بين الغناء في المطاعم والاتجاه للتدريس.. فنانو سوريا يواجهون خيارات صعبة في ظل شح الفرص
تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT
بمجرّد أن تتقفى أثر السوريين خارج بلادهم، سيخيّم على صدرك حزن يوازي ما يعتريك وأنت تجول البلاد المقفرة من بعد مآسيها المتلاحقة التي ابتلعت أحلام أجيال متعاقبة! ربما لأنهم شعب قادر على التأقلم والتكيّف مع أعتى الظروف وفي كلّ الاحتمالات، عدا عن كميّة المواهب التي تلتقطها بين الفينة والأخرى في كل البلاد التي يتاح لك السفر إليها.
اللافت أن مواهب عدة تخرّجت في "المعهد العالي للموسيقى" لكّنها لا تجد فرصة بدء حياتها من دمشق، فتقصد السفر كحال الغالبية العظمى من الشعب المبعثر في أنحاء الأرض، للبحث عن لقمة العيش حتى ولو اضطرها الأمر إلى الغناء في المطاعم وغير ذلك.
أحد تلك الأصوات هو المغني السوري محمد قباني الذي غادر بلاده بحثا عن لقمة عيشه، ويبدو كأنه قرر سلفا ألا يظهر كلّ إمكانياته في مطعم يمضي زبائنه وقتهم في الأكل والشرب وغيرهما، بينما هناك مغنّ ينهمك في إجادة ما تعلّمه خلال سنوات طويلة من عمره.
لا يخفي قباني ذلك إذ يعتقد جازما بأن جمهور "دار الأوبرا" مثلا، "سيجبرك أن تخرج أفضل ما لديك بينما مجرّد أن تمسك المايك وتبدأ بالغناء، ثم تقع عينك على أحد رواد المكان وهو منهمك في متابعة مباراة مسجلّة تعرض على الشاشة المثبتة أمامه بدون صوت، وهو يلتهم وجبته المفضلة -وهذا حقّه طبعا- لكن الأكيد بأن أذنه لن تكون جاهزة لتستمع لغناء طربي لذا سيؤثر على مزاجي وأدائي حتما".
يقول الفنان السوري لـ"الجزيرة نت"، بأن الوضع اشتعل في بلاده بالتزامن مع دخوله "المعهد العالي للموسيقى"، ومع ذلك لم تتوقف طموحاته ومحاولاته التطور.
وخلال سنوات من تخرّجه من المعهد في دمشق، كانت بداية قباني مع المؤلف الموسيقي المكرّس طاهر مامللي الذي عمل معه في شارات مسلسلات عديدة مثل "أهل الغرام"، و"أحمر"، وكان أحد مغني أوبريت "دم حبر الحق"، كما شارك معه في عدة حفلات داخل وخارج سوريا أدى في إحداها شارة مسلسل "ما وراء الشمس".
الموسيقي السوري بلال الجندي اضطر للغناء في المطاعم لتأمين ما يكفي من دخل (مواقع التواصل الإجتماعي)ثم عمل الفنان المغترب مع المؤلف الموسيقي خالد رزق وأدى شارة مسلسل "دامسكو"، واشتغل مع منظمة اليونسكو في ألبوم موّجه وأدى أغنية "مثل المنام" بعدها اشتغل على أغنية من الممكن أن تندرج تحت مسمى "التجارية" من كلمات المخرج سيف الدين سبيعي وألحان فادي مارديني، بالإضافة لتجارب موسيقية متنوعة.
أما عن حفلات "دار الأوبرا"، فكان له منها نصيب وافر وقد أحيى حفلات عدّة في مناسبات مختلفة، واحدة منها كانت في ذكرى وفاة المطرب السوري الراحل فريد الأطرش، وذكرى وفاة رفيق شكري مع الفرقة الوطنية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، عدا عن شراكات مختلفة مع رعد خلف وميساك باغبودريان.
رغم كل ذلك، فإن الرحال حطت به -كما جرت العادة مع المغنين السوريين الشباب- في المطاعم. والسبب ببساطة انعدام سوق الإنتاج الغنائي المحلي.
بماذا يختلف الغناء في المطاعم؟فهل صار يندرج ضمن قائمة أحلام أي مغنٍ سوري العمل في المطاعم وأماكن التسلية والسهر؟ وهل يبرر موضوع الاسترزاق النزول إلى هذه الأماكن وربما تعتبر شكلا من أشكال اللقاء مع الجمهور؟ أم أنها سبب في تراجع إمكانيات الصوت لدى المغني واستسهاله عدا عن أضرار التعاون مع فرقة ربما لا تكون احترافية، ثم الغناء أمام جمهور لا يرتاد المكان بقصد السمع أولا؟ وغيرها من الأمور.
يجيب المطرب الشاب بالقول، "موضوع الغناء في المطاعم خيار مادي بحت مع شديد الأسف، خصوصا في ظل الوضع الاقتصادي المتهاوي لبلادنا، والانحدار المتلاحق الذي أثّر على خياراتي، فإما أن أنحو باتجاه الخيار الملتزم وأكتفي بحفلة في دار الأوبرا السورية كل 3 أشهر وأبحث عن مصدر رزق آخر، أو أن أعثر على البديل لكي أستطيع من خلال موهبتي ومهنتي الوحيدة العيش بكرامة".
ويضيف، "الغناء في المطاعم لم يكن يوما حلمي ولا هدفي أيضا، لكن لا أستطيع إنكار أن نوعية هذا العمل تعلم المغني ما لا تعلمه الجهات الأكاديمية، وهي الخبرة، وأغلب المغنين القادمين من خلفية أكاديمية لا يعرفون كيف يتصرفون في الحفلات التجارية، لأنه عالم مختلف ويتطلب خبرة أكثر من المنطق الأكاديمي بشكله الاحترافي، عموما حاولت الحفاظ على اللون الذي أغنيه، واختياري للمكان يمكن اختصار الحالة بأن الأمر يتطلب بعض التنازلات لكن بالنسبة لي حافظت على سوية معينة".
دار الأوبرا تعيش ظروف البلدمن ناحيتها، تقول مغنية الأوبرا ورئيسة قسم الغناء الكلاسيكي في المعهد العالي للموسيقى رشا أبو شكر، "أعتبر تجربتي خاصة لأنني مغنية أوبرا وهذا النوع يعتبر ثقافة بعيدة جدا عن مجتمعنا ومتذوقو هذا الفن نسبتهم قليلة مقارنة بأنواع موسيقية أخرى، ودراستي فيه كانت تحدّيا كبيرا لأننا نعامل كطلاب وكقسم معاملة لاتشبه أي قسم ثان، إضافة إلى تواجدي في سورية وهذا ما جعل المهمة أصعب، ودراستي بفترة الحرب سببت لي صعوبات مثل فقدان الكوادر التدريسية الكافية خاصة أن أغلب الخبرات الأجنبية سافرت".
وحول رأيها إن كانت تشجّع استمرار دخول الطلاب إلى المعهد وسط هذه الظروف وإن كانوا يتلقون الدعم الكافي من مؤسساتهم الأكاديمية، تقول "يتلقى الطالب الدعم الكامل ضمن إمكانيات المعهد الذي يمر بنفس ظروف البلد، بالتأكيد الوضع ليس مثاليا، ويعود الموضوع بالنسبة للفرد نفسه! فمنهم من يبحث عن الأكاديمية ويدخل ليطور معرفته وأدواته، وأشخاص آخرون يمتلكون موهبة ويبحثون عن الشهادة لينطلقوا لعالم الشهرة. عموما المعهد ليس مسؤولا عن توفير الفرص ولا يوجد أي أكاديمية في العالم تقدم هذا الشيء".
على صعيد آخر، تحكي أبو شكر عن القسم الآخر من تجربتها العملية على المسرح فتقول "كان لابد لي أن أتعايش مع هذه الظروف وأبحث عن الإنجاز ولا أقارن نفسي بحالات حدثت ورأيناها، ولا أرسم لطريق مثالي في مكان لا يمتلك شيئا عن المثالية، والأمر يعود لمن يلاحق شغفه ويبحث عن حلول ويجتهد، فمثلا قدمت عروضا أوبرالية خلال فترة الحرب، وتشاركنا مع زملاء على مشاريع، وبالتأكيد سيلقى الشخص الدعم بعد هذه المحاولات".
وتضيف، "جرّبنا جذب الناس لهذا النوع من الموسيقى عن طريق صياغته بشكل يألفونه ويعتادون عليه لأن لغة الأوبرا بعيدة عن لغتنا فهي تكون بالفرنسية، الإيطالية، الروسية، الألمانية، وغيرها، بالإضافة لعدم معرفة فئة كبيرة من الناس أن الأوبرا عمل مسرحي متكامل، والمغني هو ممثل أيضا، فصارت الناس تسأل عن موعد الحفلات وتترقب، وهذا ما رأيناه في الأمسيات الأخيرة، وفي النهاية لا يوجد فنان خرج من ظروف مثالية، وهذا ما يعطي غنى للتجربة".
الاتجاه إلى تدريس الموسيقىأما المغني بلال الجندي، فيقول عن معاناة خريجي المعاهد الموسيقية في سوريا وغياب الفرص، "هذا الموضوع وجع حقيقي لكل الذين اختصوا ودرسوا الموسيقى أكاديميا. من ناحيتي اخترت تحقيق حلمي وحلم عائلتي بهذا التخصص لذا لن أكون نادما في يوم ما، لكن موضوعنا كشباب خريجين هو انحسار الفرص لغياب شركات الإنتاج وشركات التسويق. إضافةً للظروف الاقتصادية التي نمر بها".
ويستطرد، "يمكن القول صراحة بأننا لا نستطيع العيش إن اعتمدنا فقط على موهبتنا لأن الأجور لا تتناسب مع حياتنا سواء عملنا في دار الأوبرا أو غيرها، لأن الفنانين الذين يقيمون حفلات في مطاعم أو أي مكان آخر قد يتقاضون أجرا عاليا، بينما الفنان الأكاديمي الذي تعب لسنوات ويعلّم بالصولفيج والهارموني ويمتلك مهارات أخرى قد يتقاضى على 7 بروفات والحفل ثمنا زهيدا".
وعن الحلول التي يلجأ إليها المغني السوري ليتمّكن من التوازن اقتصاديا، يقول "أعمل في أربيل في مدرسة عالمية، رغم أن الفن المطلوب هناك يختلف عن الفن الذي تلقيته في المعهد، لذلك من النادر أن ترى أماكن تفهم ما أريده، فنتجه جميعنا للتدريس لأن الحالة الطاغية تنحو باتجاه الحفلات الشعبية والترفيهية أكثر ما يُطلب الاستمتاع بالمادة الموسيقية الأصيلة. هذا عائق ليس فقط في سوريا، بل في جميع البلدان العربية، بالنسبة لي يعتبر الأمر بمثابة خذلان لا يمكن الانصياع له، ومن غير الممكن أن أظهر سوى على المسارح المحترمة وهو أمر ينسحب على كثيرين من زملائي، لذا توجهنا للتدريس من أجل التوازن المادي فقط".
وعن الحلول الممكنة من وجهة نظره يقول الجندي، "لا يوجد حل ولكن مثلا يمكن أن تزداد فرص العمل، وأن تسعى نقابة الفنانين أيضا لتقديم المساعدة لمنتسبيها بأماكن راقية ومهمة، ورفع الأجور للأكاديميين كي يضمنوا معيشتهم، ودار الأوبرا التي نحب الغناء فيها تعتبر جزءا من حياتنا منذ مغامرات أيام الدراسة التي مرت بظروف صعبة، ثم من لديه خدمة إلزامية للموسيقيين أن تتم العناية فيه ويخدم في دار الأوبرا وهذا سيشكل فائدة كبيرة، لأنه أثناء هذه الفترة سيبتعد العازفون والمغنون عن أدواتهم فتصبح معرضة للنسيان".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دار الأوبرا
إقرأ أيضاً:
الغزيون يواجهون «كابوس الشتاء» بلا غذاء ولا مأوى
دينا محمود (غزة، لندن)
أخبار ذات صلة «مصيدة الموت في غزة».. تقرير جديد لـ«أطباء بلا حدود» غارات إسرائيلية على أهداف حوثية في اليمنخطر الشتاء يلوح من جديد أمام ناظريْ 2.2 مليون نسمة تقريباً، هم أهل قطاع غزة المنكوبون منذ أكثر من 14 شهراً، وذلك مع ما شهدته الأسابيع الأخيرة من تراجع لدرجات الحرارة واشتداد قوة العواصف.
وتتصاعد مخاطر هذا الكابوس بالنسبة لعشرات الآلاف من الغزيين، الذين يلتمسون المأوى على ساحل القطاع ممن يواجهون ظروفاً شتوية قاسية خاصة في ظل عدم وجود كميات كافية من الغذاء والوقود، ووسط تلفيات كبيرة حلت بخيامهم خلال الفترة الأخيرة.
ونجمت هذه التلفيات، عن سوء الأحوال الجوية والرياح العاتية، التي اجتاحت الخيام المتناثرة على الشريط الساحلي لغزة بمنطقة «المواصي»، المُصنَّفة منذ شهور «منطقة إنسانية»، ما أدى إلى اكتظاظها بالنازحين الفارين من مختلف أنحاء القطاع الأخرى.
وقادت هذه العواصف كذلك إلى إتلاف مخزون القاطنين في تلك الخيام، من الطعام والملابس والحطب، الذي يرتفع ثمنه في فصل الشتاء، نظراً لكونه يُستخدم لجلب الدفء.
وقال متضررون من هذه التقلبات الجوية، إنهم اضطروا لنصب خيامهم على رمال الشاطئ، بفعل نقص المساحة المتوافرة لإقامة خيام في منطقة «المواصي»، ما جعلهم قريبين للغاية من خط الساحل، مما قاد إلى أن تجرفهم الأمواج العالية، التي اعتبر البعض منهم، أنها كانت أشبه بـ «تسونامي».
وأشار هؤلاء إلى أنه لم يعد لديهم حالياً ملابس شتوية ولا أغطية كافية، خاصة بعدما استخدموا بعضاً من تلك الأغطية لإعداد خيامهم بشكل مرتجل.
كما قالوا، إن مياه البحر جرفت الحطب، الذي كانوا يشعلونه، للحصول على أي قدر من الدفء خلال الأيام والليالي الأكثر برودة.
وفي غمار هذه الأوضاع المتردية، توقعت الأمم المتحدة ومنظمات ووكالات إنسانية مختلفة، تزايد الصعوبات التي تواجه سكان القطاع خلال أشهر الشتاء، لا سيما عندما تنخفض الحرارة، إلى ما لا يتجاوز 5 درجات مئوية في بعض الأحيان، وذلك في وقت أصبحت فيه المباني كلها تقريباً مدمرة، ما يحرم النازحين من أي ملاذ، يمكنهم الاحتماء به من الطقس شديد البرودة.
وسبق أن حذر المفوض العام لـ«الأونروا»، فيليب لازاريني، من أن حلول الشتاء في غزة، يعني أن الناس هناك لن يلقوا حتفهم بسبب الغارات الجوية أو الأمراض أو الجوع فقط، وإنما سيموتون كذلك ارتجافاً من جراء البرد، وخاصة في أوساط الفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال وكبار السن.
وفي مسعى للحيلولة دون حدوث هذا السيناريو الكارثي، دعت وكالات الإغاثة والأمم المتحدة وكثير من الحكومات حول العالم، إلى تحسين عملية تدفق المساعدات إلى غزة، وخاصة إلى المناطق الشمالية منه، التي تعاني من حصار مطبق منذ أكثر من شهرين، في ظل عملية عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق، عَلِقَ في غمارها ما يقدر بـ 75 ألف شخص.