الجزيرة:
2024-07-04@00:11:09 GMT

التاريخ الجديد.. رحلة البحث عن هوية علمية مشتركة

تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT

التاريخ الجديد.. رحلة البحث عن هوية علمية مشتركة

شهد مجال الكتابة التاريخية تحولا كبيرا إبان القرن الـ20، لأن الدور الذي لعبته مدرسة الحوليات (الأنال) بدا بارزا على مستوى اختيار الموضوعات الجديدة بعدما انفتحت الكتابة التاريخية على قضايا لم يكن مُفكَّر فيها داخل البحث التاريخي.

وبيّن أن هذا التحول سبقته اجتهادات ظلت في عمومها تقليدية مع المدرسة المنهجية أو الوضعية مع كل من لانغوا وسينيوبوس، وهو تحول كان ضروريا في وقت وجد فيه التأليف التاريخي نفسه يعيد اجترار الموضوعات والقضايا والإشكالات، وبالتالي كان ضروريا من هذا التجديد الذي لم يبق حبيس الجوانب المنهجية، بل طال حتى أسلوب الكتابة التاريخية في شكلها المعاصر.

بهذه الطريقة تم التخلي عن التاريخ السياسي للأحداث وفترات حكم السلاطين وبلاطاتهم صوب الاهتمام بالتاريخ المنسي الذي يرصد سير المهمشين في علاقتهم بالمجتمع.

وقد أتاحت هذه الطريقة في النظر إلى مفهوم التاريخ بطريقة مختلفة خروج المؤرخ من قلاعه القديمة والاهتمام بمجالات ذات صلة بعلم التاريخ مثل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.

هكذا تم الانفتاح على مجالات العلوم الاجتماعية بعدما ظل التاريخ مقتصرا على المعارف الإنسانية، ويعد الانفتاح ثمرة تفكير عميق وجدل أصيل اختمر في رحاب مختبر كتابات مدرس الحوليات.

ثورة مدرسة "الحوليات"

لقد ثارت الحوليات مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك في إطار مع سمي "التاريخ الجديد" الذي سيبلور ملامحه لاحقا المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل، فقد استطاع هذا الأخير عبر أطروحته الشهيرة "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني" بلورة تصور جديد للتاريخ يخضع الأحداث إلى ما سماها "المدة الطويلة"، أي أن الحدث التاريخي لا يمكن النظر إليه في آنيته، بل من خلال تدرجه وتجذره في مفهوم الزمن، وهي طريقة مختلفة في تأمل براديغم التاريخ، بحيث قادته إلى فهم السحر الكبير الذي ظل يميز البحر الأبيض المتوسط عبر تاريخه الطويل.

لكن المثير للدهشة هو أنه على الرغم من إيمان المؤرخين العرب بقدرة هذه المدرسة الفكرية في القبض على مفهوم التاريخ فإنهم ظلوا يتعاملون معه بشكل انتقائي يجعلهم متقوقعين حول التاريخ السياسي ونظيره الاجتماعي.

كل هذا في وقت أهملوا فيه أشكالا أخرى من التاريخ مثل الجسد والصورة واللوحة والسينما والفوتوغرافيا، إذ رغم الإمكانات التأريخية التي تحبل بها هذه الوسائط البصرية فإنه لم يتم استغلالها بالقدر الكافي لهذا الغرض، وذلك أن الفنون العربية قادرة على أن تغدو وثيقة تاريخية تسعف المؤرخ على كتابة التاريخ جديد.

يرى المؤرخ الفرنسي مارك فيرو أن السينما تمتلك من القدرة ما يجعلها تلعب دورا تأريخيا، إذ تمتلك إمكانات تجعلها بمثابة وثيقة بصرية.

ويقول فيرو في كتابه "السينما والتاريخ" إنه "يجب ألا ينظر إلى الفيلم بوصفه عملا إبداعيا، ولكن بوصفه منتوجا وصورة موضوعية ليست لها معان سينماتوغرافية وحسب"، وهذا الأمر يجعل السينما تنتقل من كونها ممارسة فنية على اعتبارها إنتاجا علميا قادرا على إنتاج أنماط مختلفة من المعرفة.

كتاب "السينما والتاريخ" من ترجمة سحر يوسف (الجزيرة) توسيع مفهوم الوثيقة

لم تعد الوثيقة (الشاهدة) مجرد وثيقة مادية بقدر ما غدت وثيقة مشرعة في وجه وثائق أخرى من المسكوكات (علم النقود) والكتابات المنقوشة والحلي واللوحة والفيلم والأدب التاريخي، مما جعل الكتابة التاريخية تتطور من تلقاء نفسها وتصبح سيدة نفسها، لا من ناحية استقلالها ولكن في اشتباكها الكلي مع العلوم الاجتماعية الأخرى.

إن توسيع الوثيقة التاريخية قاد العديد من الباحثين إلى التخلي تدريجيا عن الأحداث السياسية والعسكرية بعدما تم الانفتاح على قضايا ذات صلة بالمجتمعات، مثل الذهنيات والتغذية والمهمشين والصنائع، وهي جملة قضايا ظلت مهمشة لدى المدرسة الوضعية، بحيث إن الاقتصار على الوثيقة بمفهومها المادي جعل المؤرخ طوال قرون يهمش نواحي أخرى تتصل بالتاريخ الاقتصادي وغيره.

يقول المؤرخ المغربي محمد حبيدة "تم إخراج التاريخ من انغلاقه التخصصي وفتحه على تساؤلات وقضايا جديدة، وذلك من جهة عن طريق توسيع دائرة المصادر، بالاعتماد ليس فقط على الوثائق المكتوبة، بل أيضا على المخلفات المادية والرواية الشفهية، ومن جهة أخرى بواسطة الاحتكام بالعلوم الاجتماعية واستيعاب مناهجها وتتبع نتائجها من اقتصاد وسوسيولوجيا وجغرفيا وسيكولوجيا ولسانيات".

كتاب "المدارس التاريخية" لمحمد حبيدة (الجزيرة)

تمثل مجلة الحويات -التي بزغ نجمها سنة 1929 تحت عنوان "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" بإشراف هيئة مكونة من مارك بلوك ولوسيان فيبر رئيسا للتحرير، فضلا عن ثلة من الكتاب والباحثين الذين ينتمون إلى تخصصات متعددة كالجغرافيا وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها من العلوم- أفقا طلائعيا في تقدم وتطور الكتابة التاريخية وتوسيع حقل التاريخ نحو مقاربات مختلفة كدراسة المشاهد الجغرافية وحركات السكان داخل القبائل والعادات والتقاليد، فقد ساهمت إلى حد كبير في تقلص وشح الدراسات التاريخية للمجال السياسي بأحداثه ومعاركه والاستطراد في ذكر الملوك والأمراء الذين خاضوا هذه المعارك.

وبالتالي، تكون مدرسة الحوليات تؤسس لنفسها وجهة جديدة داخل البحث التاريخي، وجهة ستبوئها مكانة محترمة في العالم محاولة وضع قطيعة إبستمولوجية مع المدرسة المنهجية أو الوضعية التي تقدس مفهوم الوثيقة فأصيبت بحمة التاريخ السياسي وتمجيد الأبطال، عكس مدرسة الحوليات التي اعتبرت أن التاريخ مجرد إعادة التفكير في الماضي بغية تفكيكه وبنائه وليس إحياء ماضويا له، أي بناء مختلف التصورات والسلوكات البشرية لهدف يتيم وهو فهم الحاضر.

مثلت مدرسة الحوليات ثورة معرفية ومنهجية حقيقية وتحولا عميقا في تطور الكتابة التاريخية وعبورها إلى الأنثروبولوجيا، وهو ما أدى إلى بروز إشكالات جديدة ككتابة تاريخ الشعوب وظهور مقاربات ومواضيع جديدة ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة العربية كاللاشعور والجسد والصورة والمتخيل والألم، وغيرها من الموضوعات التي أصبحت اليوم تشكل لبنة أساسية في فهم ذواتنا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الکتابة التاریخیة

إقرأ أيضاً:

أمراض المهنة.. الكتابة تسبب أمراض العمود الفقري

هل تصدق أن المصريين القدماء عانوا من الإصابات في مكان العمل؟ نعم .. كشف بحث جديد أن الكتبة عانوا من مشاكل في الفخذين والعمود الفقري والكتف بسبب الجلوس متربعين مع ثني رؤوسهم للأمام لساعات طويلة، بما في ذلك تشوه الركبتين، وفقاً لما نشرته صحيفة” metro” البريطانية.

قام باحثون بفحص هياكل عظمية  لذكور عمرها 4000 عام للتحقيق في المخاطر المهنية للمهام المتكررة التي يقوم بها الرجال ذوو المكانة العالية والذين يستطيعون الكتابة وأداء المهام الإدارية.

ويبدو أن الأوضاع التي جلس فيها الرجال أثناء العمل ربما أدت إلى تغيرات تنكسية في الهيكل العظمي، بما في ذلك الفجوات في كلا الرضفتين والسطح المسطح على العظم في الجزء السفلي من الكاحل الأيمن.

فحصت رئيسة الدراسة الدكتورة بيترا بروكنر هافيلكوفا وزملاؤها ،بقايا الهياكل العظمية لـ 69 رجلاً بالغاً، 30 منهم كانوا كتبة، مدفونين في مقبرة أبوصير بمصر، بين 2700 قبل الميلاد و2180 قبل الميلاد.

وكشفت نتائجهم، التي نشرت في مجلة “ساينتفيك ريبورتس”، عن تغيرات تنكسية في المفاصل كانت أكثر شيوعا بين الكتبة مقارنة بالرجال الذين يمارسون مهن أخرى.

وقالت الدكتورة هافيلكوفا، موضحة مكان التغيرات التنكسية في المفاصل: “كانت هذه في المفاصل التي تربط الفك السفلي بالجمجمة، وعظمة الترقوة اليمنى، والجزء العلوي من عظم العضد الأيمن حيث يلتقي بالكتف، وأول عظم مشط في الإبهام الأيمن، أسفل الفخذ حيث يلتقي بالركبة، وفي جميع أنحاء العمود الفقري، ولكن بشكل خاص في الأعلى.

وحدد فريق البحث أيضًا التغيرات العظمية التي يمكن أن تشير إلى الإجهاد البدني الناجم عن الاستخدام المتكرر في عظم العضد وعظم الفخذ الأيسر، والتي كانت أكثر شيوعًا بين الكتبة مقارنة بالرجال الذين لديهم مهن أخرى.

وقالت الدكتورة هافيلكوفا، من جامعة تشارلز بجمهورية التشيك: “السمات الهيكلية الأخرى التي كانت أكثر شيوعًا بين الكتبة كانت عبارة عن مسافة بادئة في كل من الرضفة وسطح مسطح على عظمة في الجزء السفلي من الكاحل الأيمن”.

اقرأ أيضاًتقاريرعقبة شعار.. أثرٌ سياحيّ كبيرٌ في قلب جبال عسير

يقترح الباحثون أن التغيرات التنكسية التي لوحظت في العمود الفقري وأكتاف الكتبة يمكن أن تنتج عن جلوسهم لفترات طويلة في وضع القرفصاء مع انحناء الرأس للأمام، وثني العمود الفقري، وأذرعهم غير مدعومة.

وقالت إن “التغييرات في الركبتين والفخذين والكاحلين قد تشير إلى أن الكتبة ربما فضلوا الجلوس مع الساق اليسرى في وضع الركوع أو القرفصاء والساق اليمنى مثنية مع توجيه الركبة إلى الأعلى في وضع القرفصاء أو الانحناء”.

قال الفريق إن التماثيل والزخارف الجدارية في المقابر تصور الكتبة جالسين في كلا الوضعين، وكذلك واقفين أثناء العمل.

توفر النتائج نظرة ثاقبة أكبر لحياة الكتبة في مصر القديمة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد.

مقالات مشابهة

  • ملفات طارئة تنتظر وزير الزراعة الجديد
  • تحت الأرض أو فوقها.. تفاصيل رحلة البحث عن يحيى السنوار
  • المرتضى رعى مسابقة مشروع استرداد بوابة طرابلس في نقابة المهندسين
  • النائب حازم الجندي: المصريون يعولون آمالهم على التشكيل الجديد للحكومة في مواجهة التحديات والأزمات الراهنة
  • «الأوقاف» تعقد 500 ندوة علمية عن الهجرة النبوية عقب صلاة العشاء الليلة
  • رحلة جديدة للموهوبين السعوديين إلى العالمية
  • أمراض المهنة.. الكتابة تسبب أمراض العمود الفقري
  • الأوقاف تستقبل العام الهجري الجديد بأكثر من 500 ندوة علمية وختمة قرآنية
  • الأوقاف: أكثر من 500 ندوة علمية وختمة قرآنية نستقبل العام الهجري الجديد
  • صنعاء تحل لغز أحد أهم جرائم الاغتيالات السياسية عبر التاريخ وأصابع الاتهام تشير إلى واشنطن