الجزيرة:
2025-03-05@18:08:03 GMT

التاريخ الجديد.. رحلة البحث عن هوية علمية مشتركة

تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT

التاريخ الجديد.. رحلة البحث عن هوية علمية مشتركة

شهد مجال الكتابة التاريخية تحولا كبيرا إبان القرن الـ20، لأن الدور الذي لعبته مدرسة الحوليات (الأنال) بدا بارزا على مستوى اختيار الموضوعات الجديدة بعدما انفتحت الكتابة التاريخية على قضايا لم يكن مُفكَّر فيها داخل البحث التاريخي.

وبيّن أن هذا التحول سبقته اجتهادات ظلت في عمومها تقليدية مع المدرسة المنهجية أو الوضعية مع كل من لانغوا وسينيوبوس، وهو تحول كان ضروريا في وقت وجد فيه التأليف التاريخي نفسه يعيد اجترار الموضوعات والقضايا والإشكالات، وبالتالي كان ضروريا من هذا التجديد الذي لم يبق حبيس الجوانب المنهجية، بل طال حتى أسلوب الكتابة التاريخية في شكلها المعاصر.

بهذه الطريقة تم التخلي عن التاريخ السياسي للأحداث وفترات حكم السلاطين وبلاطاتهم صوب الاهتمام بالتاريخ المنسي الذي يرصد سير المهمشين في علاقتهم بالمجتمع.

وقد أتاحت هذه الطريقة في النظر إلى مفهوم التاريخ بطريقة مختلفة خروج المؤرخ من قلاعه القديمة والاهتمام بمجالات ذات صلة بعلم التاريخ مثل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.

هكذا تم الانفتاح على مجالات العلوم الاجتماعية بعدما ظل التاريخ مقتصرا على المعارف الإنسانية، ويعد الانفتاح ثمرة تفكير عميق وجدل أصيل اختمر في رحاب مختبر كتابات مدرس الحوليات.

ثورة مدرسة "الحوليات"

لقد ثارت الحوليات مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك في إطار مع سمي "التاريخ الجديد" الذي سيبلور ملامحه لاحقا المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل، فقد استطاع هذا الأخير عبر أطروحته الشهيرة "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني" بلورة تصور جديد للتاريخ يخضع الأحداث إلى ما سماها "المدة الطويلة"، أي أن الحدث التاريخي لا يمكن النظر إليه في آنيته، بل من خلال تدرجه وتجذره في مفهوم الزمن، وهي طريقة مختلفة في تأمل براديغم التاريخ، بحيث قادته إلى فهم السحر الكبير الذي ظل يميز البحر الأبيض المتوسط عبر تاريخه الطويل.

لكن المثير للدهشة هو أنه على الرغم من إيمان المؤرخين العرب بقدرة هذه المدرسة الفكرية في القبض على مفهوم التاريخ فإنهم ظلوا يتعاملون معه بشكل انتقائي يجعلهم متقوقعين حول التاريخ السياسي ونظيره الاجتماعي.

كل هذا في وقت أهملوا فيه أشكالا أخرى من التاريخ مثل الجسد والصورة واللوحة والسينما والفوتوغرافيا، إذ رغم الإمكانات التأريخية التي تحبل بها هذه الوسائط البصرية فإنه لم يتم استغلالها بالقدر الكافي لهذا الغرض، وذلك أن الفنون العربية قادرة على أن تغدو وثيقة تاريخية تسعف المؤرخ على كتابة التاريخ جديد.

يرى المؤرخ الفرنسي مارك فيرو أن السينما تمتلك من القدرة ما يجعلها تلعب دورا تأريخيا، إذ تمتلك إمكانات تجعلها بمثابة وثيقة بصرية.

ويقول فيرو في كتابه "السينما والتاريخ" إنه "يجب ألا ينظر إلى الفيلم بوصفه عملا إبداعيا، ولكن بوصفه منتوجا وصورة موضوعية ليست لها معان سينماتوغرافية وحسب"، وهذا الأمر يجعل السينما تنتقل من كونها ممارسة فنية على اعتبارها إنتاجا علميا قادرا على إنتاج أنماط مختلفة من المعرفة.

كتاب "السينما والتاريخ" من ترجمة سحر يوسف (الجزيرة) توسيع مفهوم الوثيقة

لم تعد الوثيقة (الشاهدة) مجرد وثيقة مادية بقدر ما غدت وثيقة مشرعة في وجه وثائق أخرى من المسكوكات (علم النقود) والكتابات المنقوشة والحلي واللوحة والفيلم والأدب التاريخي، مما جعل الكتابة التاريخية تتطور من تلقاء نفسها وتصبح سيدة نفسها، لا من ناحية استقلالها ولكن في اشتباكها الكلي مع العلوم الاجتماعية الأخرى.

إن توسيع الوثيقة التاريخية قاد العديد من الباحثين إلى التخلي تدريجيا عن الأحداث السياسية والعسكرية بعدما تم الانفتاح على قضايا ذات صلة بالمجتمعات، مثل الذهنيات والتغذية والمهمشين والصنائع، وهي جملة قضايا ظلت مهمشة لدى المدرسة الوضعية، بحيث إن الاقتصار على الوثيقة بمفهومها المادي جعل المؤرخ طوال قرون يهمش نواحي أخرى تتصل بالتاريخ الاقتصادي وغيره.

يقول المؤرخ المغربي محمد حبيدة "تم إخراج التاريخ من انغلاقه التخصصي وفتحه على تساؤلات وقضايا جديدة، وذلك من جهة عن طريق توسيع دائرة المصادر، بالاعتماد ليس فقط على الوثائق المكتوبة، بل أيضا على المخلفات المادية والرواية الشفهية، ومن جهة أخرى بواسطة الاحتكام بالعلوم الاجتماعية واستيعاب مناهجها وتتبع نتائجها من اقتصاد وسوسيولوجيا وجغرفيا وسيكولوجيا ولسانيات".

كتاب "المدارس التاريخية" لمحمد حبيدة (الجزيرة)

تمثل مجلة الحويات -التي بزغ نجمها سنة 1929 تحت عنوان "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" بإشراف هيئة مكونة من مارك بلوك ولوسيان فيبر رئيسا للتحرير، فضلا عن ثلة من الكتاب والباحثين الذين ينتمون إلى تخصصات متعددة كالجغرافيا وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها من العلوم- أفقا طلائعيا في تقدم وتطور الكتابة التاريخية وتوسيع حقل التاريخ نحو مقاربات مختلفة كدراسة المشاهد الجغرافية وحركات السكان داخل القبائل والعادات والتقاليد، فقد ساهمت إلى حد كبير في تقلص وشح الدراسات التاريخية للمجال السياسي بأحداثه ومعاركه والاستطراد في ذكر الملوك والأمراء الذين خاضوا هذه المعارك.

وبالتالي، تكون مدرسة الحوليات تؤسس لنفسها وجهة جديدة داخل البحث التاريخي، وجهة ستبوئها مكانة محترمة في العالم محاولة وضع قطيعة إبستمولوجية مع المدرسة المنهجية أو الوضعية التي تقدس مفهوم الوثيقة فأصيبت بحمة التاريخ السياسي وتمجيد الأبطال، عكس مدرسة الحوليات التي اعتبرت أن التاريخ مجرد إعادة التفكير في الماضي بغية تفكيكه وبنائه وليس إحياء ماضويا له، أي بناء مختلف التصورات والسلوكات البشرية لهدف يتيم وهو فهم الحاضر.

مثلت مدرسة الحوليات ثورة معرفية ومنهجية حقيقية وتحولا عميقا في تطور الكتابة التاريخية وعبورها إلى الأنثروبولوجيا، وهو ما أدى إلى بروز إشكالات جديدة ككتابة تاريخ الشعوب وظهور مقاربات ومواضيع جديدة ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة العربية كاللاشعور والجسد والصورة والمتخيل والألم، وغيرها من الموضوعات التي أصبحت اليوم تشكل لبنة أساسية في فهم ذواتنا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الکتابة التاریخیة

إقرأ أيضاً:

بريطانيا: خطة عمل مشتركة مع فرنسا لإنهاء الحرب في أوكرانيا

لندن (وكالات، الاتحاد)

أخبار ذات صلة ماكرون وستارمر يقدمان اقتراحا بشأن أزمة أوكرانيا ستارمر يوجه نداء إلى أوروبا بشأن أوكرانيا

أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أمس، اتفاقه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على العمل مع أوكرانيا لوضع خطة عمل مشتركة لإنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية بتنسيق مع الإدارة الأميركية. 
وقال ستارمر في تصريح صحفي قبل ترؤسه مؤتمراً أمنياً مع عدد من القادة الأوروبيين، إنه يتم النظر في إمكانية إشراك دولة أو دولتين أخريين في المساعي (البريطانية - الفرنسية) لإيقاف الحرب بين أوكرانيا وروسيا قبل تقديم المقترحات الأخيرة للولايات المتحدة. 
وأكد رغبة أوكرانيا ورئيسها فلودومير زيلينسكي بتحقيق اتفاق سلام دائم يصمد دون خرق مستقبلي من الجانب الروسي. 
وأوضح ستارمر أن «هناك ثلاث نقاط يجب أن يتضمنها أي سلام دائم هي أن تكون أوكرانيا قوية وقادرة على القتال إضافة إلى وضع آليات أمنية أوروبية ومن ورائها ضمانات أميركية». 
ورداً على سؤال بشأن «اللقاء العاصف» بين الرئيسين الأميركي والأوكراني في البيت الأبيض قبل يومين، ذكر ستارمر أنه شعر بعدم الراحة عند مشاهدة ذلك اللقاء، لافتاً إلى قراره الشخصي بالاتصال في الرئيسين لتهدئة الوضع والمسارعة لإيجاد حلول عوضاً عن الدخول في تصريحات قد تشحن الأجواء أكثر. 
وشدد رئيس الوزراء البريطاني على أن الرئيس ترامب يريد سلاماً دائماً في أوكرانيا، ويمكن الوثوق به، قائلاً: «لقد قال بوضوح إنه سيقف إلى جانبنا». 
وأضاف: «يتعين على الدول الأوروبية أن تبذل المزيد من الجهد، وتوفر ضماناً أمنياً، وهذا ما أناقشه مع الرئيس ماكرون وآخرين، لكنني كنت دائماً واضحاً في أن هذا سيحتاج إلى دعم أميركي».
وكشف ستارمر أن بريطانيا والولايات المتحدة، تناقشان الطرق التي يمكن أن يساعد بها ترامب في تأمين أي اتفاق سلام، وذلك في الوقت الذي يعتبر فيه الرئيس الأميركي أن ذلك مسؤولية الدول الأوروبية.
وقال: «الكثير من الناس يحثونني على الاختيار بين الولايات المتحدة من ناحية والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وهذا اختيار خاطئ كدولة لم نفعل ذلك أبداً، وكحزب العمال لم نفعل ذلك أبداً، ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك الآن». 
وأضاف: «لدينا علاقة خاصة مع الولايات المتحدة، وعلاقة قوية مع أوروبا، ونحن بحاجة إلى الحفاظ على كليهما».
وفي سياق متصل، قال مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض مايك والتس أمس، إن الولايات المتحدة بحاجة إلى رئيس أوكراني على استعداد للتوصل إلى سلام دائم مع روسيا، لكن ليس من الواضح ما إذا كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مستعداً لذلك.
 وبعد يومين من مشادة مثيرة للجدل في المكتب البيضاوي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه الرئيس جيه دي فانس وبين وزيلينسكي، قال والتس، إن واشنطن تريد التوصل إلى سلام دائم بين موسكو وكييف يتضمن تنازلات عن أراض في مقابل ضمانات أمنية بقيادة أوروبا.
وعندما سئل في لقاء صحفي عما إذا كان ترامب يريد استقالة زيلينسكي، قال والتس «نحن بحاجة إلى زعيم يمكنه التعامل معنا، والتعامل في النهاية مع الروس وإنهاء هذه الحرب».

مقالات مشابهة

  • رمضان.. رحلة البحث عن الذات
  • عبق التاريخ وطعم الحاضر.. رحلة يرسم خارطة حسية لبورصة العثمانية
  • "الوصية" رحلة وثائقية في أعماق التاريخ لكشف لغز تسجيلات صوت السماء الشيخ رفعت
  • طالبة تتخرج في مدرسة ثانوية أميركية بامتياز ولا تستطيع القراءة أو الكتابة
  • التاريخ هو ما يحدث اليوم.. مراد مرادي وتحديات المؤرخ بملف الكورد الفيليين
  • خلفًا لسلام.. إليكم هوية رئيس محكمة العدل الدولية الجديد
  • تعليم الوادي الجديد يحقق المركز الخامس جمهوريًا في مسابقة الاقتصاد المنزلي
  • بريطانيا: خطة عمل مشتركة مع فرنسا لإنهاء الحرب في أوكرانيا
  • 3000 ورقة علمية نشرتها «جامعة الإمارات» في قاعدة البيانات العالمية
  • منح ماجستير ودكتوراة تقدمها أكاديمية البحث العلمي من خلال برنامجها الجديد خطوة بخطوة