إذا استمعت إلى المسؤولين الأمريكيين وهم يتحدثون عن حواجز التجارة والاستثمار التي ينصبونها ضد الصين قد تعتقد أنهم يبذلون أقصى ما في وسعهم للحد من تداعياتها الاقتصادية.
جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي صرح مؤخرا لمجلس العلاقات الخارجية وهو مركز أبحاث مقره في نيويورك بقوله: "هذه الخطوات لا تتعلق بالحمائية.
الاستثمار والجغرافيا السياسية
لقد تدنت تدفقات رأس المال العالمي خصوصا الاستثمار الأجنبي المباشر. وهي الآن يتم توجيهها على أسس جيوسياسية. هذا يحقق منافع للبلدان غير المنحازة والتي يمكن أن تتعامل مع كلا الجانبين. وإذا حدَّ من تقلبات التدفقات الرأسمالية قد يفيد بعض الشيء الاستقرار المالي للأسواق الصاعدة. لكن مع اتساع الشقة بين الكتل الجيوسياسية من المرجح أن يجعل العالم أكثر فقرا مما لو كان الوضع خلافا لذلك. تتمثل مصادر تدفقات رأس المال عبر الحدود في مراكز المستثمرين في المحافظ (الاستثمارات في الأسهم والأوراق المالية ذات الدخل الثابت) ودفاتر إقراض البنوك (القروض الدولية والإقراض بين البنوك) والاستثمار الأجنبي المباشر للشركات (المشروعات الجديدة والإندماجات والاستحواذات والأرباح المعاد استثمارها). كل هذه الأنواع من التدفقات الرأسمالية تدهورت بعد الأزمة المالية في الفترة 2007-2009 ولم تتعافَ منذ ذلك التاريخ. لكن تدنِّي الاستثمار الأجنبي المباشر صار أكثر وضوحا بعد اندلاع الحرب التجارية للولايات المتحدة مع الصين أثناء رئاسة ترامب. وجدت دراسة أعدها خبراء بصندوق النقد الدولي ونشرت في أبريل 2023 أن الإجمالي العالمي للاستثمار الأجنبي المباشر كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي هبط من 3.3% في المتوسط في العشرية الأولى من هذا القرن إلى 1.3% فقط في الفترة بين 2018 و2022. وبعد الحرب في أوكرانيا عام 2022 تراجعت القروض المصرفية عبر الحدود وتدفقات الديون في المحافظ الاستثمارية إلى البلدان التي أيدت روسيا في التصويت بالأمم المتحدة بنسبة 20% و60% على التوالي. لتحديد ما إذا كانت وُجهة الاستثمار الأجنبي المباشر قد تغيرت مع مرور الوقت حلل باحثو الصندوق بيانات عن 300 ألف استثمار (مشروع) جديد عبر الحدود في الفترة بين 2003 و2022. وجدوا تراجعا سريعا في التدفقات المتجهة إلى الصين بعد تصاعد التوترات التجارية في عام 2018. وفي الفترة بين ذلك العام وعام 2022 هبطت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المتجهة إلى الصين في القطاعات التي اعتبرها واضعو السياسات "استراتيجية" بأكثر من 50%. أيضا تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أوروبا وباقي آسيا لكن بنسبة أقل كثيرا. أما تلك المتجهة إلى أمريكا فظلت مستقرة نسبيا. وانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع الرقائق الإلكترونية الصيني بنسبة 75% فيما ارتفع هذا الاستثمار بشدة في شركات تصنيع الرقائق في باقي آسيا وأمريكا. ثم قارن باحثو صندوق النقد الدولي الاستثمارات المكتملة في مختلف المناطق بين 2015 و2020 بتلك التي اكتملت بين 2020 و2022. بين الفترتين تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 20%. لكن التدهور كان متفاوتا بشدة بين المناطق المختلفة. كانت أمريكا والبلدان في أوروبا خصوصا الصاعدة منها أفضل نسبيا. وهبط الاستثمار الأجنبي المباشر للصين وباقي آسيا بما يزيد كثيرا عن إجمالي التدهور. يشير سجل البلدان الفائزة نسبيا (أمريكا الغنية وأقرب حلفائها) إلى أن الاصطفاف الجيوسياسي لعب دورا في تحويل وجهة التدفقات الرأسمالية. بالفعل لقد صار أهم من أي وقت مضى. بقياس مثل هذا الاصطفاف من خلال أنماط التصويت في الأمم المتحدة، حسب باحثو الصندوق حصةَ الاستثمار الأجنبي المباشر التي تتدفق بين بلدين تقرِّب بينهما الجغرافيا السياسية (وثيقي الصلة جيوسياسيا) ووجدوا أن هذه الحصة ارتفعت بقدر مهم خلال العقد الماضي وأن القرب الجيوسياسي أهم من الجوار الجغرافي. الترابط نفسه مع الاصطفاف الجيوسياسي موجود في الإقراض المصرفي وتدفقات المحافظ (الاستثمارات في الأسهم والسندات والأصول الأخرى) عبر الحدود وإن كان ذلك بدرجة أقل. ربما يبدو مفاجئا أن أيَّا من هذا لم يستثِر كثيرا من القلق أو حتى الاهتمام من جانب واضعي السياسات. مثلها مثل التجارة الحرة، يلزم أن تقدم التدفقات الرأسمالية من الناحية النظرية المزيد من الفرص للشركات والجهات الاستثمارية وتتيح لها كلها فرصة أكبر للثراء. الاستثمار طويل الأجل من الشركات الكبيرة أيضا يقدم الابتكار والخبرة الإدارية والشبكات التجارية. ذلك مهم خصوصا للبلدان الفقيرة. فرأس المال الأجنبي يعزز النمو عند احتمال انعدام المدخرات المحلية، وإذا كانت حركة رأس المال العالمي حرة ستتوقع أن تكون تكلفته أقل.
تدفقات رؤوس الأموال والأزمات
مع ذلك وعلى الرغم من الاتساع الشاسع لنطاق العولمة المالية خلال العقود الثلاثة الماضية مع ارتفاع إجمالي المراكز الاستثمارية العابرة للحدود (إجمالي قيمة الأصول والخصوم المالية لدى الأفراد والشركات والحكومات في مختلف البلدان) من 115% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم في عام 1990 إلى 374% في عام 2022 تبيَّن أن من الصعب قياس المكاسب المتحققة منها. ذلك لا يعني أنه لم تكن هنالك مكاسب. لكن في الوقت ذاته توجد أدلة واضحة بأن التدفقات المفاجئة لرأس المال يمكن أن تسبب أزمات مالية. رصدت ورقة نشرت في عام 2016 بواسطة خبراء صندوق النقد الدولي وقتها اتيش قوش وجوناثان أوستري وماهفاش قرشي 152 حالة "ارتفاع" غير عادي في التدفقات الرأسمالية الكبيرة عبر 53 اقتصادا صاعدا في الفترة بين 1980 و2014. قادت حوالي 20% من هذه التدفقات الكبيرة إلى البلدان الصاعدة إلى أزمات مصرفية خلال عامين من انتهائها، منها 6% تسببت في أزمتين متزامنتين مصرفية وأخرى تتعلق بالعملة (وهذا أعلى كثيرا من المعدل المعهود). الانهيارات كثيرا ما تحدث معا أثناء الاضطرابات المالية العالمية. لكن من الصعب تجاهل الصلة بين تدفقات رأس المال الأجنبي وما يعقبها من نمو في الائتمان ومغالاة في تقييم العملة وإفراط في النشاط الاقتصادي. هذا يعزز موقف واضعي السياسات الآسيويين الذين قللوا بشكل منهجي اعتمادهم على رأس المال الأجنبي بعد كارثة 1998(الأزمة المالية الآسيوية). حقا مرونة بلدان الاقتصادات الصاعدة كانت لافتة خلال السنوات القليلة الماضية مع تشديد بنك الاحتياط الفدرالي سياسته النقدية بأسرع وتيرة لها منذ أعوام الثمانينات. وقتها أشعل تشديد البنك للسياسة النقدية (برفع أسعار الفائدة) أزمة ديون في أمريكا اللاتينية. وهذه المرة تمكنت معظم البلدان الكبيرة المتوسطة الدخل من حماية نفسها والصمود في وجه العاصفة. المشكلة هي أن البلدان التي تُعتبر مخاطرها منخفضة بالنسبة للتدفقات الرأسمالية تفقد أيضا الاستثمار الأجنبي المباشر. وجد قوش وزميلاه أن حالات ارتفاع التدفقات التي يغلب عليها الاستثمار الأجنبي المباشر أقل احتمالا في أن تقود إلى أزمات. بل التدفقات المفاجئة للإقراض المصرفي هي التي تقوِّض الاستقرار. وما يتوافر من أدلة حول فوائد حركة رأس المال غير المقيَّدة تشير أيضا إلى أن تدفقات رأس المال الأجنبي المباشر يمكنها حفز النمو وتوزيع المخاطر بين الشركات والمستثمرين. دراسة صندوق النقد الدولي من عام 2023 أعدَّت نموذجا لأثر انقسام العالم إلى كتلتين منفصلتين للاستثمارات الأجنبية تتمركزان حول أمريكا والصين مع بقاء الهند والصين وبلدان أمريكا اللاتينية على الحياد (وبالتالي منفتحة للتدفقات الرأسمالية من كلا الجانبين). قدرت الدراسة خسارة الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحوالي 1% بعد خمس سنوات و2% في الأجل الطويل. تركز النمو المفقود في الكتلتين أما البلدان المحايدة ففي وضع يتيح لها تحقيق مكاسب. لكن النمو العالمي المتدني واحتمال إجبارها على الانضمام إلى إحدى الكتلتين قد يحول تلك المكاسب إلى خسارة. البلدان الخاسرة حقا هي المنخفضة الدخل والتي يلزمها أن تكابد أسوأ ما في العالمين القديم والجديد. فهي لافتقارها إلى معدلات الادخار المحلي وأسواق رأس المال واحتياطيات النقد الأجنبي التي تتمتع بها بلدان الدخل المتوسط تعتمد على تدفقات رأس المال الأجنبي للاستثمار. كما أنها في الوقت ذاته عُرضة لهروبه المفاجئ. ولافتقار هذا البلدان إلى الثقل الاقتصادي يمكن أيضا أن تُجبر على اختيار طرف جيوسياسي. وهذا يُحِدًّ من حصولها على التمويل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاستثمار الأجنبی المباشر رأس المال الأجنبی فی الفترة بین النقد الدولی عبر الحدود فی عام
إقرأ أيضاً:
تغير المناخ يهدد إنتاج القهوة.. هل يقدم جنوب السودان حلا؟
مع ارتفاع درجات الحرارة التي تضرب إنتاج القهوة عالميا، تبرز دولة جنوب السودان وجهة جديدة وواعدة لزراعة البن، لا سيما صنف إكسيلسا، المعروف بقدرته على تحمل الجفاف وتغير المناخ مقارنة بمحاصيل أخرى، مما يمنح المزارعين أملا بمستقبل أفضل بعد سنوات من الفقر.
واكتُشفت قهوة إكسيلسا منذ أكثر من قرن في جنوب السودان، وهي تثير اهتمام السكان الذين يعانون من ضائقة مالية، وتجذب اهتمام المجتمع الدولي وسط أزمة البن العالمية الناجمة عن تغير المناخ.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما بصمتنا الكربونية وكيف نخفف من أثرها؟list 2 of 2"عائدون إلى البلاستيك".. لماذا يلاحق ترامب المصاصات الورقية؟end of listوبينما تسعى الدول الرائدة في إنتاج البن، مثل البرازيل وكولومبيا لتجربة زراعة المحاصيل في طقس أكثر جفافا، ارتفعت أسعار القهوة إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، مع الإشارة إلى أن الصناعة تكافح لإيجاد حلول وبدائل.
وتشير التقديرات إلى أن محصول البن في البرازيل التي ضربها الجفاف، وتعد من أكبر مزارع القهوة في العالم، قد ينخفض بنحو 12% هذا العام بعد تسجيل انخفاض في الأعوام السابقة.
وتنمو شجرة إكسيلسا في جنوب السودان وعدد قليل من البلدان الأفريقية الأخرى، بما فيها الكونغو وجمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندا، كما تُزرع أيضا في الهند وإندونيسيا وفيتنام.
إعلانوتسمح جذور الشجرة العميقة وأوراقها الجلدية السميكة وجذعها الكبير بالازدهار في ظروف قاسية، مثل الجفاف والحرارة، حيث لا تستطيع أنواع القهوة الأخرى ذلك، فضلا عن أنها مقاومة للعديد من آفات وأمراض القهوة الشائعة.
لكنها رغم ذلك تشكل أقل من 1% من السوق العالمية، متأخرة كثيرا عن أنواع أرابيكا وروبوستا التي تعد أكثر أنواع القهوة استهلاكا في العالم.
ويقول الخبراء، إن إكسيلسا يجب أن تثبت أنها عملية على نطاق أوسع بكثير لسد الفجوة في السوق الناجمة عن تغير المناخ، إذ لم يعرف جنوب السودان أبدا بأنه دولة منتجة للقهوة.
فرصة للاقتصادورغم أنه يمكن لجنوب السودان أن تنتج محصولا بديلا من محاصيل القهوة التي تأثرت بشدة بفعل تغير المناخ، إلا أن سنوات الصراع في البلاد جعلت صناعة وزراعة البن متأخرة جدا.
وأكدت شركة إيكواتوريا تيك، وهي شركة زراعة غابات مستدامة تعمل في جنوب السودان -لأسوشيتد برس- أن أشجار إكسيلسا قادرة على تحمل الحرارة أفضل بكثير من الأنواع الأخرى، لكن المعلومات عنها لا تزال شحيحة لتراجع زراعتها نتيجة الحروب في السنوات الماضية.
وأوضحت الشركة أنها تعمل مع المجتمعات المحلية لإحياء صناعة القهوة وزيادة الإنتاج، بما يشمل تقديم الشتلات والدورات التدريبية للمزارعين الذين يعني لهم ذلك فرصة انتشالهم من الفقر.
وبدأت العديد من الأشجار في إنتاج البن لأول مرة هذا العام، وتأمل الشركة في تصدير الدفعة الأولى التي تبلغ نحو 7 أطنان إلى المتاجر المتخصصة في أوروبا، وفق الشركة.
وبحلول عام 2027، يمكن أن تضخ إكسيلسا نحو 2 مليون دولار في اقتصاد جنوب السودان، مع اهتمام المشترين الكبار مثل نسبرسو بها.
لكن الإنتاج يحتاج إلى مضاعفته 3 مرات حتى يكون الأمر يستحق الاستثمار من قبل المشترين الكبار، كما قالت شركة إيكواتوريا تيك.
كما أن الافتقار إلى البنية التحتية وانعدام الأمن في جنوب السودان يجعل من الصعب تصدير القهوة التي تمثل للمزارعين فرصة كبيرة.
إعلانإذ يجب أن تقطع شاحنة واحدة محملة بـ 30 طنا من القهوة نحو 3 آلاف كيلومتر من جنوب السودان للوصول إلى الميناء في كينيا لشحنها.
وتبلغ تكلفة المرحلة الأولى من تلك الرحلة، عبر أوغندا، أكثر من 7500 دولار، وهو ما يصل إلى خمسة أضعاف التكلفة في الدول المجاورة.
فعلى الرغم من اتفاق السلام في عام 2018 الذي أنهى حربا أهلية استمرت 5 سنوات، إلا أن القتال لا يزال متواصلا في بعض الأماكن بالبلاد، منها التي تُزرع بها أشجار إكسيلسا.
وقالت وزيرة الزراعة والغابات والبيئة في جنوب السودان أليسون برنابا -لأسوشيتد برس- إن الحكومة وضعت خططا لإعادة تأهيل مزارع البن القديمة وبناء مدرسة زراعية، لكنها لا تعلم من أين يمكن أن تمول ذلك، إذ لم تدفع جنوب السودان رواتب موظفيها المدنيين منذ أكثر من عام.
كما أن زراعة البن ليست أمرا سهلا دائما. إذ يتعين على المزارعين التعامل مع الحرائق التي تنتشر بسرعة في موسم الجفاف وتدمر محاصيلهم، لا سيما أن الصيادين يستخدمون الحرائق لتخويف الحيوانات ويستخدمها السكان لتطهير الأراضي للزراعة أيضا، في ظل انعدام محاسبة المتسببين بالحرائق.
ورغم الصعوبات التي تواجه زراعة البن في جنوب السودان، يرى السكان إكسيلسا فرصة لمستقبل أفضل.
ويرى سكان جنوب السودان -وفق مقابلات أجرتها أسوشيتد برس- أن أشجار البن هي فرصة للمجتمع ليصبح أكثر استقلالية ماليا، في ظل اعتماد الناس على الحكومة أو المساعدات الأجنبية التي يعني غيابها عدم القدرة على توفير حاجيات الأسر.
ولكي تزدهر القهوة في جنوب السودان، يقول السكان، إنه يجب أن تكون هناك عقلية طويلة الأجل، وهذا يتطلب الاستقرار.