائيلية، و ذلك لا يمنع من ابداء عدة الملاحظات الأخرى التي تنبه الى بعض العوامل المثيرة للقلق.
ذلك ان اغلب الأفكار المطروحة تحرص على التمكين الإسرائيلي و ضمان سيطرتها على الأوضاع الأمنية بدعوى الحيلولة دون تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر. و لتحقيق ذلك يسمح بعودة اعداد من الفلسطينيين بشروط معينة. و يتوازى ذلك مع تنشيط عملية الاعمار و استمرار التمويل. و يشرف على الإدارة المدنية مستشار امريكى له مقر خارج غزة. اذ يقترح له ان يقيم في منطقة قريبة في سيناء او عمان، فريقه فقط هو الذى سيبقى داخل القطاع. اما الامن و الاستقرار فتتولاه قوة اممية تشترك فيها قوات تمثل ثلاث دول عربية «حليفة» هي مصر و المغرب و الامارات. و تضم الى هذه القوة بعض عناصر سلطة التنسيق الامنى في رام الله.
و هذه النقطة الأخيرة لها خطورتها لأنها بمثابة توريط غير مسبوق للدول العربية الحليفة في مهمة التنسيق الأمني سيئ السمعة، و هو ما يفتح الباب لاشتباك هذه القوة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، على نحو يفتح الباب لاحتمال نشوب حرب عربية-عربية. ولا تفوتنا في هذا الصدد ملاحظة ان القمة العربية التي عقدت في شهر مايو الماضى بالمنامة (احدى عواصم التطبيع العربى و احد اركان البدعة الابراهيمية) دعت الى نشر قوة سلام دولية تابعة للأمم المتحدة لحماية المدنيين في الاراضى الفلسطينية.
إزاء ذلك خطر لى شبح اتفاق أوسلو الذى اخذت فيها الدولة العبرية الكثير من المنظمة و خرج الفلسطينيون بالسلطة الوطنية و بوعد الحكم الذاتي يمهد للدولة المستقلة الذى يم يتحقق منه شيء طوال اكثر من 30 عاما. و بذلك حققت إسرائيل مرادها و اكل الفلسطينيون الهواء. و هو ما ينبهنا الى تحديات اللحظة الراهنة التي تؤكد بما لا داعى للشك في ان طوفان الأقصى كان و لا يزال هو الحل. ليس اليوم فقط، و لكن غدا أيضا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
بعد سقوط البشير واستقالة صلاح قوش ومن بعده جلال الشيخ، تغولت الاستخبارات العسكرية على ملفات جهاز المخابرات وسيطرت على معظم موارده، وتقاسمته مناصفة مع الدعم السريع، الاستخبارات على المعلومات والتحليل والقرار، والدعم السريع على المقار والموارد الفنية..
تحول جهاز المخابرات إلى جسد بلا روح، يتم ابتزازه سياسياً من قبل قحت بماضيه وانتماءات منسوبيه لنظام الإنقاذ. كثير من عناصره انحنوا للعاصفة، فمنهم من تم إقالته ومنهم من دخل في حالة كمون وانتظار ومنهم من طاوع الحكام الجدد وأدار ظهره لولائه السابق ومنهم من قاوم مشروع الحكم الجديد بممانعة صامتة..
كان الهدف بعد سقوط البشير وبعد حادثة هيئة العمليات أن تكون السيطرة الكاملة لصالح الاستخبارات العسكرية، وكان الرأي الغالب لدى قيادات الجيش أن يدار الجهاز بواسطة ضباط من داخل المؤسسة العسكرية، مثل الفريق جمال عبد المجيد. لم تنجح التوجهات الجديدة لأسباب تتعلق بعدم دراية هؤلاء الضباط بطبيعة الثقافة المؤسسية الطاغية على عمل الجهاز وبطبيعة العمل الأمني في شقه المدني ولغياب الرؤية المشتركة بين الضباط القادمين من الجيش مع الشباب الذين تخرجوا من مؤسسة الجهاز، بالإضافة لتعدد الولاءات داخل الجهاز نفسه بين ولاءات تقليدية وولاءات حديثة مرتبطة بالعناصر المدخلة من قبل مجموعة حميد-تي والنظام الجديد ..
صحيح لم يستطيع حميدتي ابتلاع الجهاز كلياً، لكنه أحدث فيه اختراقات عميقة وخلق حالة من الاهتزاز الداخلي جعله جهاز فاقد للفعالية ومكبل بعزلة سياسية وحالة عداء شعبي مرتبط بديسمبر والخطابات الميدانية الرافضة لعناصره. فحالة الهياج الشعبي الرافض للجهاز ولعناصره وظفها حميدتي لجعل دور الجهاز محصور فقط في جمع المعلومات وتكبيل اي خطوات وقائية يمكن أن يقوم بها وحصرها فقط على الد-عم السريع ..
الأن وبعد قيام الحرب ومع بدء الجهاز في استعادة توازنه وفك قيود التكبيل التي مارسها عليه حميد-تي، يجب على قيادة الدولة أن تسمح بإعادة جهاز الأمن إلى عمله وفق هيكلة جديدة تعيد له صلاحياته الفنية في التحليل والتأمين والتحرك خاصة في الأحياء السكنية وملء الفراغ الاستخباراتي داخل المدن. المطلوب هو فك الارتباط والتداخل بين استخبارات الجيش والجهاز ، خصوصاً على الملفات الأمنية ذات البعد المدني وترك إدارتها للجهاز ، مع زيادة التنسيق بينهم بعيداً عن التعامل مع الجهاز بنظرة ديسمبرية قللت من فعاليته وساهمت في تهميشه. يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان .
حسبو البيلي
#السودان