الإعلام التونسي بين شيطنة الجزيرة والاحتفاء بالدحدوح
تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT
رغم حرص قناة الجزيرة -منذ أيام المخلوع- على المهنية والحياد عند التطرق إلى الشأن التونسي، فإن هذه القناة، مثلها في ذلك كمثل كل المنابر الإعلامية المحسوبة على المحور القطري-التركي الداعم للثورات العربية، لم تسلم من حملات التشويه والتخوين المُمنهجة من لدن ما يُسمّى بالنخبة الحداثية بمختلف مرجعياتها البورقيبية والقومية واليسارية.
وقد جاء "تصحيح المسار" ليحقق شيئا من مطالب تلك النخب عندما سارع الجهاز الأمني إلى إغلاق مقر الجزيرة دون إذن قضائي، بل دون علم مصالح رئاسة الجمهورية حسب ما صدر من مواقف رسمية. إنه "منطق التعليمات" الذي كان أساس اشتغال الآلة القمعية في عهد المخلوع، ذلك المنطق الذي يجعل من تحديد المسؤوليات الجزائية أمرا بالغ الصعوبة بحكم عدم وجود أي أثر مكتوب، كما أنه يُعطي للسلطة السياسية إمكانية المناورة بتوصيف ما حدث على أنه تعسف في استعمال السلطة ولا يُمثّل التوجه الرسمي للدولة.
مواقف النقابة ذاتها عند غلق الجزيرة والتضييق على صحفييها لم تتجاوز الحد الأدنى من التضامن؛ على خلاف ما كان من ارتفاع سقفها الاحتجاجي و"النضالي" كلما تعلق الأمر بالمحسوبين على التيار المعادي للجزيرة أو للنهضويين وحلفائهم. ولذلك فإننا نعتبر مواقف نقابة الصحفيين ضربا من تسجيل الموقف أو رفع الملام، كما نعتبرها تجسيدا جيدا لمنطق ازدواجية المعايير والانحياز الأيديولوجي الذي حكم مكوّنات المجتمع المدني بمختلف منظماته "الحداثية"
منذ المرحلة التأسيسية، كانت الحملة على الجزيرة تقوم من جهة أولى على الربط بينها وبين "الإرهاب" و"الإخوان" باعتبارهما ظاهرة واحدة تهدّد النسيج المجتمعي التونسي ومكاسب الدولة الوطنية، كما كانت تلك الحملة تقوم من جهة ثانية على الربط بين الجزيرة وكل منابر الإعلام التي لا تتماهى مع استراتيجية الثورة المضادة؛ وبين مشروع "صهيوني" متخيل مداره تفكيك الدولة التونسية وإلحاقها -عبر بوابة الديمقراطية التي حملت "الإخوان" إلى الحكم- بمحور التطبيع والخضوع للإمبريالية العالمية.
ورغم اتخاذ النقابة الوطنية للصحفيين مسافةً من هذه السردية، فإن أغلب مسؤوليها كانوا أدوات تنفيذ لها، بل إن مواقف النقابة ذاتها عند غلق الجزيرة والتضييق على صحفييها لم تتجاوز الحد الأدنى من التضامن؛ على خلاف ما كان من ارتفاع سقفها الاحتجاجي و"النضالي" كلما تعلق الأمر بالمحسوبين على التيار المعادي للجزيرة أو للنهضويين وحلفائهم. ولذلك فإننا نعتبر مواقف نقابة الصحفيين ضربا من تسجيل الموقف أو رفع الملام، كما نعتبرها تجسيدا جيدا لمنطق ازدواجية المعايير والانحياز الأيديولوجي الذي حكم مكوّنات المجتمع المدني بمختلف منظماته "الحداثية".
بناء على ما تقدم، فإن دعوة نقابة الصحفيين لوائل الدحدوح باعتباره أيقونة إعلامية لا تنفصل عن الجزيرة وقطر والمقاومة "الإخوانية" في غزة -أي أيقونة لا تنفصل عن الثالوث "الرجعي" و"المتصهين" حسب السردية الحداثوية التونسية التقليدية- هي أمر يحتاج إلى قراءة تتجاوز شعارات النقابة والسلطة، من مثل الانحياز للمقاومة الفلسطينية وللحقيقة الإعلامية، وتحاول فهم أسبابها بالبحث عن المكاسب التي ستقدّمها هذه الزيارة لمنظميها وللنظام على حد سواء.
ففي سياقٍ تصرّ فيه السلطة التونسية على مواصلة إغلاق مكتب الجزيرة دون سحب ترخيصها في العمل، وتصر فيه أغلب المنابر الإعلامية على تعويم المقاومة الإسلامية في صيغ "نضالية" عامة تُجنّب ذكرها بالاسم، وفي سياقٍ أسقط فيه مجلس النواب مشروع قانون لفتح مكتب لصندوق قطر للتنمية في تونس، وفي سياقٍ ما زال فيه مكتب المجلس مصرا على تعطيل المبادرة التشريعية لتنقيح المرسوم 54 الخاص بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، فإن زيارة الدحدوح إلى تونس والاحتفاء الرسمي والإعلامي به هو أمر قد يبدو في الظاهر مناقضا للتوجهات العامة للدولة وللخطوط التحريرية لأغلب المنابر الإعلامية العمومية والخاصة.
إذا كان زيارة الدحدوح في الظاهر هي أمر مناقض لتوجهات الدولة والإعلام، فإن التعمق في المسألة كفيل برفع هذا التناقض وإعطائه عقلانية ما. فإغلاق قناة الجزيرة هو أمر أصبح محرجا للنظام المساند بصورة علنية للمقاومة والمنتقد للمشروع الصهيوني وأذرعه السياسية والمدنية، كما أن سردية "تصهين" الجزيرة قد تداعت بعد طوفان الأقصى ولم تعد مقبولة عند غالبية التونسيين. وفي مقابل ذلك، أظهر الطوفان حقيقة الإعلام المتصهين في محور الثورات المضادة (خاصة في مصر والإمارات والسعودية)، وهو ما يجعل النقابة الوطنية للصحفيين محوجةً إلى اتخاذ مسافة من حليفها التقليدي لإنقاذ ما تبقى من مصداقيتها المتآكلة؛ بحكم التقاطعات الكثيرة والالتقاء الموضوعي بين أغلب رموز الإعلام التونسي وبين عرابي التطبيع وممولي الثورات المضادة.
إننا أمام خطابٍ يحكمه نظام تسمية هلامي يحجب أكثر مما يضيء، وهو خطاب يهدف في الظاهر إلى رفع الدحدوح إلى مستوى الرمز الإنساني والكوني ولكنه في الحقيقة يسعى إلى فصله عن حاضنته الإعلامية والأيديولوجيةـ وحجب المعطيات التي قد يستفيد منها خصومُ الإعلام الشيو-تجمعي في تونس
إن إخراج الجزيرة من سردية الوصم باعتبارها راعية للإخوان وللإرهاب وللمشروع الصهيوني في المنطقة وإدخالها إلى مربّع الإعلام المقاوم والمعادي للصهيونية؛ هو خيار تكتيكي لا يعكس أية مراجعات أيديولوجية، بل يُعبّر عن قراءة انتهازية للأحداث. فالهدف من دعوة الدحدوح هو تحسين صورة الإعلام التونسي وتلميع النقابة داخليا وخارجيا، كما أنها تهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين -خاصة النهضويين- قصد منع أي مماهاة بينهم وبين الإعلام المقاوم ومحور المقاومة الإسلامية في الوعي الشعبي. وهو ما يعني أن علينا فهم الدعوة دون فصلها عن تموضع نقابة الصحفيين سياسيا وأيديولوجيا، فهذه النقابة هي جزء من الموالاة النقدية الداعمة لتصحيح المسار والمُشيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء".
وإذا كان الإعلام التونسي يُتابع أحداث غزة بخطاب وموسيقى وأشعار يسارية وقومية لا علاقة لها بالإسلام المقاوم وأشعاره وفنّه، فإن النقابة لم تخرج عن هذا الخط المؤدلج في احتفائها بزيارة الدحدوح. فحسب تصريحات النقابة، فإنه "لا يمكن اليوم أن نتحدث عن الدحدوح خارج التجربة المهنية والإنسانية، حيث يُمثل تجربة مهنية بمعنى الانتماء لمهنة الحقيقة التي تتحدى الاحتلال ومنطق الإبادة والحروب، وتجربة مواجهة الموت من أجل رسالة الأخبار والإعلام ورسالة فضح الجرائم ضد الانسانية والتوحش والانحطاط العالمي". وبصرف النظر عن عبثية الإيحاء بانطباق هذه الصفات على الإعلام التونسي، فإن أي قارئ لهذا الخطاب سيجد صعوبة في تعيين موقع الدحدوح في الخارطة الإعلامية العربية، فلا حديث عن قناة الجزيرة ولا عن المقاومة الإسلامية ولا عن الكيان الصهيوني.
إننا أمام خطابٍ يحكمه نظام تسمية هلامي يحجب أكثر مما يضيء، وهو خطاب يهدف في الظاهر إلى رفع الدحدوح إلى مستوى الرمز الإنساني والكوني ولكنه في الحقيقة يسعى إلى فصله عن حاضنته الإعلامية والأيديولوجيةـ وحجب المعطيات التي قد يستفيد منها خصومُ الإعلام الشيو-تجمعي في تونس (من مثل أن منبر "الحقيقة" هو "الجزيرة" التي يتهمها الإعلام التونسي بـ"التصهين"، وكذلك المرجعية الإسلامية الإخوانية للمقاومة وتاريخ الدحدوح نفسه)؛ كما يحاول هذا الخطاب الهلامي عدم إحراج "الأصدقاء" في الداخل وفي محور التطبيع والثورات المضادة إذا ما هو سمّى "المتصهينين" وأبواقهم الدعائية -أي النقيض المهني والإنساني للدحدوح- بأسمائهم.
تصدّر أعداء "الجزيرة" وخطها التحريري للمشهد الاحتفائي بالدحدوح هو مجرد مظهر من مظاهر هيمنة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي على المشهد الوطني وعلى آليات تشكيل الرأي العام، وهو أمر لا يعكس أي تغير في تموقع النقابة سياسيا ولا أيديولوجيا، إنه مجرد استثمار لرمزية الدحدوح ومحاولة لتوظيفها في تلميع صورة النقابة ومنظوريها أمام الرأي العام
لا شك عندنا في أن تصدّر أعداء "الجزيرة" وخطها التحريري للمشهد الاحتفائي بالدحدوح هو مجرد مظهر من مظاهر هيمنة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي على المشهد الوطني وعلى آليات تشكيل الرأي العام، وهو أمر لا يعكس أي تغير في تموقع النقابة سياسيا ولا أيديولوجيا، إنه مجرد استثمار لرمزية الدحدوح ومحاولة لتوظيفها في تلميع صورة النقابة ومنظوريها أمام الرأي العام. أما الارتفاع إلى مستوى ما يمثله الدحدوح من قيم الانتماء للحقيقة وللمقاومة ولمن هم أسفل؛ فإنه مطلب عزيز لا يمكن لكل التأنقات اللفظية والمشهدية الاحتفالية أن تبرهن على وجوده إلا من باب الدعوى التي لا محصول تحتها
ومن جهة النظام، فإن القبول بدعوة الدحدوح تؤكد للرأي العام انحياز الرئيس للمقاومة وتعطي لسردية مواجهة أذرع الصهيونية والماسونية في تونس مصداقيةً أكبر. كما أن هذه الزيارة قد تعقبها مراجعة لقرار غلق مقر الجزيرة بصورة غير قانونية، وهو أمر -إن حصل- فإنه سيعكس توجها جديدا في السياسة الخارجية التونسية، ومؤشرا على اتساع الشقة بين النظام وبين محور التطبيع والثورات المضادة من جهة أولى، وسيعكس من جهة ثانية تراخي قبضة اليسار الوظيفي على مراكز القرار داخل أروقة السلطة. وهي فرضية لا يمكن استبعادها خاصة بعد إقالة وزير الداخلية ووزير التضامن الاجتماعي، ومهاجمة الرئيس بصورة لا لَبس فيها للكارتيلات العائلية ولمنظومة الاستعمار الداخلي التي مثّل اليسار الوظيفي المعادي للجزيرة -قبل الثورة وبعدها- ذراعها الأيديولوجية والإعلامية الأهم.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجزيرة التونسي الإعلامية القطري غزة المقاومة تونس غزة قطر الجزيرة الإعلام مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإعلام التونسی نقابة الصحفیین الرأی العام فی الظاهر فی تونس کما أن من جهة هو أمر
إقرأ أيضاً:
المفكر التونسي منصور مهني: العالم العربي بحاجة إلى منهجية واضحة لتطوير حركة الترجمة
حين تتلاقى الثقافة والمعرفة، يولد وعي لا تؤطره لغة ولا تقيده حدود، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث تتجسد روح الحوار والانفتاح، كان لقاؤنا مع المفكر التونسي الكبير منصور مهني، الذي يمزج بين الأدب والترجمة والإعلام، حاملا رؤى تتجاوز اللحظة وتعيد مساءلة المشهد الثقافي العربي، وبين إشكاليات الترجمة، وحضور الأدب التونسي، ودور الإعلام في تشكيل الذائقة، يضع أصابعه على الجرح الثقافي، ويدعو إلى مشروع حضاري يعيد للأدب مكانته وللفكر دوره، في حديث يعبر حدود اللغات والثقافات.
- في كتاباتك الفكرية قدمت مفهوم «الإبراخيليا» كمقاربة ثقافية معاصرة.. فإلى أي مدى يمكن لهذا المفهوم أن يُعيد تشكيل نظرتنا للأدب والهُوية في ظل العولمة الثقافية
لنبدأ بالتذكير بأن كلمة «إبراخيليا» مستلهمة من الكلمة اليونانية القديمة (brakhulogia)، التي رأينا فيها لب الفلسفة المجتمعية لسقراط، ولعلها أيضا السبب الذي دفع أثينا إلى الحكم عليه بالإعدام. شخصيا، بعد البحث والتفكير واعتماد بعض القياسات اللغوية، وجدت نفسي أميل إلى اللفظ الذي انتهيت إليه، وهو «إبراخيليا»، ليكون المعرف بالمفهوم في المجال العلمي، وليتم تعويضه، عند الاقتضاء، بكلمة «المحادثة» في السياق العام لتبسيط التعامل معه وتوسيعه.
أما الفلسفة التي أمكننا اختزالها في مفهوم الإبراخيليا، مع التأكيد أنها ليست بالضرورة فلسفة سقراط لأننا لا ندعي ذلك، فهي رؤية فكرية نراها في علاقة بما رأينا في فكر سقراط مما يمكن التعمق فيه وربطه بإيتيقا مجتمعية وبممارسة خطابية، قد تتلاءم مع الحاجة التي يفرضها التطور الشامل على البشر في ما بينهم من تعامل متعدد الأوجه، وفي علاقتهم بالكون وبالوجود.
ووجدنا لدى سقراط مفهوم المحادثة من حيث هي روح يمكن أن تغذي هذا التعامل والتفاعل في منطق المطمح، الذي تكرّس لدى البشر تحت مسمى «الديمقراطية»، التي لم تطابق تسميتها معناها المنشود.
- وكيف يمكن التعمق أكثر في هذا المفهوم؟
يمكن التعمق في المفهوم انطلاقا من الكتابات المنشورة حوله منذ سنة 2012، خاصة بالفرنسية، لكن في مصر على الأقل نشر كتاب «محادثات النص الأدبي.. مقاربة إبراخيلية»، وهو مدخل مفيد في ذات المجال لمن يهمه الأمر، لنقل فقط إن الإبراخيليا، باعتمادها روح المحادثة، تعمل على تقاسم قيم ثابتة هي: الاحترام المتبادل، والمساواة بين الكل، وكذلك تنسيب الحقيقة، ثم ضرورة استمرار السؤال لدى الإنسان حول كل شيء، لتعميق معرفته بقناعة أنه مهما عرف فإنه لم يعرف شيئًا.
ومن وجهة النظر هذه، وفي علاقة بمعاني القصر والصغر والنقصان التي توحي بها عبارة (براكي – brachy)، فإن الإبراخيليا، بانفتاحها على بقية العلوم ومساءلة الأشياء، تدفعنا إلى عدم التقليل من قيمة الغير، بدعوى صغره أو نقصانه، يكفي أن نطلع على ما تفيدنا به البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا لندرك أن الكون نفسه يتمثل هيكليًا في أصغر تلك الكائنات «الصغيرة» إلى أبعد الحدود.
وبالقياس، ينسحب الأمر على الأدب، الذي يفترض أن يتبنى الإنشاء التحادثي ليحيا بالتفاعل المستمر بين النص وقارئه، هذا بصفة مختصرة، لكن التعمق والتأني في الموضوع يستدعي مزيدا من الاطلاع ومن الأسئلة.
- تنوعت مسيرتك بين البحث الأكاديمي والإبداع الأدبي والعمل الإعلامي.. كيف أثّر كل مجال على الآخر في تكوين رؤيتك الفكرية والإبداعية؟
الأمر بسيط، ليس هناك مجال فكري أو علمي أو ثقافي مغلق ومنفصل بذاته، المجالات الثلاثة التي ذكرتَها يمكن أن نقرأ في تقاطعها تكاملا محمودا بين العلم والفكر والتواصل.
- في ديوانك الشعري «الثانية بعد... أم هي دائمًا الأولى»، هناك وعي عميق بالزمن والذاكرة.. كيف تنظر إلى العلاقة بين الكتابة والتاريخ الشخصي والجماعي؟
الكتابة تحتوي كل المواضيع وتتناولها بالسؤال، وهي دائماً تغوص في كينونة الأحياء والأشياء، تلك الكينونة التي تأخذ مع الزمن صبغة تاريخية، والكتابة، سواء تعلّقت بالشخص أو بالجماعات، هي حلقة في العملية التأريخية التي قد تحوّلها الظروف إلى تاريخ.
- بالنسبة للكتابة بالفرنسية.. أمنحتك مساحة تعبير مختلفة عن الكتابة بالعربية، أم أن كل لغة تفرض قيودها ورؤاها الخاصة؟
بالطبع، منحتني الكتابة بالفرنسية مساحة تعبير إضافية، لكنني لا أرى أنها مختلفة جوهريا عن الكتابة بالعربية من حيث التساؤلات التي تدفعني إليها، على العكس، أعتبرها فرصة للتقاطع والتكامل بين الإنشائيات المتنوعة، بما يساهم في تأسيس خطاب مختلط، يعيد النظر في فكرة الصراع القائم بين اللغات وما ينتج عنه من صراعات بين الشعوب.
- كيف تنظر إلى تصنيف الأدباء بناء على اللغة التي يكتبون بها؟.. وهل ترى أن الأدب التونسي المكتوب بالفرنسية امتداد للأدب العربي أم أنه كيان مستقل؟
من الأخطاء الفادحة والمضرّة بالمجتمع وبالمجتمعات، أن نعتبر الكتابة بغير اللغة «الأم» (على افتراض أن هذا المفهوم محسوم، في حين أنه ليس كذلك) نوعا من التخلي أو الانفصال عن الهوية الجمعية، الأدب التونسي المكتوب بالفرنسية أدب تونسي، تماما كما هو الحال مع أي أدب كتبه تونسي، سواء كان بالعربية أو بأي لغة أخرى.
- شهد الأدب التونسي تحولات كبيرة بعد الثورة.. أترى أن هذه التحولات أفرزت موجة إبداعية جديدة، أم أنها أوقعت الأدب في فخ الخطاب السياسي المباشر؟قضية الثورة تبقى من الإشكاليات التي لم يُحسم أمرها بعد، ولذلك تعدّدت تسمياتها وفق الموقع أو التموقع السياسي للكاتب، حتى من أراد أن يبرز في موقع الحياد، فإن تعامله مع الخطاب جرّه، بشكل أو بآخر، إلى فخ الخطاب السياسي، ربما بفعل التعقيدات البلاغية ومزالقها، تلك التي حذّر منها سقراط.
- هناك من يرى أن الأدب التونسي يعاني من عزلة مقارنة بأدب المغرب والمشرق.. أتوافق على ذلك؟ وما الذي يمكن أن يفعله المثقفون لكسر هذه العزلة؟
طُرح عليّ هذا السؤال مؤخرا، ولو بصيغة مختلفة قليلاً، وسأعيد الإجابة نفسها: الأدب التونسي مُطالب بأن يُنصف نفسه قبل كل شيء، عندما نرى التونسيين يقللون من مبادرات مواطنيهم وأفكارهم وإبداعاتهم، بينما يهلّلون لما هو أجنبي عن حق أو عن غير حق، فلا يمكننا أن نلوم الآخرين إذا استخفوا بهذا الأدب.
أمّا عندما تتكاتف جهود التونسيين، وتصفو نواياهم لخدمة الأدب التونسي دون القطيعة مع الآداب الأخرى أو التقليل من قيمتها، فعندها سنرى الأدب التونسي يترسّخ ويرتقي مع غيره من الآداب، وهنا يكمن دور المنظومة التربوية، ومؤسسات التعليم والبحث، ومجالات العمل الثقافي، ودور المجتمع المدني.
- كيف ترى حضور الأدب التونسي في المشهد العربي؟.. وهل تعتقد أن هناك تقصيرا في تسويقه وترجمته؟
لا بد للأدب التونسي من وقفة تأمل في سياسات النشر والتوزيع والترجمة، ولا بد للأطراف الاقتصادية في هذه العملية أن تُغلّب مصلحة الثقافة التونسية وآدابها على حساباتها الخاصة، التي لا يجب أن تهملها، لكن يجب أن تجد الحل الوسط الذي نعبر عنه بمقولة «حتى لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي»، يجب فتح محادثة حقيقية، بالمغنى الإبراخيلي، بين كل الأطراف المعنية والمتدخلة، قصد استنباط السياسة الناجعة في هذا المجال.
- في رأيك، هل تتبنى الدولة التونسية سياسات ثقافية داعمة للأدب، أم أن المبادرات الفردية هي التي تحافظ على نبض المشهد الأدبي؟
الدولة التونسية تدعم الإنتاج الأدبي والفكري على قدر إمكانياتها، لنقل بصفة محترمة، لكن بقية الأطراف مطالبة بوعي جمعي أكثر مسؤولية ومواطَنية، يبقى أيضا أن بعض الذين يتحملون مسؤوليات في هذا المجال قد تنقصهم الكفاءة أو التجربة، دون اعتبار ما يحصل أحيانا من سوء تصرف أو من إهمال للشأن الثقافي العام.
- كيف ترى دور المؤسسات الثقافية في تونس اليوم؟.. وهل استطاعت أن تواكب المتغيرات الفكرية والإبداعية في العالم العربي؟
في البداية، يجب الاعتراف للثقافة التونسية بما قدمت للمجال الفكري والإبداعي في العالم العربي، والتاريخ شاهد على ذلك، لذلك يبقى السؤال غير دقيق في تعريف دور المؤسسات الثقافية، التي نراها في كل البلدان العربية تقريبا مؤسسات حكومية تتحرك في مساحة السياسة الثقافية الرسمية، شخصيا، أرى أن الحركية الثقافية لا تنمو بهامش من الحرية إلا بنسيج جمعياتي جاد وملتزم بالنشاط، لتقوية المجتمع المدني ودوره في التطور والتنمية عبر العمل الثقافي المنفتح على كل القطاعات.
- في ترجماتك.. أتسعى إلى الحفاظ على روح النص الأصلي، أم أنك ترى أن الترجمة عمل إبداعي يسمح بإعادة تشكيل النص وفقًا لحساسية اللغة الجديدة؟
الترجمة ترجمات، هناك الترجمة الوظيفية، وهي مطالبة بالحفاظ على محتوى النص الأصلي وعلى رسائله، وهناك الترجمة الإبداعية، التي كثيرا ما تكون تأويلية، وبذلك لها هامش من التصرف في مساءلة معنى النص، لكنها مطالبة أيضًا بالاحتفاظ بروح النص من انفتاحه على إثراء منتظر من الإنشائية الترجمية المبدعة، وهناك بينهما الترجمة التعليمية، التي تؤدي دورا مشتركا يأخذ من الوظيفية ومن الإبداعية.
شخصيا، أجتهد في ترجماتي الإبداعية محاولا إبلاغ روح النص الأصلي كما يبدو لي تأويلها، ودعمه بخصائص الكتابة الملائمة له في اللغة المترجم إليها، لكن لا ننسى أن الترجمة الإبداعية قد تسافر بعيدا في التصرف في النص وإنشائه، إلى حد الإبداع على الإبداع، وهي ظاهرة يمكن تعميمها على عامة الإبداع الأدبي، والتي تولّاها النقد والتحليل ضمن مفهوم التناص القائل بأن لا نص ينشأ من عدم.
- كيف تواجه الإشكاليات اللغوية والثقافية عند ترجمة النصوص العربية إلى الفرنسية والعكس؟
ذاك ما عبرت عنه بالإنشاء الترجمي، المطالب بنقل المحتوى مع اجتهاد في إيجاد تقنيات وتعبيرات خاضعة لمنظومة لغوية غير منظومة اللغة الأصلية، هناك يكون لب الإبداع الترجمي.
- تعتقد أن هناك نوعا من «الرقابة الذاتية» عند ترجمة نصوص تتناول قضايا حساسة ثقافيا أو سياسيا؟
الرقابة الذاتية موجودة في الإبداع وفي الترجمة، وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون سببا في الإبداع من حيث نزعتها لقول ما لا يقال.
- ماذا عن واقع حركة الترجمة في العالم العربي اليوم؟.. وهل تعتقد أن هناك غيابا لمنهجية واضحة في اختيار النصوص المترجمة؟
الإحصائيات تبين ضآلة حجم الترجمة في العالم العربي، رغم الحركية الجديدة والجيدة في بعض البلدان، زد على ذلك عدم التنسيق بين الدول العربية لتطوير تعاونها في مجال الترجمة، في البداية، على كل دولة أن ترسم بوضوح مكونات وأهداف سياستها في مجال الترجمة، وبعد ذلك ينطلق التعاون والتكامل بجدية ونجاعة.
- أهناك عمل أدبي عربي تعتقد أنه لم يحظَ بالترجمة التي يستحقها وتتمنى أن تتولى ترجمته؟
أنا منشغل منذ سنوات بمختلف ترجمات القرآن إلى الفرنسية، وتستفزني عديد الجوانب التي توقفت عندها، وبقيت أمني نفسي بإعداد دراسة في الموضوع، لكن مشاغل عديدة حدّت من حماسي. كما بدأت سنة 2009 ترجمة «أغاني الحياة» للشابي، لاقتناعي بأن مترجمي نصوصه لم يعيروا الجانب الموسيقي في شعره حق قدره، لكنني توقفت عند الثلث تقريبا، لكنني سعيد بترجماتي التي أنجزتها، خاصة نص «حركات» لمصطفى الفارسي، ونص «نافخ الزجاج الأعمى» لآدم فتحي، لعمق وحدة الرهانات الإبداعية التي اعترضتنا في ترجمتهما.
- باعتبارك شخصية جمعت بين العمل الصحفي والإعلامي والأدبي.. كيف ترى تأثير الإعلام في تشكيل الذائقة الأدبية لدى الجمهور؟
الإعلام له دور مركزي في تشكيل الذائقة الأدبية، وفي تنمية ثقافة الإبداع والقراءة، ولدينا تجارب عديدة لإنتاجات إعلامية سمعية بصرية أو مكتوبة أو حتى رقمية، قدمت الكثير في هذا المجال، يجدر العمل على دعم الإعلام الثقافي وتوسيع رقعته في مختلف البرامج والمحطات الإعلامية.
- ترى أن وسائل الإعلام العربية تعطي للأدب حقه.. أم أن هناك انحيازا نحو المحتوى السريع والسطحي؟
لا يحق لنا التعميم، كل وسيلة إعلامية ترسم سياستها للبرمجة الثقافية، والمهم أن نتعهد هذه السياسات الخاصة بتقييم دوري يحق له تعديل الأمور لما هو أفضل.
- كيف تنظر إلى دور معارض الكتاب كمعرض القاهرة الدولي في تعزيز التواصل الثقافي بين الدول العربية؟.. وهل تعتقد أن هذه الفعاليات قادرة على خلق حركة نقدية جادة حول الأعمال الأدبية؟
المعارض مكسب ثمين للثقافة عامة وللأدب والكتاب خاصة، والجميل هو أن معارض الكتاب تصنع لنفسها مجتمعًا مصغرًا بمختلف الطبقات والاتجاهات، لكن لا يخفي بعض النواقص، خاصة في عرض الكتب، الذي لا يصح له تجاهل إنتاجات هامة لاقتصاره على لغة واحدة أو لغتين على الأكثر، فالمعرض فرصة لا يجب أن يُحرم منها أي كتاب، وهنا نستحضر دور الرقميات لإحداث هذه النقلة النوعية.